نادرًا ما تكشفُ التفاصيل الإجرائيَّة، كتعيين رؤساء لجان تحكيم مهرجاناتٍ سينمائيَّة، عن تحوُّلاتٍ جوهريَّةٍ في البنى الرمزيَّة للعالم الفني. إلَّا أنَّ اختيار امرأتين، لدورتين متتاليتين، لرئاسة لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي يكشفُ عمَّا هو أكثر من اختيارٍ إداريٍّ أو فنّيٍّ محض: إنَّه فعلٌ رمزيٌّ يعكس ارتجاجًا خفيًّا في البنية الثقافيَّة نفسها: انتقال السلطة من موقع التمثيل إلى موقع المعايير.
في الدورة الـ 77 من مهرجان كان عام 2024، أسنِدت رئاسة اللجنة إلى الممثِّلة والمخرجة الأمريكيَّة غريتَّا غيرويغ، لتخلفها الفرنسيَّة جولييت بينوش في الدورة الـ 78 الحاليَّة. وعلى الرغم من التناقض الظاهري في الثيمة والاتِّجاه بين المرأتين، ولكن ثمَّة وحدةٌ رمزيَّةٌ تصاغ هنا: تحوُّل المرأة إلى صانعةِ معايير وصاحبة سلطة التقييم، وبالتالي امتلاكها السلطة الرمزيَّة لتحديد ما هو "شرعي" داخل الحقل الثقافي كما يشير بيير بورديو.
في السينما، حيث يتقاطع الجمال والسياسة، تصبحُ مناصب المرأة وسيلةً لإعادة رسمِ حدودِ الفن ولإعادة تعريف التجربة السينمائيَّة. هذه التعيينات لا تعكسُ مجرَّد اعترافٍ بدورها، بل تشير إلى تحوُّلٍ ثقافيٍّ أعمق، إذ لم تُمنح، بحسب سيمون دو بوفوار، إلا حين أصبحت "الأنوثة" فاعلًا لا موضوعًا. بذلك تتحوَّل لحظةٌ إداريَّةٌ إلى مشهدٍ رمزيٍّ من صراع الهيمنة الجندريَّة تُعاد فيه كتابة السيناريو بعيون الكاميرا وإيقاع المونتاج.
كسرُ احتكارٍ للذكورة؟
لطالما كانت لجان تحكيم المهرجانات السينمائيَّة خاضعةً لهيمنةِ سرديَّةٍ ذكوريَّة: مخرجون ونقَّاد بارزون، بخلفيَّاتٍ فكريَّة وجماليَّة متعدِّدة. هؤلاء رغم اختلافهم يشكِّلون بنيةً متجانسةً من حيث السلطة الرمزيَّة، كأنَّ عدسة الكاميرا، في اختيارها لمقيِّميها، تدور حول مركزٍ ثابت: الذكرُ العارف، الناظر إلى الشاشة كقاضٍ ومنظِّر. إنَّ الحقول الثقافيَّة، بحسب بورديو، تُدار برأس مالٍ رمزيٍّ يُمكِّن النخب من إعادة إنتاج ذاتها عبر شرعنةٍ خفيَّة. لذلك فإن رئاسة لجنة التحكيم ليست منصبًا فخريًا، بل سلطة معرفيَّة تُصنِّف الذائقة الفنيَّة وتُحدِّد ما يُدوَّن كـ"سينما جيِّدة".
في هذا السياق، لا يُقرأ تعيين امرأتين لدورتين متعاقبتين في هذا الموقع على أنَّه مجرَّد تكريس للتنوُّع أو كسر احتكارٍ للذكورة، بل هو تفكيكٌ دقيقٌ لتراتبيَّةٍ رمزيَّةٍ قديمة. هنا نقرأ تموضع الجسد الأنثوي بوصفه ذاتًا تمنح المعنى، تُقرُّ بالجمال، وتعيد تعريف القيمة نفسها. فالمُحكِّمة هنا لا تُقيِّمُ الأفلام فقط، بل تُعيد رسم حدودِ الحقل ذاته، وتعيد ضبط الخطاب النقدي الذي لطالما كُتِبَ بصيغة المذكَّر.
تشيرُ جوديث بتلر إلى أنَّ أداء الأدوار الإجتماعيَّة يُنتِجُ الذات ذاتها. بهذا المعنى، لا "تُدرَجُ" المرأة، الشاغلة لموقع التحكيم، ضمن المعايير، بل تشاركُ في كتابتها، في توجيه الكاميرا نحو زوايا منسيَّة، نحو قصصٍ وأساليب أُقصِيَت أو أُنِّثَت لتُقصى. إنَّها لحظةٌ استثنائيَّةٌ من الاعتراف تُنهي علاقةً طويلةً من التشْييء، وتمنح المرأة مكانتها كفاعلٍ في الرمز نفسه، كمونتيرةٍ صامتةٍ تعيدُ تركيبَ المشهد من جديد.
غيرويغ وبينوش: مدرستان أنثويَّتان متناقضتان ومتكاملتان
تنتمي غريتا غيرويغ وجولييت بينوش إلى مدرستين مختلفتين في اللغة الجماليَّة والتعبير الرمزي، فغيرويغ، ابنة السينما الأمريكيَّة، تسيرُ في قلب التيَّار لتعيد تشكيله من الداخل، ففي أفلامٍ من إخراجها مثل «ليدي بيرد» (Lady Bird - 2017) و «باربي» (Barbie - 2023)، يُساءَل الخطاب النسوي بشكلٍ مباشرٍ وشجاع، حيث يُصوَّر جسد المرأة كذاتٍ تمتلكُ الكاميرا وتوجِّهها، لا كموضوعٍ لها: المرأة تقفُ في قلب المشهد، تكسر النمطيَّة، وتعيد تعريف الأنوثة في أكثر البُنى استهلاكًا واحتكارًا للمعنى. أمَّا بينوش فهي نقيضُ الصورة المباشرة: تمشي على حواف الضوء والصوت، تُجسِّد الأنوثة كأثرٍ خافت، كصدى حلمٍ بعيد؛ وفي أفلامها، من «أزرق» (Bleu - 1993) لكريستوف كيشلوفسكي إلى«كامي كلوديل 1915» (Camille Claudel 1915 - 2013) لبرونو دومون، لا تصرخ بل تهمس، لا تواجه الكاميرا بل تتوارى خلفها، وتدفع المشاهد إلى شقوق الصورة والتأويل.
في عمق هذا التباين، لا تُقدَّم المرأة بوصفها "هويَّة واضحة"، بل بوصفها كيانًا متشظيًا يتشكَّل باستمرارٍ بحسب دو بوفوار القائلة: «المرأة لا تولدُ امرأة، بل تُصبحُ امرأة». تُجسِّد غيرويغ وبينوش نمطَين متباينَين من الأنوثة: واحدةٌ ظاهرةٌ ومتفجِّرة، والأخرى خفيَّة ومُضمَرة، ويُعيدان تشكيل الأداء الجندري بطريقتين متباينتين: الأولى عبر إعادة كتابة النص، والثانية عبر تفكيكه بالصمت والرمز. وبهذا التنوع يبدو مهرجان كان وكأنَّه يعلن عن موقفٍ فلسفيٍّ لا فنيٍّ فقط: "لا أنوثة واحدة مهيمنة، بل أنوثات تتجاور، وتتصارع وتتكامل".
نحو مفهومٍ أعمقَ للنسويَّة في الفن
هذه اللحظة لا تعيد تشكيل المعايير الجمالية فحسب، بل تعيد تعريف النسوية ذاتها. لم تعد النسوية حركةً صداميَّةً تسعى إلى إقصاء الآخر، بل أصبحت خطابًا متعدِّد الطبقات يحتفي بالاختلاف ويتجاوز الأنماط التقليديَّة، خاصة في الفنون، حيث يُعاد التفكير في تصوير الأجساد والهويات بعيدًا عن الصورِ النمطيَّة. وكما يشير فوكو، فإنَّ النسويَّة الحديثة تتخطَّى الصراع الثنائيَّ بين الرجل والمرأة، لتُؤسس حوارًا لا مركزيًا بين الأجساد والهويات، يظهر جليًا في عدسات السينما التي أصبحت تلتقط التفاصيل المنسيَّة.
في هذا السياق، تعبِّر نسويَّة غريتا غيرويغ عن جيلٍ يمزجُ الفن بالخطاب الجماهيري، بينما تنبع نسويَّة جولييت بينوش من التجربة الداخليَّة، حيث يبرز الألم والصدق بعيدًا عن الشعارات. السينما عند بينوش تأمُّلٌ روحي، أما عند غيرويغ فهي أداة تغييرٍ اجتماعيٍّ تُبرزُ الجماليات المهمَّشة وتدمجها برسائل تتحدَّى الواقع. هذا التنوع في التعبير، بين الجريء والهادئ، لا يغيِّر تمثيل المرأة في الفنِّ فحسب، بل يبدِّل جوهر النسويَّة نفسها. في السينما، كما في الحياة، لم يعد الأمر متعلقًا بالأدوار بل بالرؤية، حيث تُعاد صياغة الكاميرا كأداةٍ لفهم التحوُّلات المجتمعيَّة العميقة، ويغدو الفيلم مرآةً للواقع المتغيِّر، لا مجرَّد ترفيه.
أنوثة التقييم: معايير جديدة للجمال؟
السؤال لا يُختزلُ في «لماذا امرأة؟»، بل يمتدُّ إلى «ما الذي يتغيَّر حين تقيِّم امرأة؟». يبيِّن إيمانويل كانط، في فصله ما بين الحكم الجمالي والحكم العقلي، بأنَّ التحكيم الجمالي ليس عمليَّةً حياديَّةً أو تقنيَّة، بل فعلٌ يتداخل فيه الحسُّ والذاكرة والانتماء الثقافي. بالتالي ليس متوقَّعًا من محكِّمةٍ إعادة إنتاج الأذواق ذاتها أو الانحياز إلى مواضيع نسائيَّة بحتة، بل إعادة تشكيل السؤال نفسه: «ما الذي يستحق أن يُروى؟ ما الذي يُلامسنا؟ ما هو "الأصيل" فعلًا؟» هنا تغدو الذائقةُ باحثةً عن التعايشِ والهشاشة، عن الصوت الخافت قليل الكلام، المصيب للهدف. الذوق الأنثوي لا يُقصي القوَّة، بل يُعيد تعريفها في سياقٍ أكثر حميميَّة. ومن خلاله يُعاد تشكيل الجمال من خلال منح الصمت والهامش والانفعالات العميقة قيمةً أكبر من الضجيج والمركزِ والانتصارات، حيث يُقاس المشهد بسكونه وإيقاعه وعلاقة الجسد بالكاميرا، لا بحركته فقط.
مؤخَّرًا بدأت السينما تشهدُ تحوُّلًا صامتًا في معاييرها الجماليَّة، حيث تحظى أفلامٌ تفتقرُ للسرد التقليديِّ والذروة الدراميَّة بتقديرٍ متزايد، مثل «صورة فتاةٍ تحترق» (Portrait of a Lady on Fire - 2019) لسيلين سياما، و«بعد الغروب» (Aftersun - 2022) لشارلوت ويلز وغيرها. هذه الأعمال تعتمدُ على الصمت، التفاصيل اليوميَّة، والإنصات للذات بدل الصراخ، مما يُعيد تعريف الجمال كخبرةٍ شعوريَّةٍ وتأمليَّة. هنا، التحوُّل ليس انقلابًا جذريًا، بل إعادة ترتيبٍ خفيَّةٍ لما نعدُّه جميلًا أو مهمًا كما وصفه بورديو. وعند تولِّي امرأة رئاسة لجنة تحكيم، لا تنقلب النتائج، بل يتغيَّر معيار الرؤية نفسه بصمت. هنا تصبحُ السينما إدراكًا حسيًّا شاملًا يتجاوز الصورة، وتغدو كلُّ لقطةٍ تجربةً تُعيد صياغة علاقتنا بالزمان والمكان. كما تُطرحُ أسئلةٌ غير مرئيَّةٍ على الفيلم، أسئلةٌ لا يراها النقدُ الذكوريُّ غالبًا لعدم اندراجها في معجمه، مثل سؤال الصمت الذي يكشف كيف يمكن للسينما أن تعكس تجاربَ مهمَّشة وغير مرئيَّة، حيث تصبح اللحظات الصامتة أحيانًا أكثر تعبيرًا وتأثيرًا من الكلمات.
وفقًا لجوديث بتلر، لا يعني الأداء الجندري هنا الحكمَ على نحوٍ أنثوي، بل إعادة تعريف فعل التحكيم نفسه، حيث تتحوَّل اللحظة الجماليَّة إلى استكشافٍ لما يستحق الانتباه. لا يقتصر الأمر على تمثيل المرأة، بل يشمل كيفيَّة إنتاج المعنى بصريًا. بالتالي لا تلعبُ الأنوثة هنا دور البديل، بل إنَّها مرآة تكشف انحيازات المعيار السينمائيِّ التقليدي وتطرح سؤالًا جوهريًّا: ماذا لو صُنِعت السينما دومًا من منظور غير مُساءَل؟ في هذا السؤال يكمنُ جوهرُ التحوُّل الجماليِّ الحقيقي.
