سيرة ذاتية وهمية، فيلم «إميلي» نموذجًا

July 25, 2024

عقدتَ العزم على تدوين سيرتك الشخصية، بمختلف محطاتها شاملًا بذلك المرتفعة منها والمنخفضة. في البدء يستلزم الأمر أن تغوص عميقًا في التفاصيل المهمَلة من حياتك، دون أن تغفل عن تلك البارزة. ولن تتوانى في تقفّي أثر حدث طنّان ظاهر كان له النصيب الأكبر في تلوين عالمك. فدماغك يضج به ويمددك بالأدوات اللازمة بغية سرده حقيقيًا دون أي شوائب. ولكن لعلةٍ لا ناقة لك فيها ولا جمل تهربُ منك لحظاتٌ كنتَ قد أيقنتَ بأهميتها أو لعلها كانت مؤدية لأخرى تتضح معالمها داخل ذاكرتك. تبدأ متمهلًا في محاولات حثيثة منك لسد تلك الفجوة. قد تُرغم على توهم قصص تقنع نفسك بصحتها رغم عدم حضورها سابقًا. يبدأ ميزان الحقيقة في الاختلال قليلًا لتتساءل معها عن مدى ملاءمة تلك القصة لحياتك الواقعية. تلك الفرضية ستزداد صعوبةً مع وضع معطيات أخرى، هذه المرة في جعل شخص غريب يتولى زمام قصّ حكايتك، فذاكرتك التي خانتك أول مرة سيُضاف إليها دماغ آخر ذو رؤية ومنظور قد لا يتواءم معك. أما الأدهى والأمّر إن كنت غائبًا عن الحياة وبدأ أولئك الأغراب في استنطاق أفعالك المستورة.

في فيلمها «إميلي» (2022) Emily، أمسكت المخرجة فرانسيس أوكونور بزمام الراوي المؤتمَن على أسرار الكاتبة «إميلي برونتي»، فحياة الغموض التي كنفت نفسها داخلها تستوجب يدًا قادرة على تفكيك تلك الألغاز، فقد كانت الأخوات «برونتي» -بما فيهن «إميلي»- متكتّمات حول هويتهن وعن عدم معرفة العامة كتاباتهن، بما في ذلك الأب المغيب. شخصية تفيض بتلك السرية والحرص على أن تحيط نفسها بهالة من الغموض.. ما السبيل لتُبحر داخل عالمها؟ هناك رسائل ناجية ظلت «إميلي» دؤوبةً على كتابتها، بل إنها أَجبرت -وهو اعتقاد مبني على شواهد- شقيقتَها الصغرى «آن» أن تقوم بذات الفعل، وهي من نوعية الرسائل التي تخاطب المستقبل وتُفتح ليتم إعادة قراءتها وكتابة أخرى جديدة كل ثلاثة أعوام تزيد أو تنقص. وما من مناسبة أفضل من يوم الميلاد لأداء تلك المهمة. خربشات تتحدث فيها «إميلي» عن تطلعاتها المستقبلية وما استجد داخل حياتها من أحداث، إلا أن تلك الرسائل كانت مقتضبة كما هي شخصية «إميلي» في عدم الإسهاب بما جرى في حياتها وتدثرها تحت أغطية يصعب التغلغل بداخلها. ولعل ذلك الوصف المقتضب داخل رسائل «إميلي» يضعنا في موضع تفهم أن اتخذ سارد قصتها طريقًا لم تتضح معالمه رغبة في الاهتداء إلى نهاية الرحلة.

قد ييأس الراوي لتلك القصة من شح المصادر المتحدثة عن وقائع «إميلي برونتي»، إلا أن تلك الندرة كانت دافعًا للمخرجة «فرانسيس أوكونور» حتى توغل في عوالم الخيال المستند إلى الواقع، كون مَن تدور الأحداث حولها شخصيةً حقيقيةً في النهاية. ولعل غموض شخصية «إميلي» وإتلافها لعديدٍ من مذكراتها الشخصية ورسائلها كان سببًا في إعطاء أرض واسعة تبني فوقها المخرجة «أوكونور» ما شاء لها من أقاصيص، وقد صرّحت بهذا الأمر علانية بقولها: «إن كنتَ ترغب في معاينة قصة إميلي برونتي فعليك أن تنسى هذا الأمر». ولعل «أوكونور» حاولت من خلال سردية الفيلم أن تجد إجابة لاستفسارات عدة عن حياة «إميلي» المجهولة، أحدها كان إيجاد سبب مقنع لإتقان «إميلي» الشديد للغة الفرنسية، والذي ظل محل سجال بين كُتاب السيرة الذاتية للأخوات «برونتي». من البديهي أن العيش لعامٍ تقريبًا في بروكسل سيفي بالغرض، وهو ما تم لـ«إميلي» في فترة من حياتها، لكن وردت تلميحات كثيرة بأن «إميلي» أتقنت اللغة الفرنسية في فترة وجيزة جدًا، مما دل على تعلمها اللغة سابقًا في مسكنها داخل يوركشاير. وضعت «أوكونور» سببًا يحتمل صحته وخطأه في آنٍ معًا. قَدّمت شخصية القس «ويليام ويتمان»، والذي بدوره كان حقيقيًا، لكن ثنايا قصته كانت مختلقة. وظّفته جيدًا في دور العاشق لـ«إميلي برونتي» ومن يحوز على نسب الفضل كاملًا في إتقانها للغة الفرنسية. تلك القصة لا تستند إلى براهين تشير إلى تلك الواقعة، بل على العكس من ذلك، فهناك أدلة تشير إلى نشأة علاقة ملتهبة بين ذلك القس وشقيقة «إميلي» الصغرى «آن». إذًا لم تكتفِ «أوكونور» بالتوغل داخل ظلل «إميلي برونتي»، لكن مدّت ساعديها لخطف وقائع حصلت لمن هم حولها، ولعله اقتباس في هيئة سرقة.

مرة أخرى حاولت «أوكونور» استقصاء أمر آخر سيظل مكتومًا في باطن «إميلي» وهو تساؤل عن الدافع الذي أدى لكتابة «إميلي» لروايتها الخالدة «مرتفعات ويذرينغ». ومرة أخرى يهم القس «ويتمان» بعلاقته العاطفية المفتعلة مع «إميلي» لنجدة «أوكونور» في تفسير وقائع الأحداث داخل حياتها، وهو ما جعل الفيلم ذا طابع رومانسي في النهاية. سبب تمسُّك «أوكونور» بتلك الأحدوثة هو اقتناعها التام بأن «إميلي» خاضت عاصفة هوجاء من مشاعر الحب التي لم تؤدِّ إلى الخاتمة المثلى، فصنعت منها مشاعر انتقام تصدح بها داخل الرواية اليتيمة «مرتفعات ويذرينغ». ولعل من المرجح فعلًا أن تكون تلك الرواية المليئة بالانتقام والغضب الشديد مستندة إلى مشاعر كرهٍ لشخص عنا لـ«إميلي» كثيرًا.

السكون.. ظل جزءًا متأصلًا في الفيلم، ولعله كان متأصلًا داخل روح «إميلي برونتي» كذلك، فطالما ظلت «إميلي» متعلقة بالطبيعة البكر، بحيواناتها وأشجارها والجداول المشتاقة لوطنها. تلك النزعة البرية التي لم تمسها يد إنسان من قبل ولم يتسنَّ له تطويعها لصالحه، نجدها أيضًا متربصة داخل روايتها الوحيدة «مرتفعات ويذرينغ». ظلت «إميلي» وفية لبلدة هاورث في مقاطعة يوركشاير النائية، وامتزجت معها في تواؤم يصعب فيه تخلّي إحداهما عن الأخرى. والتزمت «فرانسيس أوكونور» بتلك الصلة بتصوير مشاهد طويلة صامتة نتلمس فيها مكنونات تلك الأرض البعيدة. أرادت منا أن ننظر إلى المكان كما أبصرته «إميلي برونتي» قبل قرن مضى.

شاهدتُ الفيلم بشخصيتين. في المرة الأولى كنت لا أعلم عن «إميلي برونتي» كثيرًا ولا عن شقيقاتها ولا عن القس الشاب المتلبس في هيئة العاشق ولا عن تلك البلدة في منطقة يوركشاير. كل ما في الأمر أني سأهم بمتابعة قصة الروائية «إميلي برونتي». وقد وجدتُ فيلمًا دراميًا ذا صبغة رومانسية وقعت أحداثه في قرن انقضت معالمه. القصة تشبه إلى حد ما رواية لـ«جين أوستن» لكن بملامح قوطية، بالذات في عملية الشد والجذب بين العاشق والمعشوق. وُفِّقت هنا المخرجة «أوكونور» بإيصال إيحاء عن فرادة شخصية «إميلي» واتّقاد روحها تجاه ما تكتب. بيد أن المشاهدة الثانية قَدِمت مختلفةً حيث برزت العين المدققة على صحة ما ورد من معلومات بعد اطلاعي على مصادر لا بأس بها عن حياة الشقيقات «برونتي» بما فيهن «إميلي»، مثل علاقة «شارلوت» -الشقيقة الكبرى وصاحبة رواية «جين إير»- بـ«إميلي»، والتي وُسمت بالغيرة والتقليل من فرادة «إميلي» ومحاولات شتى منها في نقد ما تكتبه. كان شعورًا مربكًا وأنا أنظر لذلك التحليل داخل الفيلم، رغم إيماني الشديد بأحقية المخرج في طرح ما يشاء من رؤى، حتى وإن لم تتفق مع ما هو متعارف عليه، فكيف بخلفية مبهمة كما هو الحال مع «إميلي»؟

أعتقد أن «أوكونور» انشغلت كثيرًا بطرح رؤى فريدة لا علاقة لها بما قيل عن «إميلي» ونقطة دفاعها المستحقة أن الجميع يتشارك في محاولة فهم غموض «إميلي برونتي». هو ملعب واسع يحق لها أن تلعب فيه دونما مقاومة من أحد.

ولعل تصنيف مادة فنية ضمن حدود معينة يجعل النظرة قاصرة ومقيدة بإرشادات قد تم تلقينها فيما مضى، في حين أن الفن يهمه كثيرًا كسر القيود وتخطي الحدود المرسومة، فعندما نذكر أن هذا الفيلم يُصنّف فيلمَ سيرة ذاتية، تندفع تلك الأحكام مسرعة -بقصد أو من دونه- بأنّ ذلك الحدث لم يحدث، وهذا حَدَثَ لكن بطريقة مختلفة، والبدء في عقد مقارنات مع ما نمتلكه من معلومات تجاه ما يُعرض أمامنا، وهو ما حصل معي في علاقة «شارلوت» مع «إميلي» وقصة الحب مع «ويليام ويتمان». لعله عيبٌ يظهر جليًا في أفلام السيرة الذاتية، حتى وإن سلّمنا بأحقية المخرج في طرح ما شاء له، بيد أنه أفلت كثيرًا هذه المرة، كون بطلة القصة هي «إميلي برونتي».

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى