عَرَّفَ الفيلسوف آلان دو بوتون المكانة العالية بقوله:
هي وفرة الموارد، والرحابة والراحة، وربما ما لا يقل أهمية، إحساس المرء بأنه موضع اهتمام وتقدير وهو ما يتم عبر تلقي الدعوات للمناسبات الاجتماعية والإطراء والضحك (حتى لو كانت النكتة سخيفة).
وأضيف على ذلك هو كل ما يشبه تصفح مجلة «أبيقوريان لايف» المهتمة بحياة البذخ والفنادق واليخوت والمطاعم، والحاشية والمواكب والأساطيل. والمجلة بالطبع تُنسب لاسم الفيلسوف أبيقور عاشق اللذة والترف. وقد تجد كل هذه الصور في مسلسل «الخِلافة» دون أن تشعر بها، فقشورية المظاهر النعيمية تظهر فيه كوسائل تيسير ونمط حياة ضجر لا يثير الدهشة، فصراع السلطة يشعرك بهامشية الماديات. فمن الحلقة الأولى تدرك تبعات النجاح الذي يصبح شيئًا فشيئًا وبالاً على عائلة «روي» حيث أن الوهم تنقضه التجربة الفاشلة المدفوعة بقوة الثروة، والمسيرة الناجحة لعائلة تستبشر بكل خطوة ولا تؤمن بالعقبات، فالفكرة بشركة «وايستار رويكو» الاستحواذية والتي تضم تحتها عدة شركات، بعضها بغرض السيطرة على الرأي العام، كالمحطات التلفزيونية الإخبارية، وبعضها لمجرد القدرة على الاستحواذ على منافس، كسلوك رأسمالي أنتقل بصورة معدية لأفراد عائلة «روي». حتى يدرك لاحقًا بأن هناك عواقب وعراقيل تبدد وهم القدرة الشرائية والقوة المالية.
وبعد مضي عدة حلقات ستسقط كمشاهد على شخصية الأب «لوغان روي» والذي قد تصفه بقطب الإعلام الفاحش الثراء، أو القرش الأبجر الأبيض، أو الرجل الذي حفر النجاح تعاريجه بوضوح على وجهه، أو المتلاعب بالاقتصاد والسياسة، بعض القادة العمالقة عبر التاريخ الأمريكي، كروزفلت وكينيدي مثلاً، ولا أقصد بذلك ما صَرَّحَ به بعض علماء الطب النفسي عن كونهما يتمتعان بفرط المزاج، كتفسير تأويلي حيال كثرة العلاقات وارتفاع منسوب الطاقة الجنسية لديهما مقارنة بغيرهما من الرؤساء. على الرغم من اشتراك لوغان معهما بهذه السِمَة. بل أقصد القيادة، فقد تسلَّمَ الأول القيادة في عز حرجها وهو مصاب بشلل الأطفال دون ذكر إصابته بضغط الدم المرتفع وتصلب الشرايين. والذي توفي وهو يراجع أوراقه السياسية بسبب الجلطة الدماغية -كالتي أصابت لوغان- التي ألمت به. كما أن دعم لوغان المستمر للرؤساء بغرض تسخيرهم لتوجهاته مستغلاً نفوذه، أقرب لحكاية نُسِبتْ لروزفلت حين وصف ديكتاتورًا في نيكاراجوا بأنه «ابن عاهرة، لكن ابن العاهرة هذا يتبعنا نحن».
وكذلك الآخر «جون كينيدي» والذي كان مصابًا بعدة أسقام كمرض أديسون وغيره، وأعتقد أن تشبيه لعنة عائلة «كينيدي» بلعنة عائلة «روي» في الحلقة الثامنة من الموسم الثالث، لم يكن بمحض الصدفة، لاسيما فيما يتعلق بالفضائح الجنسية، والاغتيالات، وسوء الحظ. فقد قرأت مرة بأن ما كان يعاني منه جون كينيدي لم يكن يتعلق بمرض عضوي حاد بقدر ما كان يتعلق بقلق عاطفي أثَّرَ في أحشائه، وهذا يفسر ما حصل للوغان عندما رفض أبناؤه الإقرار على توريث زوجته مكانة في الشركة بعد وفاته. كان «لوغان» وعلى الرغم من قدرة الأبناء على الوقوف أمام وجهه أحيانًا، كالإبريق الذي يرفع نفسه، ويقد ذاته دون حاجة إلى الأثافي، والأثافي هي الأحجار الثلاثة التي تضع تحته أو تحت القدر، وهذا تشبيه متواضع لأبنائه الطامعين بمنصبه بحجة حمل الثقل عنه، وأقصد الطموحَين كيندال ورومان وابنته شيف روي. الثلاثة الذين عجزوا عن حجب الثقة عن والدهم، حين أصيب بجلطة دماغية، بعد أن تولى كبيرهم كيندال المنصب كرئيس تنفيذي بالإنابة قائدًا حملته التجديدية. بعد أن أدرك الديون الطائلة، تحت ذريعة تاريخ الشركة الشائن، كغض بصرها عن النساء اللواتي تعرضن لتحرشات جنسية، على متن رحلات إحدى شركاتهم السياحية البحرية، وذلك قبل أن يتسلم مكانة بالشركة. إلا أن الأخير خسر معركته أمام والده، حيث نلاحظ لاحقًا بأن تزاحم الأخوة على السلطة، قد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة القرابة. فالمكائد تتصاعد وتيرتها، كلما رُشّحَ أحدهم ليحل مكان والده، فكما يقول ديڤيد هيوم في رسالة الطبيعة البشرية:
«لا يتولد الحسد عن التباين الشديد بيننا وبين الآخرين، بل على العكس، الحسد وليد التقارب، إن أي جندي عادي لن يحمل حسدًا نحو قائده الجنرال مقارنة بما سوف يشعر به نحو رقيبه المباشر أو زميله العريف، كما أن الكاتب عالي المكانة لن يجد نفسه موضع غيرة الكتّاب التافهين المبتذلين، بقدر ما سيلقى الغيرة في صدور مؤلفين أقرب إلى مكانته، إن التباين العظيم يقطع الصلات، وهكذا فإما أن يثنينا عن مقارنة أنفسنا بما هو بعيد عنا غاية البعد، أو أنه يقلل آثار المقارنة».