بين التمثيل والتمأسس
قد يرى البعض أن تعيين امرأتين لرئاسة لجنة تحكيم «كان» لدورتين متتاليَتين هو إجراءٌ يرضي الخطاب النسوي دون تغييرٍ فعليٍّ في البنية الذكوريَّة للمجال السينمائي. وفق هذا المنظور، يبدو التغيير مجرَّد استعراضٍ رمزي يُرضي الخطاب السائد، دون مساسٍ فعليٍّ بآليات الإنتاج والقرار التي تظلُّ ذكوريَّةً غالبًا. ومع ذلك فالرمزي هنا ليس محايدًا. وفقًا لبيير بورديو، فإنَّ الرأسمال الرمزي «قوَّةٌ خفيَّةٌ تصنعُ التراتبيَّة دون أن تُعلن عن نفسها كقوَّة»، والفيلم، بوصفه مجالًا سينمائيًا، ليس مجرد صورٍ متتاليَّة، بل بنية تُعيد تشكيل الواقع وتُعطي الأولوية لما يُنقل في اللحظات الصامتة التي تتجاوز الإطار الظاهر. إنَّ التغيير الرمزيَّ مؤثِّرٌ بقدر التغيير البنيوي، لأنَّه يتداخل في نسيج الفيلم ويُعيد صياغة معاني التقدير والاعتراف.
إنَّ تمثيل المرأة، حتى وإن جاء بدوافع سياسيَّة أو دعائية، يُساهم في بناء ذاكرة جديدة ويُعيد ترتيب خريطة القوَّة داخل الحقل السينمائي، فكلُّ صورةٍ أو لحظةٍ تُدرج في سياق جماعي تُغيِّر فهمنا للسلطة في الإطار البصري، والسينما التي تُجسّد هذا التغيير الرمزي تُضيف بُعدًا جديدًا لمعركة التمثيل، حيث لا يُعدُّ الحضور الأنثوي مجرَّد إضافة، بل فعلًا تعبيريًا يُعيد التفكير في السينما كفنٍّ يعيد تشكيل الحدث ويُوسِّع أفق الخيارات الفنيَّة.
إنَّ مشهد امرأة تُعلن عن الفيلم الفائز بالسعفة الذهبية وتُؤثِّر في مسارات السينمائيِّين ليس حدثًا عابرًا، بل لحظة تأسيسٍ رمزيٍّ لسلطةٍ جديدة تتجاوزُ التمثيل نحو التمأسس، أي ترسيخ الحضور الأنثوي كعنصرٍ بنيوي في المهرجان لا كاستثناء. هنا لا تكتفي الكاميرا بتوثيق الحدث، بل تُساهم في إعادة تشكيل التاريخ السينمائي، حيث يتحوَّل المهرجان إلى مساحةٍ تُعيد تعريف الطبيعي بوصفه جديرًا بالاحتفاء. في هذا السياق، تُصبح السينما أداةً لإضاءة اللحظة وتفكيك تقاليد ظُنَّتْ راسخة. واليوم يقف المهرجان على تخوم خيارين: إمَّا الاكتفاء بتجميل الواجهة، وإمَّا إعادة توزيع الصوت والمعنى. وفي السينما، لا يقتصر هذا التحوُّل على تبدُّل العناوين، بل يشمل اللغة ذاتها: في نظرة الكاميرا للمرأة، وفي تمثيل القصص المهمَّشة. إنَّها لحظةٌ لولبيَّةٌ تلتقط فيها الكاميرا الزمن من جهتين: ماضٍ يُعاد رسمه، ومستقبلٌ يُصاغ عبر أيقوناتٍ رمزيَّةٍ جديدة.
ما بعد التعيين: تغيُّرات السينما
لا يمكن اختزال المسألة هنا بوصول امرأةٍ إلى رئاسة لجنة تحكيم مهرجانٍ سينمائي، بل بما تفتحه هذه اللحظة من أفقٍ تخييليٍّ جديد. حين ترى المخرجات من يشبههن في موقع القرار الجمالي، لن يقتصر الأمرُ على تعزُّز الانتاج، بل ستُستعاد سردياتٌ طال تهميشها، وسيُمنح ما كان استثناءً شرعيَّة الظهور على نحوٍ مستمر. وكما تلتقط الكاميرا مشهدًا غائبًا، تتيح هذه اللحظة إعادة تفسيرٍ للهويات وتجسيدها بصريًا. وفي السينما كما في الحياة، لا تُجسَّد الأفكار إلا حين تُمنح الرؤية الكافية للاستمرار.
بيد أنَّ هذا التأثير لن يكون مقتصرًا على النساء، فحتى المخرجون الذكور سيُعيدون، ولو بشكلٍ لا شعوري، التفكير في تمثيل الأنوثة، وتعقيد الشخصيَّات النسائيَّة، وأيضًا حساسيَّة الكاميرا تجاه الجسد. حين يتبدَّل المعيار تتغيَّر أدوات التعبير، ولغة السرد ونبرة الإحساس، وتصبح السينما مختبرًا حيًّا لإعادة التفكير في التمثيل والهوية، وتُمنَح الأجساد والأصوات المُقصاة مساحةً مُستحقَّة ضمن نسيج الحكاية.
كما ينبغي التنويه أنَّ السينما لا تتغيَّر من خلال الأفلام فحسب، بل من خلال العيون التي تُشاهدها، تُقيِّمها وتمنحها الشرعيَّة، وكلُّ نظرةٍ جديدةٍ تفتح أفقًا لرؤيةٍ مختلفة للواقع، وتُعيد ترتيب مكانة الشخصيَّات على الشاشة. قد يكون ما نراه اليوم في مهرجان «كان» بدايةً لتحوُّلٍ عميق: ليس فقط في من يُكرَّم، بل في كيفية رواية الحكاية وسببها. هنا، تصبح السينما فعلًا اجتماعيًا يعكس تغيُّر الوعي الجمعي، ويطرح تساؤلات حول تمثيل العالم بشموليَّةٍ أكبر.
بين المرأة والمهرجان، من ينظر إلى من؟
في النهاية، لا يمكن اختزال ما جرى إلى حدثٍ بسيطٍ يمكن تلخيصه تحت عنوانٍ واحد مثل تمكين المرأة أو العدالة الجندريَّة، بل يجبُ قراءته كعلامةٍ على تحوُّل الذائقة العالميَّة وإعادة توزيع السلطة الرمزيَّة في الفن. وكما يشير الفيلسوف جان بودريار، الرمزية ليست مجرَّد إعادة ترتيبٍ للأشياء، بل إعادة تشكيل للواقع من خلال معايير وقيم جديدة. في السينما، تعني هذه الرمزية أن كلَّ صورةٍ وكلَّ مشهدٍ باستطاعته إعادة تشكيلِ واقع غُيِّب في السينما التقليديَّة. عندما تجلس المرأة على كرسي التقييم، لا تقتصر مهمتها على منحِ الجوائز، بل تطرحُ سؤالًا جوهريًا: «هل أنتم مستعدُّون لرؤية أنفسكم من خلال عيوننا؟». إنها إعادة تعريفٍ للسينما كفنٍّ قادرٍ على تجسيد الواقع بكلِّ تناقضاته.
كيف يمكن للسينما أن تمثل "الحقيقة" إذا كانت موروثاتها الجمالية تُسقط جزءًا من الواقع، وهو منظور الأنثوية؟ الجواب بدأ يتشكَّل من خلال هذه اللحظة التاريخية. تواجه السينما، وهي تنظر إلى نفسها، ضرورة النظر من خلال وجهات نظرٍ متعدِّدة، تلك التي لم تكن مرئيَّةً أو معترفًا بها من قبل. هذا التغيير قد يكون بدايةً لنظريَّةٍ جديدةٍ في النقد السينمائي، حيثُ تصبحُ العيون أكثر قدرةً على التفاعل مع كلِّ تفصيلٍ جماليٍّ وحركة كاميرا، وليس فقط ما يطابق المعايير السائدة.

نُشرت هذه المقالة بدعم من مبادرة «سينماء» لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي.
الهوامش:
نشير إلى كون هذه الهوامش أو المراجع عامَّة لمن أحب الاستزادة والاطلاع على مصادر الكاتب في مُحاجّته، أعلاه.