سياسة عدم التساهل المطلق في «صالة المعلمين»

في الفيلم الألماني «صالة المعلمين» (The Teachers’ Lounge, 2023) تتفشى سلسلة من السرقات في إحدى مدارس المرحلة المتوسطة. تواجه كارلا -المعلمة الشابة الجديدة للصف السابع- بعض التحديات، حينما يجري التحقيق مع طلاب فصلها؛ لا توافق كارلا على الأسلوب المتبع من قِبل زملائها من الطاقم التعليمي والإداري في استجواب الطلاب وتفتيشهم، وتعتبره تعديًا على حقوقهم وخصوصياتهم. ويزداد التحدي حينما يُتهم أحد طلابها دون أي دليل. يُستدعى والدي الطالب المتهم -وهو علي، ابن لأسرة تركية مهاجرة- ويتضح بعد التحقيق معهما بُطلانُ الاتهام. لكن تظلُّ الشكوك حائمةً حول الطفل، سواءً من قِبل زملائه في الصف أو حتى في صالة المعلمين، حينما يحاولُ البعضُ إلقاءَ تلميحات من خلال الربط بين وظيفة والده كسائق أجرةٍ والحاجة إلى السرقة. 

تنحدر كارلا أيضًا من أصول بولندية، وهي لا تشعرُ بالارتياح لهذه الحقيقة التي تحاول إخفائها في المدرسة. ربما بدافعٍ من التعاطف مع تلميذها الذي اُتهم على أساس عنصري، أو ربما لإحساس بالمسؤولية تجاه طلاب فصلها، أو ربما لأنها رأت ما يشير إلى احتمالية كون السارق من أحد أعضاء هيئة التدريس.
تحاول كارلا كشف حقيقة السرقات بنفسها، وذلك عبر ترك محفظتها في قاعة المعلمين أمام كاميرا حاسوبها المحمول بعد تفعيل خاصية التسجيل. تلتقط الكاميرا بالفعل ذراع شخص يأخذ المال من المحفظة. تستنتج كارلا أن القميص الذي يرتديه هذا الشخص مطابقٌ لما ترتديه السيدة كون، وهي موظفة في سكرتارية المدرسة، وأم لأحد طلاب كارلا وهو أوسكار.
بعد أن تكشف كارلا عن تسجيلها لدى مديرة المدرسة، تبدأ سلسلة من التداعيات الوخيمة على السيدة كون، وأوسكار، وكارلا نفسها، وعلى استقرار النظام في المدرسة. 

يبقى الدافع وراء ارتكاب كارلا لهذه الجنحة أو مثل هذا التصرف غير النزيه، أعني التعدي على خصوصية زملائها، مفتاحًا هامًا لفهم الشخصية الرئيسية في الفيلم، إضافة إلى ما يمثله من نفحة تحمل جانبًا من روح المجتمعات الغربية.
تعتقد كارلا في نفسها، لكونها تؤمن بالمُثل العليا، أنها أفضلُ من الجميع، إذ يمكن استشعار الفوقية التي تعامل بها زملائها من خلال مواقفها وتصرفاتها. هذا التفوق الذي تستمده من توخيها لنهجٍ أخلاقيٍّ نزيه يؤجِّج لديها نوعًا من الشعور بالسلطة التي تغذيها تحيزاتها الشخصية والثقافية. وبموجبِ هذه السلطة، لا تجد كارلا حرجًا في تعديل منظومتها الأخلاقية الخاصة، وبالتالي تُجيز لنفسها الانخراطَ في عمل غير أخلاقي من أجل اعتبارات نزيهة وأخلاقية محضة. ومن منطلق هذا التفوق وهذه السلطة، لا تُبدي كارلا أي نوعٍ من الأسف أو الندمِ نحوَ زملائها. 

لكن الأمر لا يقتصر على كارلا فحسب. فهنالك استعدادٌ لدى كافة الطبقات، على اختلاف مواقعها في ذلك المجتمع الصغير، للتهاون والتجاوز الأخلاقي والتعدي على النظام من أجل بسطه، ومن أجل تحقيق العدل وحفظ السلام. فمن جهةٍ تُبدي إدارةُ المدرسة نوعًا من المرونة في التعدّي على حقوق الطلبة وابتزازهم بهدف تفتيش محافظهم بالقول لهم: «إن لم يكن لديكم ما تُخفونه، فليس لديكم ما تَخافُونه» وباسم "سياسة عدم التساهل المُطلق".
ومن جهة ثانية، يُستغلُّ ممثلي الفصل أثناء التحقيق معهم في التحريض ضد زملائهم، في محاولةٍ لتفكيك المجتمع من أجل الحفاظ عليه. ومن جهة ثالثة، تتعاملُ مديرة المدرسة بـ براغماتية بحتةٍ مع فيديو كارلا، إذ تناقش الخطوةَ التالية دون التوقف عند الكيفية التي حصلت بها كارلا على الفيديو. ومن جهة أخرى، لا يجد طلبة نادي الصحافة حرجًا في ليّ أقوال كارلا في صحيفتهم المدرسية حول حادثة التسجيل من أجل لفت الانتباه إلى الطرق التي تُمارس بها السلطة في المدرسة.

ترتدّ هذه التفاعلات الفوضوية بعنفٍ في وجه كارلا؛ فـبعدَ أن يتضح لأوسكار أنّ والدته متهمةٌ في قضية السرقات، يحاول احتواءَ الأمر مع معلمته بتقديمِ كافة مدَّخراته إليها، وبعد أن ترفضَ حلَّ الأمر بهذه الطريقة، يهدِّدها ويبدأ في حشد طلاب الفصل ضدها، الذين يصطفون بالفعل خلف أوسكار. لكن سرعان ما ينهارُ هذا الاتحاد حينما يكسرُ الطالبُ توم حلقةَ التضامن، طمعًا في تحسين درجاته المتدنية. فيلجأُ أوسكار إلى فعلٍ يتجاوز الحشدَ الطلابي. ترتد هذه التفاعلات الفوضوية بعنفٍ فعليٍّ في وجه كارلا بعد أن كان عنفًا مضمرًا في لبّ النظام ولبنةً في هيكلته، إذ تتلقى صفعةً على وجهها من قِبل أوسكار.  

يجتمعُ الطاقمُ الإداري والتعليمي وممثلي الفصل لتقريرِ عقوبة أوسكار. وتقترحُ المديرة باسم "سياسة عدم التساهل المطلق" إرسالَه إلى مدرسةٍ أخرى بعد سلسلةِ الاضطرابات التي سببها. تعترضُ كارلا، وتبرر سلوكه بسعيه إلى حماية أمه، وأنه من الضروري وضع الأمور في سياقها عند النظر لكلِّ ما قام به.
يصدرُ القرارُ بالفصل المؤقت لأوسكار. لتجد كارلا نفسها في موقفٍ ضعيفٍ ومكبوت، وكأن هنالك زهوًا وحماسةً قد تمَّ إخمادُهما بقسوةٍ في نفسها. فها هي تدافعُ عن إجراءات الإدارة التعسفية في حق الطلبة أمام آبائهم خلال اجتماعها معهم، وتبرِّر سلوكيات الإدارة أمام احتجاجات الطلبة، وتقوم بنبذ أوسكار حينما حضر إلى الصف بعدما عُوقب بالفصل المؤقت عبر نقل كافة الطلاب إلى صف آخر، بعد أن كانت ترى عدم صواب هذا النبذ. بل وحين تتصل بـأم أوسكار لتطلب منها الحضور لإعادة ابنها إلى البيت، تتهمها باستغلال ابنها في موضوع يخصهما هما الاثنتان، وكأنّ الأمر ليس له سياقٌ أكبرُ أو اعتباراتٌ أخرى؛ بمعنى آخر، تتبنى نفسَ نهج المديرة في التعامل مع الأمر بعد أن كانت تلومها عليه.
وكأن كارلا قد تقزَّمت أمامَ نفسها واكتشفت أنها ممثلةٌ لسلطة أعلى ليس إلا، وأنّ هذه السلطة العليا التي تغذيها أيضًا تحيزاتها الخاصة، تضعها باستمرار على أرضٍ لزجةٍ في مواجهة كل ما ظنَّته نزيهًا في نفسها.  

يجادلُ كوكس وليفين1 أن النزاهة «تتضمن القدرة على الاستجابة للتغير الحادث في قيم المرء وظروفه، إنها نوع من إعادة الخلق المستمرة للذات ومن تحمُّل المرء مسؤوليةَ عمله وفكره. النزاهةُ ليست صفةً متكاملةً قد يمتلكها المرء أو لا، فهي تسمح بدرجة من الازدواجية، بل وقد تتطلبها في بعض الأحيان».

هكذا نرى كارلا محبطة ومتخبّطة في محاولاتها للتكيف مع التحولات المستمرة في ما ظنَّته مُثلها العليا. فعلى الرغم من أنها لا تبدي أي أسفٍ تجاه زملائها على التعدي على خصوصياتهم، إلا أنها تُظهر الندم والتراجع بخصوص استخدام الفيديو أكثر من مرة، وتشكك في قوَّته بوصفه دليلًا، رغبةً في حماية تلميذها أوسكار. يظلُّ هنالك مستوى من الالتزام في توخيها لنهجٍ نزيهٍ تجاه طلابها، نابعًا من دورها ومهنتها كمعلمة. إلا أنّ هذا الالتزام يتعرض أيضًا إلى محاولات لزعزَعته.
يشير نيستا ديڤاين2 إلى أنّ القيم النيوليبرالية السائدة تختزل الرابطة بين المُعلم والمتعلِّم إلى مجرد علاقة وظيفية، خلافًا لحقيقة أنها ترتكز على أسس أخلاقية.
وهكذا، نرى التزامها تجاه طلابها يزعجُ زملائها، فينصحها أحد إداريي المدرسة في نهاية المطاف بالتخلي عن السعي في مصلحة أوسكار. فتردّ عليه قائلةً بمرارة: «يبدو أنّ هذا هو المؤهل الأكثر أهمية في هذه المهنة».
شيءٌ ما في دخيلةِ نفس كارلا كان يتقوَّض أكثر؛ إذ تدركُ، بعد خضوعها لهذه الاختبارات المتلاحقة في قيمها، أنها ليست ملزمةً بتحمّل مسؤوليةٍ أعمقَ من مسؤوليتها الوظيفية، وإنّما ينبغي عليها أن توجِّه نزاهتها وفقًا لما تقتضيه الأحوالُ، عوضًا عن أن تتحكَّم بها نزاهتُها. أي أنّها تستمر في تعديل منظومتها الأخلاقية، بموجبٍ من السلطة التي استشعرتها في نفسها. ذلك أن السُلطة، وإن تضاءلت، فإنما تتضاءلُ لتتناسب مع حجم الفرد الذي يمتلكُها، وتتماشى وتتناغم مع السلطة الأعلى. وتظل في نهاية المطاف قادرةً تمامًا على منح المرونة الكافية وتزويد المبررات مهما كانت واهيةً للتعديل المستمر للمنهج الأخلاقي.  

في أحد المشاهد الأخيرة من الفيلم، بعد أن يُعزل أوسكار عن بقية زملائه، ويبقى في الفصل وحيدًا بعد خروج إداريِّي المدرسة من الفصل للتشاور، تغلق كارلا الباب دونهم وتجلس معه في صمت. يُخرج أوسكار من حقيبته مكعب الروبيك التي أعطته إياه في وقتٍ سابق، ويقوم بحلّه أمامها قبل أن يعيده إليها. لقد كان حرص أوسكار على حلّ اللغز أمام معلمته لافتًا، وكأنه يريد أن يستعيد مكانته لديها ويثبت جدارته بالمعاملة التي اعتادت أن تختصَّه بها باعتباره أذكى طلابها. أيّ أن سعيه الأزلي لنيل استحسانها، بوصفها المعلمة وبوصفه التلميذ، ظلّ حاضرًا لديه، حتى بعد أن سُحقت كرامته وسمعته في المدرسة. وظلّت هذه الفكرة تحركه، محاولًا حفظ علاقتهما في إطارها المعتاد وعلى النحو الوحيد الذي يعرفه. 

لكن المشهد الأخير يأتي غير آبهٍ بهذه المساعي؛ إذ يُحمَل أوسكار بمقعده -في درامية مفرطة- فوق كتفي اثنان من الشرطة لإخراجه من المدرسة. يأتِ هذا المشهد بعد سلسلة من المشاهد القصيرة التي تستعرض قاعات وأماكن مختلفة من المدرسة تظهر هادئة وأحوالها مستتبة. وكأن هذا الإجراء هو كل ما كان ضروريًا وحيويًا لاستعادة استقرارها ونظامها، على غرار ما يذهب إليه رينيه جيرار3 بلجوء المجتمعات المتقلقلة إلى التضحية بالطرف الأضعف -في مثل هذه الحالة- وإلقاء مسؤولية الأزمة عليه وحيدًا. يأتي مشهد اخراج أوسكار بمقعده من المدرسة لا لاستعادة السلام فحسب، بل لتأكيدِ مدى التزام المدرسة بسياسة عدم التساهل، المطلق والنسبي في آن واحد. 

وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الفيلم هو العمل الروائي الطويل الأول لكلٍّ من مخرجه وكاتبه. وتتميز بطلته الرئيسية، ليوني بنيش، بأداء دور كارلا باقتدار كبير. ويبدو أن المخرج إلكر تشاتاك ما زال يسعى إلى استكشاف أسلوبه الخاص، إذ يؤخذ عليه عدم قدرته على خلقِ زخمٍ في سيرِ القصة بشكلٍ انسيابي دون جهدٍ ظاهر، حيث يتكرر أسلوب قطع الحوار أو قطع الحدث في بعض المشاهد عن طريق تدخّل أحد الشخصيات. فيستشعرُ المُشاهدُ المأزقَ في انسيابية القصة من أجل الانتقال للمشهد أو الحدث التالي دون مساعدةٍ واضحةٍ أو تطبيقٍ مباشرٍ وصريح لقاعدة السبب والنتيجة في صناعة السيناريو.

الهوامش:

1. داميان كوكس ومايكل ليفين (٢٠١٧). السينما والفلسفة ماذا تقدم إحداهما للأخرى. ترجمة: نيڤين عبد الرؤوف. هنداوي. ص٢٤٧
2. نيستا ديڤاين (٢٠٢٤). أصول التدريس والسياسة. الفلسفة والنظرية التربوية، ٥٧(٩): ٨٥٥-٨٦٢.
3. المقصود المنظر الاجتماعي رينيه جيرار وآلية كبش الفداء.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى