«تفقيس»: حصاد الأمومة المسمومة

August 26, 2023

يُقدم الفيلم الفنلندي «تفقيس» (2022 - Hatching) – الذي صدر العام المنصرم – قصة يتخللها نوع من الغموض والغرائبية عن فتاة في عمر البلوغ، تُربي في غرفتها، على نحو سري، فرخًا يفوق حجمها مرتين، وتبدأ أفعالها الغاضبة تنعكس عليه، وسرعان ما يتغير شكله لتصبح تصرفاته دموية. لكن الخيوط المعقدة تنحلّ عندما نراقب عن كثب العلاقة بين الفتاة وأمها، التي يظن كل منا في البداية أنها عادية ومشابهة لما يحدث في كل أسرة، دون أي انعكاسات أو تأثيرات تُعكر صفوها. 

ينتمي الفيلم إلى مدرسة الرعب النفسي، ويَنظر عن كثب إلى التأثير غير المحسوس في العلاقة بين الأم والأبناء. تتمحور القصةُ حول ابنة هادئة الطباع وأم لديها مدونة تنشر عليها مقاطعَ فيديو عن عائلتها، وتعرضُ علاقتها بابنتها على أنها مثالية، مليئة بالحب والتفاهم، وسط منزل كبير بحديقة واسعة خلابة يحلم بها كل شخص. لكن، على أرض الواقع، نجدها أمًا متطلبة لا ترضى أبدًا عن مجهود ابنتها المراهقة المنطوية، التي تحاول استرضاء أمها بكل الطرائق. أمٌ تطمحُ دومًا إلى كمالٍ زائف لا يتحقق، وذلك نتيجة الاهتمام المبالغ فيه بمواقع التواصل الاجتماعي.

وراء قناع المثالية يختبئ المسخ

يبدأ الفيلم بعائلة مكونة من أم وأب وابنة في عمر الثانية عشرة تُدعى "تينيا"، تلعب دورها "سيري سوليلينا" (Siiri Solalinna)، وابن في عمر الثامنة. نرى العائلة في غاية السعادة تحت سقف المنزل المثالي المنسّق المليء بصور الزهور. تلتقط الأم – التي تلعب دورها الممثلة "صوفيا هيكيلا (Sophia Heikkilä) – بعض الصور التذكارية لها ولعائلتها، لكن سرعان ما يتغير الجو العام للمنزل بعد دخول غُراب من النافذة، ليحطم بعض الزجاج. تتمكن الفتاة من الإمساك به وتقدمه للأم التي تكسر عُنقه مع ابتسامة انتصار صفراء في تصرف يفاجئ ابنتها التي تذهب بعد ذلك لرمي الطائر في القمامة بناءً على طلب الأم. ندرك أن الابنة تسعى دائمًا لإرضاء أمها ولو على حساب سعادتها وبراءتها الداخلية؛ لذا نجدها لا تخرج بصحبة صديقاتها ولا تغضب أو تعترض، فالابنة هنا على درجة عالية من التعلق بأمها والإخلاص لها. في نفس الليلة، تكتشف "تينيا" أن الطائر اختفى من القمامة، فتذهب للبحث عنه في الغابة، لتجده يصارع الموت بعدما كبر حجمه قليلًا، ولكنها تقرر إنهاء حياته بضرب رأسه بصخرة، ثم تأخذ البيضة التي تركها خلفه، وتقرر الاحتفاظ بها في غرفتها بعيدًا عن أعين عائلتها، لتخبئها داخل دمية على شكل دُب وردي كبير.

ننتقل رفقة الابنة والأم إلى قاعة التدريب الخاصة برياضة الجمباز، لنجد أن "تينيا" تبذل قصارى جهدها وتحصل على استحسان المدربة وابتسامة غير راضية تمامًا من الأم التي ترى أن ابنتها من الممكن أن تقدم أداءً أفضل مما قدمته. يزداد الأمر سوءًا عندما تقدم صديقة "تينيا" عرضًا ينال إعجاب المدربة. هنا تركز الكاميرا على النظرات المتبادلة بين الأم والابنة، التي تشعر أنها غير كافية لإرضاء أمها، حيث تكتفي الأم بابتسامة مزيّفة تعبّر عن خيبة أملها في ابنتها، وتجبرها على التدريب لساعات إضافية حتى المساء. مع مرور الأيام، وفي تحول مفاجئ، يكبر حجم البيضة ليفوق حجم الدب الوردي، لتصير الرفيقة الوحيدة للفتاة. تحتضنها "تينيا" وتنهمر دموع الحزن على قشرتها التي سرعان ما تهتز استجابة لهذا الألم، وتنكسر البيضة ليخرج منها فرخ ضخم. تقع "تينيا" في حيرة نتيجة ما حدث، لكنها تتمسك بتربية الفرخ وإطعامه، لتكتشف أنه يتغذى فقط على قيئها. يلمح الأب بعض الغرابة في تصرفات الابنة داخل غرفتها، لكنه سرعان ما يكتشف أنها قد دخلت مرحلة البلوغ، عندما يرى قطرات من الدم على فراشها، فيتركها بسلام دون تأنيب، على عكس الأم التي تأتي صباح اليوم التالي ولا ترى شيئًا سوى الفستان الأبيض الممزق داخل خزانة الملابس الخاصة بابنتها، وكأن عينيها مصممتان على التقاط العيوب فقط.

من البراءة إلى الشر

يمرُّ القليل من الوقت، ويتحول شكل الفرخ إلى مسخ له وجه طائر وجسد فتاة بحجم "تينيا" وشعر بني طويل. يصير أكثر شراسة ويفتك بكلب الجيران الذي لطالما أرادت "تينيا" الحصول على واحد مثله، وعندما تتحرك مشاعر الغضب والكراهية في قلبها نحو صديقتها التي قدمت عرضًا أفضل منها في الجمباز وتفكر في ضربها، نجد المسخ يتحرك ويهاجم منافستها في الطريق ليلًا ويتسبب في تشوه يديها ووجهها.

تدرك "تينيا" أن ما حدث كان بسبب المسخ الذي تحرك بناءً على مشاعرها، ويتطور الأمر لاحقًا، لتصير تحركاتها الجسدية بمثابة توجيه مباشر للمسخ الذي يتحرك ضد كل من تكرههم الفتاة، إلى أن نصل إلى مواجهة دامية بين الأم والمسخ الذي صار يتخذ شكلاً مشابهًا لتينيا. بعد محاولة الأم قتل المسخ، نجدها بدلاً من ذلك تقتل ابنتها عن طريق الخطأ، ليعيش في النهاية المسخ الذي تحول إلى نسخة مطابقة في الشكل لتينيا مع أثر جرح على وجهها. نرى علامات القبول والإعجاب ترتسم على وجه الأم التي تحمل هي الأخرى ندبة قديمة على ساقها، وكأنها هي الأخرى كانت مسخًا لنسخة طيبة عاشت واندثرت بفعل أم مسمومة خنقت طيبتها وأحلامها الوردية.

عائلة بلاستيكية

يساعدنا الفيلم على إدراك كيف يمكن لتصرفٍ غير مقصود مفروش بحسن النوايا أو متسرع من الآباء أن يخلق جانبًا شيطانيًا في أطفالهم؛ فالأم في الفيلم تهتم كثيرًا للابنة، ولكن ليس بالشكل الحقيقي الطبيعي والصحي الذي ترغب ابنتها في الحصول عليه. إنه اهتمام استعراضي يُرضي غرور الأم التي تحب التباهي بشكلها ومظهر عائلتها، لكنها ترى الجانب القبيح أو غير الكامل في ابنتها مهما حاولت الابنة بلوغ الكمال. على الطرف المقابل، يأخذ الأب هنا دور إنسان سلبي، يكترث لكن لا يفعل شيئًا، بل يقف متفرجًا مذهولًا هو وولده الذي يشبهه في الملامح وردات الفعل، تاركًا كل القرارات في يد زوجته. والنتيجة ظهور مسخ مشابه للطفلة يطلق غضبه على كل ما يُغضب الأم ويجعلها ترى النواقص في ابنتها؛ لذلك يقوم بقتل كلب الجيران وتشويه يد منافستها ومحاولة قتل الرضيعة ابنة حبيب الأم. الأمر هنا أشبه بظهور قرين يحاول الفتك بكل من يشكل خطرًا أو تهديدًا للنسخة الأساسية. ولا يمكن القول أن هذا المسخ محض خيال نسجته فتاة مقهورة من تصرفات أمها، فقد كان يظهر للجميع، ونراه يتصارع مع الأم قبل نهاية الفيلم بدقائق.

تتقارب الفكرة المطروحة في الفيلم مع فكرة فيلم "كاري" (2013 - Carrie) المقتبس عن رواية لستيفن كينغ تحمل نفس العنوان، وتصف قوى خارقة تجتاح فتاة دخلت مرحلة البلوغ، وتزداد قوتها مع القهر الذي تتعرض له من والدتها والتنمر الواقع عليها من زميلاتها في المدرسة، فكلا الفيلمين يعرضان علاقة مسمومة بين الأم وابنتها. وبعيدًا عن المشاهد الغرائبية الخارقة للطبيعة، يتناول فيلم "تفقيس" العلاقةَ بعمقٍ وتركيزٍ وواقعيةٍ مشابهة لما يحدث في المجتمعات الواقعة تحت تأثير مواقع التواصل الاجتماعي.

الدقة في تقديم العناصر السينمائية

يعتبر هذا الفيلم أوَّل فيلمٍ روائي طويل تُخرجه "هنا بيرجهوم" (Hanna Bergholm) بعد تقديمها لعدة أفلام قصيرة، ومسلسل مكون من موسمين. وقد شاركت في عملية الكتابة مع كاتب السيناريو إيليا راوتسي "Ilja Rautsi"، فقد عرض عليها فكرة الفيلم ولاقت استحسانها، وصنفت المخرجة الفيلم بأنه دراما رعب بقصة استثنائية لم تشاهد مثلها من قبل. لم يكن الفيلم لينجح –على حد قولها في عدة مقابلات على موقع يوتيوب– لولا تمكن الشخصية الرئيسة من تجسيد الدور كما ينبغي، لذا أجرت مقابلة مع 1200 فتاة قبل أن يقع اختيارها على البطلة البالغة من العمر اثني عشر عامًا لتقدم لأول مرة لها في التمثيل دورًا مركبًا يعتمد على إظهار الانفعالات النفسية بشكل يبدو طبيعيًا وغير مفتعل.

لقد نُسجت الصورة السينمائية في الفيلم بعناية كبيرة، بداية من الديكور الواضح من المشهد الأول الذي يُظهر لنا بيتًا مثاليًا بألوان الباستيل الزاهية، المُطعم بالزهور المطبوعة على كل الحوائط، مما يضفي لمسة راقية، إلى جانب ملابس الشخصيات التي كانت تتراوح بين الأبيض والوردي للأم والابنة، والأزرق الفاتح للأب والابن. وقد استعملت إضاءة معتدلة حتى في الظلام؛ دون تضمين أي لقطات مظلمة بشكل مفرط أو ظلال سوداء، مما يوضح أن الأسرار والمشاعر التي تخفيها الفتاة كانت ظاهرة لنا على السطح. لقد وظفت العناصر السينمائية ببراعة لخدمة رسالة الفيلم، وكان أهمها تصميم المسخ الذي صُنع على يد أحد أفضل مصممي الدمى المتحركة في هوليوود "جوستاف هيرجين" (Gustav Hoegen)، والذي عمل سابقًا في أفلام مثل "حرب النجوم"  و"الحديقة الجوراسية".

وقد صنع المصمم المسخَ على هيئة دمية متحركة تتفاعل بواسطة جهاز تحكم، فبحسب رؤية المخرجة، كان من الجيد إضفاء مظهر حقيقي قابل للتصديق، يعرض حركات الوجه وكل التفاعلات مع بطلة الفيلم وبقية الشخصيات أثناء التصوير بدلاً من الاعتماد على تقنية الرسوم الرقمية (CGI).

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى