توطئة
لربّما يكون خير مدخل للفيلم و هذه القراءة أن تُبتدر بقول صانعته «كورالي فارغيت» عنه: "لقد كان عنف الأفكار رهيباً على ذاتي فكان لا بدَّ من فعل أمر ما بشأنها و إلَّا كانت ستدمرني و تسحقني".
و عليه فإن هذه القراءة تقترح مفهوماً يستأنس بهذا التصريح تجاه العمل؛ إلا أننا لا نطبقه ولا من خلاله ننظر إليه، بل هو يقوم مقام الشرط الذي عن طريقه يمكن أن يفصح العمل عن ذاته؛ وبيّنٌ كذلك من هذا التصريح أن العمل قد أتى على جهة الضرورة للتخلّص من شيء قد كمُنَ و استقرّ في الذات ولُفِظ في الخارج باندفاعة تشي أنه كان كما الطفيلي الذي يقتات على صانعته في الداخل. ثمَّ إذا ملحمة و الملاحم تملك إمكانية أن تؤسس أممٌ و شعوبٌ نفسها عليها أو تكون مصادرَ عميقة للأنفس، فعلاقة الإغريق قديما بـ«هوميروس» و«هزيود» كانت أفقا بنيت عليه قرارات مصيرية وتاريخية.
إن ما يكون لنا به علاقة بهذا الشكل جاز لنا أن نعدّه إيمانا لأننا نوجد عبره ولا نُذكر دونه فهو و نحن واحد. باعتبار كل هذا فإن هذا العمل هو قصَصٌ حول إيمان معطوب لذا يبدو في تصريح «كورالي فارغيت» أنه كالمرض و لربما جعلُ مرضٍ ما عملاً سينمائيّاً يفترض أن العلاج منه يكون بمجرّد رؤيته والاعتراف به، ونحن هنا نتتبع الأصل أي الإيمان المعطوب فيما بَعُدَ عنه وظُنّ أنه ليس منه وفي هذا المعنى نشأت الفينومينولوجيا (الظواهرية أو الظاهراتيّة) كتوجّه فلسفي هو في الأساس تصوّفي. وقبل الحديث عن إيمان معطوب سنتحدّث عن مفهوم عامٍ للإيمان يستوعب ما ليس بإيمانٍ في العادة.
في تعريف حيَ للإيمان
فلنستهل مقالتنا بتعريف للإيمان يجعل من كل موضوعة تقابله الذات في عيشها قابلاً لأن يكون موضوعة إيمان، فنقول مع «باول تيليتش - Paul Tillich»: "إن الإيمان هو إمتلاك همٍّ «أقصى» أي همٍّ واحد يهمك من وراء كل فعل اهتمام، حيث أننا لا نهتم بالأشياء إلا باعتبارها موضوعةً له». وفق هكذا إطلالة على الإيمان فإن إيماناً حقيقيّاً أو زائفاً يتحدد من خلال قدرة موضوعة الإيمان على الإحاطة بأحوال صاحبه وتقديم سند له على اختلاف هذه الأحوال وما يتعرّض له من «كيوفاتٍ» بلسان أرسطيّ هي من قبيل الكون والفساد2 الذي يطرأ على الأشياء بحكم طبيعتها، وقد لا يستطيع الليبيدو الانسجام معها (وسيان إن اعتبرنا الليبيدو طاقة جنسية مع «فرويد» أو نفسية مع «يونغ»؛ فمن حيثية براجماتية نحن قادرون من خلال التسميتين والمنظورين على اشتقاق ظواهر نفسية كثيرة مشتركة رغم الاختلاف الكائن بينهما) أي إن حقيقة الإيمان تكون من حقيقة الذات وفي هذا التمفصل تُظهر موضوعة الإيمانُ جدارتها للذات كي تسمح لها بالاستحواذ عليها بل قد تتناغم معها وتميل أنى مالت بلا تمايز أو حواجز.
رغم أننا في التعريف ذكرنا أن الذات هي من تمتلك الإيمان والمؤمنُ هو الحاصل على موضوعة الإيمان (مع الوضع بالاعتبار أن موضوعة أي إيمان تتعلق بالقدسية) إلا أن هذا بحاجة لتفسير أفلاطوني من خلال نظرية المُثُل و علاقة المثال Eidos أو الماهية/الحقيقة بالشيء كـ«ميتكسيس-Methexis»، أي أنها علاقة مشاركة، وفي هذا السياق نسأل: ما علاقة ماهية أو حقيقة الإيمان بالمؤمن؟ هل يملك المؤمن الإيمانَ أم أن الإيمان يملكه؟ تقر الأفلاطونية بأن الأشياء تملك ماهية أو حقيقة لكن بمعنى مخصوص جداً للملكية، فهي تعني انتماء الأشياء للماهية أو للحقيقة وهي المشاركة أي «الميتكسيس» بحيث إن المؤمن يملك الإيمان كـ«همٍّ» أقصى لكن بصورة منطقية، ما يجعل المؤمن ينتمي لموضوعة إيمانه و يشارك فيها وإن كانت الموضوعةُ ذاتها تعبر عن نفسها من خلاله؛ لنوجز ذلك في عبارة: المؤمن ينتمي للإيمان والإيمان في المؤمن.
وعليه، فإننا نسمي هذا التعريف «حيّاً» لأنه يتضمن حركة من الانقسام بين «الذات-الموضوع» أو المؤمن وموضوعة إيمانه إلى الالتئام بين الشقّين وانعدام التمايز بينهما.
«إليزابيث»: حينما تجلّى أولُ تعريف لموضوعة الإيمان
إن لكل قطاع من الموجود إيمانه، أي أنه مالكٌ لموضوعةٍ مقدّسة لا مثيل لها بالنظر لقطاع بعينِه وعليه فإن موضوعة إيمان أي قطاع من قطاعات الموجود ترى في نفسها أحقيّةَ أن تكرِّس لها الذاتُ كل عناصرها (من وعي ولاوعي وروح وجسد… إلخ) وأجزائها. بما يفيد أنها يجب أن تهمَّ بكليّتها بموضوعة الإيمان وتصادق عليها بها، ومن هنا تجوز المبادلة بين الذات المؤمنة وموضوعة إيمانها فثنائية «الذات-الموضوع» تتلاشي بفعل اهتمام الذات اللا-مشروط بها.
إن قطاع الموجود هو هوليوود وتتجلى موضوعة إيمانها من خلال مشهد عابر لوقوف «إليزابيث» الشابَّة على نجمتها المثبَّتة على رصيف «الهوليوود بوليفارد» ومن اللمحات العبقرية في العمل أن هذا المشهد رغم أساسيته إلا أنه وضع عابراً متلاشياً تنبثق المشاهد متواليةً من داخله. إنها الآن في وضع الـDoxa في فلسفات ما قبل أفلاطون-سقراط (وكلاهما واحد بالنسبة لنا) التي كانت تعني الشهرة والمجد أو قابلية موجود ما لأن يعزى إليه الاهتمام والتقدير. ومن مرادفات هذه الكلمة «إنجيليا» مع اللاتينية نجد كلمات من قبيل Theou وGloria وDei وهي صفات تعزى عادة للإله؛ وما يُمجّد يُوضع في الضوء وإبقاء شيء ما في الضوء كان يعني بالنظر للـDoxa منحه الديمومةَ والبقاء، إن موضوعة الإيمان هنا بالتحديد والتي كرست لها «إليزابيث» كلية ذاتها هو أن تكون مرغوبةً محبوبة؛ هذا المطلب الذي يعدّه الفيلسوف الفرنسي «جان لوك ماريون» شرطاً للوجود وفقدان القدرة عليه يُعتبر بمثابة «خصاء» ترنسدنتالي أي يسحب الإمكانية التي نخطو من خلالها للآخر.
إن الهم الأقصى الذي نرمز له بالـ«الله» قد تحقق في «إليزابيث» وكأي مقدس فإن الذات بعد حضوره تصبح مركزاً لها يهمها في كل حين كما تهمها نفسها لأنهما أصبحا واحداً: تكبر «إليزابيث» في العمر وهي تؤدي ذات المتطلبات التي من خلالها حققت همها الأقصى فتستمع صدفة لمدير برنامج رقصها الغنائي وهو يطالب موظفاً على الهاتف بإيجاد بديل لها أكثر شباباً وجمالاً، وبعد أن يذهب في شأنه نراها في انكسارة خزي لأن موضوعة إيمانها ما عادت ممكنةً بالنظر لشرط بشري هو متولّد، بطبيعته، من جسدها ذاته وخارج إرادتها، نعني التقدم في السن. والخزي الذي اجتاحها هو عودة لما قبل الإيمان أي إلى حالة الانقسام بين «الذات-الموضوع».
3الهبوط: من الأعلى العظيم هبطت إنَّانا إلى الأدنى العظيم
يظهر عُقار The Substance (المادة، الجوهر) القادر على تقديم نسخة من «إليزابيث»-أفضلَ قادرة على الوفاء بمتطلبات همِّها الأقصى ليتحقق الوعد وتتجنب الوعيد المتمثل بتدمير كلِّي للذات ووصمة عدم جدارتها بالوجود فتلد لنا «إليزابيث» نسختها «سو» (Sue) لكي تحل هذه محل تلك حاصدة نجاحات لا تنقطع فتدمنها. والإدمان على أي شيء يجعل وجود المدمن معتمدًا عليه. لذا تبدأ «سو» بالإخلال بشرط استخدام العُقار وهو أن تعود للأصل («إليزابيث») إسبوعيًّا وتقتات على غذائها الوحيد، وهو سائل نخاعها الشوكي. وإثر كل مخالفة للتعليمات واقتيات غير مكترث على «إليزابيث» تستيقظ هذه الأخيرة لتجد نفسها قد شاخت فتُغبن من «سو» لتقوم وتنتقم منها بالتهام أدسم الوجبات لإفساد مرغوبيتها التي سندها الأساس هو الجسد، وبالمقابل تنتقم «سو» بدورها بإخلال أكبر فأكبر مما يجعل «إليزابيث» تبلغ ذروة الشيخوخة.
في ظل هذا الصراع تظهر لنا أسطورة سومرية عن هبوط «إنانا» ملكة العالم الأعلى نحو العالم السفلي وهي مزينة بكل ما يشير إلى رفعتها على أختها «أرشكجيال» في الأسفل، وعند كل بوابة في نزولها ينزع عنها الحراس إحدى مجوهراتها حتى تصبح عارية تماماً من كل ما ليس هي، لتكتشف أنها وأختها النقيض شيء واحد. في الفيلم، نشاهد «إليزابيث» و«سو» تهاتفان صنّاع العُقار لتقديم شكوى وتصف كلٌّ منهما الأخرى بـ«هي» فيتم تذكير كل منهما، على حدة، بأنهما «واحد» وما ثمة من «هي» وإن هذا الإدراك للتوحد بينهما هو موت «الأنا» كما تذهب الأسطورة السومرية لبعث جديد يسلّم بالذات كلّها. إن اسم الفيلم والعُقار لهما نفس مدلول «الجوهر» الأرسطي فـ«هو» يبقى «هو» لكنّه يعاني الاستحالة أي أن حاله يتبدل وتبقى الذات على ما هي عليه؛ وبما أن جوهر الذات قد أصبح موضوعة الإيمان أو أن همّ الذات الأقصى قد أصبح الذات-ذاتها فإن علة الصراع برمته مجرد إله زائف رُفض التسليم بزيفه.
لقاء النقيضين وشِركة في همٍّ أقصى واحد: القيامة
يحدثنا «نيتشه» في كتابه «في جنيالوجيا الأخلاق»4 أن أخلاق العبيد وتقويمهم محرك من قبل الضغينة-الحقد-الذخل، وهذا المحرك في علاقته بالآخر يقوم بنفيه أولاً ليتعرف على نفسه، فالعبد يتلفت خارجه ثم يقول «هذا ليس أنا بل أنا كذا» في حين يقول السيد «أنا كذا ولست كذا»؛ إن «إليزابيث» و«سو» كلاهما في غبن من الآخر بحيث تغدو صياغة تقويم العبد عند كل منهما تجاه الأخرى هي «أنت لست موجودة، أنا موجودة» فتقرر «إليزابيث» (الأصل) إنهاء التجربة ليخبرها صناع العُقار أن هذا يعني أن تبقى في ذات الحال من الشيخوخة، فتوافق. غير أن الندم يسيطر عليها بعد موت نسختها «سو»، فتحاول إحياءها بتغذيتها بدمائها لتعود «سو» إلى الحياة، فتبدأ معركة بينهما تنتهي بموت الأصل «إليزابيث». لربما كانت عملية إعادة الإحياء لـ«سو» هو حيرة «إليزابيث» فهل تختار الذات رِفعة البقاء كأصل و الرضى بعدم الاعتبار أم ضعة النسخة وأن تعتبر ممجدةً كما الإله؟ هذا سؤال نتركه للضمير.
تمضي «سو» لتحصد نجاحاً آخر فيبدأ جسدها بالتداعي ما يضطرها لتناول جرعة أخرى من العقار لأجل الحصول على نسخة أفضل من نفسها، لكي نصل في النهاية، إلى توليفة من الأصل «إليزابيث» والنسخة «سو» بالغة البشاعة هي رمز لعجز الأنا عن التوليف بين الليبيدو والهمّ الأقصى الذي يقدمه الأنا الأعلى الخاص بقطاع من قطاعات الوجود. ومع ذلك تذهب هذه التوليفة مع صورة بورتريه لـ«إليزابيث» لتحصد نجاحها الأعظم وتعرف نفسها بأنها «سو». وباستهجان شديد تُرفض «إليزابيث» داخل «سو» وضمن التوليفة الأخيرة لتهرع نحو نجمتها على الـ«هوليوود بوليفارد» فتموت عليها بابتهاج.
إن التجلي الأول للمقدس في صورة عابرة وضمن شروطه قد أصبح الأن ثابتاً دون شروط فما من حضور وجمهور لُيصادق عليها غيرها، وكون ذات الحدث قد وضع في مرّة عابراً و في مرة ثانية ثابتاً، له دلالة بالغة الأهمية: ففي الأولى كان الظفر بالمقدس مشروطاً بالشباب أما في الثانية فما عاد يشرطه ويحدده شيء لأن المقدّس حقيقةً هو ما يشرط الذات حدَّ إلغائها أو إفنائِها لصالحه.
خلاصة
إن الموضوعة الجديرة بأن تهمَّ الذات كحد أقصى وتكرّس لها كليّة وجودها تتحدد بالضيق والسّعة قبل كل شيء تجاه الشرط البشري. هذا المفهوم الأخير نحدده بأنّه كل ما يطرأ على الجوهر والذي هو الذات هنا بفعل ذاتها أو طبعها أي فيزيس/Physis الإغريق، فالتقدم في السن يكون بمقتضى الطبيعة، والألوهة أو المقدّس هي عند التحقيق تجميعٌ للذات وتوحيد لأجل همٍّ «واحد» مفرد. أما الذات فلا تعتبر هذا الهم أصلًا إلا لأنه يعتبر كليَّتها على الخصوص. نعني تلك الأحوال التي قد لا تكون هي عليها وقد تصبح عليها لتشرط وتحدد وجودها. والهمُّ الأقصى بما أن الذات كرّست كل عناصرها لأجله يدلل على أن موضوع الإيمان (الله، المقدس، الهمّ الأقصى) لا بد أن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسلام النّفس5 إذ أن ما تمنحه كل ذاتك يغدو من الضروري ألا يهمّك ما يجري لذاتك في صحبته لأنه معنيٌّ بك في كل أحوالك والتجربة الداخلية هي مجهولة كالليبيدو أو الطاقة النفسية فنحن لا نعرف حقًا ما الذي قد يطرأ على الذات من داخل الذات أو من نفسها وعليه فإن معادله من موضوعات الإيمان هو همّ أقصى مجهولة إمكانياته وأساليب عنايته أي يجب أن يكون اعتماديّاً أيضا تجاه ما نجهل بهذا فإن الإيمان فنّ أن تكون هادئاً أمام ما يغلبك أو ما تجهل أو ما غاب عنك.
حصد هذا العمل جائزة مهرجان كان السينمائي لأفضل سيناريو و يمكن أن يطرأ على الخاطر سؤال إلى أن المردَّ الأساسَ واللا-واعي لذلك يعود إلى أن البنية السردية هي ذاتها البنية السردية التي لأي إيمان؛ إن الإنسان بما هو كائن يقوم بفعل الرجاء، بمعنى أنه يَبسِط توقه إلى خيرٍ هو في المستقبل إلا أن بلوغه شاق فهو لا يمكنه أن يفصل ذاته من فكرة الوعد إن كرّس كليّة ذاته لهمٍّ ما بل تكون القضية وفق ثنائية شيكسبيرية: «أكون أو لا أكون». يقول القديس «بولس» في الرسالة إلى روما6 «فإن كنا نرجو ما لا نشاهدهُ فبالصبر ننتظره»، وهذا النص يكشف عن الثقة داخل انفعال الشوق بحيثية تجعل ما نهتمُّ به ونتوق لحدوثه أمراً يحوز كل وجودنا على جهة الضرورة، إذ نكاد لا نوجد إلا في انتظار ضرب من الوعد، وهذا الأخير ينبثق منه جدليّاً خشية من الوعيد الذي قد يتحقق من خلال طريقين فإما عبر خذلان موضوعة إيماننا لنا (حالة بطلة الفيلم) أو من خلال تفريطنا. والأولى وعيدها أشد جهنميّة من الثانية7.
من هذا يأتي تصنيف الفيلم باعتباره «فيلم رعب» لأنه ذهب للحدود القصوى في التدمير والتعبير عن الخيبة من موضوعة الإيمان أو وبال أمر الذات حينما تخذل منها. ومن الدالِّ في هذه النقطة أن صانعة العمل «كورالي فارغيت» قد قالت في مقابلتها مع مجلة «فوغ»: «إن العمل بصورة أساسية مؤسس على عنف السيطرة»8، فمن خلال تدمير الذات في صورة وعيد إيماني في الفيلم تدمّر «فارغيت» موضوعة إيمان اجتماعية أو مقدمة من أنا أعلى معينة خارج الفيلم و داخله. إن أقصى ما يمكن أن يقال عن شيء ما، هو ما يقوله الجسد إذ يقشعر، وهو ما قامت به «فارغيت»؛ حيث التقويض يستنفد إمكانيات الشيء بتمامها.