تتأرجح الصراعات الأخوية ما بين شد وجذب، فتارة تظهر بصورة تحالف ضد الغريب وتارة بصورة تنافس ضد بعضهم البعض لكسب الاحترام المستمد من جمع المال، وليس المتراكم الذي يكفي أجيالاً وأجيالاً. حيث يتذبذب المشاهد في اختياره للوريث المناسب في كل ظرف وحدث. فالقيادات وكما نعلم تختلف باختلاف السياقات، والزعيم غير الضليع قد ينجح في الأوقات العادية، ولكنه يفشل في فترة الأزمات، وهذا ما لمسناه في كُلٍ من كيندال المجدد، ورومان المحتال الذي يبرع في تحويل الحقائق إلى نكتة. وشيف الدبلوماسية التي لا ترضى بخطة واحدة. كما أن التنافس على السلطة كان ينعكس وبرأيي على المعتقدات الأخروية أو الإنكارية التي تؤمن بها العائلة بدءًا من الأب «لوغان» الذي كان يشكك كثيرًا بوجود حياة بعد الموت لا سيما بعد وعكته الأولى، وكأن النعيم الذي يعتقد به الأغلبية فكرة صبيانية. وهذا يفسر شيئًا من أنانيته، فكلما انحسر أو تلاشى الإيمان بوجود عالم آخر بعد الموت ازدادت مخاطر التطلعات الدنيوية أكثر، وازداد هوس ترسيخ البصمة التي يود المرء أن يبقي عليها لوقتٍ أطول. فمن يؤمن بأن ما يحدث في هذه الحياة ليس سوى ومضة للوجود الأبدي سيتنازل عن غطرسته وازدرائه، وسيكرس ما تبقى من حياته لتعويض المساوئ المقترفة باسم الرأسمالية التي ساهم بترسيخها «لوغان» بطرق غير شرعية على حساب الإنسانية. فلذلك كان لسان حاله يردد قول الشاعر الجاهلي:
حَيَاة ٌ ثُـمَّ مَـوْتٌ ثُـمَّ بَعْثٌ
حديثُ خرافة يا أمَّ عمرو.
أما على صعيد الشخصيات غير المركزية والمساعدة في تطوير الأحداث، نجد بأن الحلم الأمريكي يتجسد بها، وأقصد بذلك «توم» زوج الابنة «شيف روي» وقريب العائلة «غريغوري». فقد كانا يجسدان الحلم الأمريكي في التطلعات العالية بشخصيتهما الملوثتين بالوصولية المتطفلة على عالم الطبقة الأرستقراطية. والأدوار المهنية لكليهما كانت نوعًا ما متشابهة في المبالغة حيال المساعي الخدمية والتنازل عن المبادئ الأخلاقية طمعًا للمنزلة غير المستحيلة، في محاولة مستميتة لفرض فرص المساواة المؤدية للمكانة العليا التي تتطلب الذوبان في حوامض الفضائح التاريخية.
وعلى الرغم من أن هذا الحديث كتب قبل الحلقة الأخيرة، إلا أن انطباعي لم، ولن يكن متعلقًا بما تخبئه الأحداث بقدر دهشتي من البناء المستمر للشخصيات. فالحماسة بالعمل حبيسة لأسوأ منطقة مستعبدة للإنسان، تسكن عقر دار الرأسمالية، حيث المكاتب المصنوعة من خشب الزان، وطاولات الشاي الرخامية، والأرائك الجلدية، والمعاطف الرمادية، والأحذية اللامعة التي يتصاعد نقير كعبها بالقرب من كرسي «الخلافة».