سينما نوري بيلجي جيلان: تأملات في الأسلوب والمضمون

September 6, 2024

يسعى هذا المقال إلى التعريف بسينما المخرج/المؤلف نوري بيلجي جيلان1، ويحاول البحث فيها عبر تقصّي ملامحها الشعرية ومفرداتها الجمالية، ثم تقفّي آثار هذه الملامح وصولًا إلى جذورها إن أمكن. وربما أيضًا وضعها في سياق قد يفسر بعض اختياراتها الفنية وجوانبها الاجتماعية.

أعتقد أن بصمة الفنان تتأتّى من اعتناقه لوجهة نظر (نسقيّة) تجاه الحياة وتبنّيه لمواقف ذات مرجعية محددة: وجهة نظر في العلاقات الإنسانية، في العلاقة بين الإنسان والمكان أو بين الإنسان والزمان، موقف من الأوضاع المجتمعية والسياسية، إلخ. وجهة نظر تنضج وتتغير مع نضج وتغير صاحبها، وتؤثر في مقاربته للفن الذي يمارسه، فيتخلّق أسلوبه الذي يصوغ به وجهة نظره ويُعبّر به عن مواقفه، كما يطرح به ما يشغله ويقضّ مضجعه من هموم. ويتشكل ويتبلور هذا الأسلوب إزاء تقدم وتطور المشروع الفني.

عند معاينة أفلام نوري بيلجي جيلان، نُلفي مفردات أسلوبية ناصعة كاللقطات الواسعة والإيقاع المتأني المتأمل والاتصال العميق (الميتافيزيقي) بالمكان والجغرافيا والحضور السابغ للطبيعة، وكلها مفردات أصيلة نابعة من سياق نشأته ونظرته للحياة.

وُلِدَ جيلان في إسطنبول، بيد أنه قضّى السنوات الأولى من طفولته واستقبل أوائل زيارات الدهشة في مدينة Çanakkale «تشاناكالي»، وهي مدينة ساحلية عريقة تشتهر بمتحف طروادة والنوارس التي يخرج الناس لإطعامها. انتقل إليها جيلان وعمره لم يجاوز الحولين، ونشأ في بيئة ريفية بسبب عمل والده مهندسًا زراعيًا. بيئة ريفية ترسّبت سماتها في نفس جيلان: الهدوء، الملل، التأمل، الطبيعة الخلابة، ورسمت كثيرًا من ملامحه، وربما تكون حتى قد نثرت البذور الأولى لاهتماماته فيما بعد، تحديدًا في المرحلة الجامعية: التصوير الفوتوغرافي وتسلق الجبال.. المرحلة الجامعية التي بدأ يتفتح فيها وعي جيلان السياسي، وبدأ معها كذلك وَلَعه بالموسيقى الكلاسيكية عامة وبـ«باخ» على وجه الخصوص، بالإضافة إلى بداية نشاطه في التصوير الفوتوغرافي.

بدأ جيلان دراسته الجامعية في منتصف سبعينيات القرن الماضي حين كان الاستقطاب السياسي بين اليمين القومي المتطرف واليسار على أشده، استقطابٌ نتج عنه عنفٌ (سياسي) راح ضحيته الآلاف، ومجازر سُجّلت، بدم ضحاياها، في التاريخ، أبرزها مذبحة ميدان تقسيم ومذبحة مرعش. ثم بلغ هذا التوتر السياسي والاجتماعي ذروته في انقلاب عام 1980، في بلد عُرف عنه الانقلابات العسكرية، لدرجة أن هذا كان خامس انقلاب عسكري تشهده البلاد في نحو خمسة وسبعين عامًا.

درس جيلان الهندسة الكيميائية لمدة عامين، لكنه لم يحصّل فيهما شيئًا يُذكر، شأنه شأن بقية زملائه، وذلك بسبب أن المحاضرات والأنشطة الدراسية غالبًا ما كانت تتعطل بسبب المظاهرات والمقاطعات، ثم درس الهندسة الكهربائية بعد ذلك، إلا إنه لم يجد ضالته لا في هذه ولا في تلك.

بعد تخرجه، انطلق جيلان في رحلةٍ تشبه الرحلات التي يخوضها أبطاله، بحثًا عن ذاته، ومحاولًا اكتشاف ما يريد القيام به لبقية حياته. كانت المحطة الأولى هي لندن حيث قضى فيها بعض الوقت، ثم ذهب بعد ذلك إلى جبال الهيمالايا في نيبال للتأمل والتقاط الصور، وقرر أثناء تأمله في جبال الهيمالايا وضع نهاية لعملية السفر المتواصلة هذه بين الغرب والشرق، عازمًا العودة إلى تركيا، في دليل آخر على مدى اتصاله بالطبيعة وحالة الوجد التي تُوقِدها بداخله. وبعد عودته وأدائه للخدمة العسكرية، التي فكر في أثنائها كثيرًا، انتوى جيلان أن يُكرّس بقية حياته للسينما.

لا غرو إذن أن ينتهج جيلان في أفلامه منهجًا شاعريًا، في تجربة جمالية تقوم على عنصرين أساسيين هما: الملل والحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، وتعمل على إعادة تعريف تواصلنا العاطفي وتفاعلنا الفكري مع الصور المتحركة على الشاشة (وفقًا لتعريف Ira Jaffe في كتابه «السينما البطيئة»)، وإعادة تشكيل مفهوم الشاعرية نفسه، فالشاعرية هي القدرة على التقاط لحظات إنسانية بعينها وتصويرها أفضل تصوير ممكن، لتترك انطباعًا غائرًا في النفس. وبهذا يتخطى مفهوم الشاعرية حدود المكتوب إلى المرئيّ والمسموع.

ولا غرو كذلك أن يتأثر جيلان، كما تأثر واحدٌ من أبرز مُجايليه، كابلان أوغلو، بسادن السينما الشاعرية، أندريه تاركوفسكي، وهو الأمر الذي يذكره جيلان بوضوح في ثالث أفلامه الطويلة، والفيلم المتمم لثلاثية الريف: Distant «بعيدًا»، حيث يخوض المصور «محمود» -وهي الشخصية المعبرة عن جيلان نفسه في ثاني وثالث أفلام الثلاثية- نقاشًا مع أحد أصدقائه يخبره فيه بأن فن التصوير قد مات، فيذكّره صديقه بأنهم صعدوا قمة جبل من أجل التقاط أفضل زاوية للوادي الأبيض، وبأنه اعتاد القول، حينها، بأنه سيصنع أفلامًا كأفلام تاركوفسكي. في مشاهد لاحقة أيضًا نرى محمود يشاهد فيلمين لتاركوفسكي هما: «مطارد» (1979)، و«مرآة» (1975).

لا يمكن الحديث عن تاريخ السينما دون التوقف أمام تاركوفسكي، بل دعنى أقول أنه، وحده، بالوقوف عند تاركوفسكي يمكننا الحديث عن عملية تأريخ صحيحة للسينما. ومع ذلك فإن وسم التأثر بتاركوفسكي شرف لا يناله كثيرون، وقليلون نجوا من فخ التقليد الأعمى بوضع بصمتهم الخاصة، منهم: تيرانس ماليك، وبيلا تار، وبالطبع المخرج الذي نحن بصدده: نوري بيلجي جيلان.

تتشابه البنية الإيقاعية عند جيلان وتاركوفسكي، ويتوسلان بالصورة من أجل إيصال ما قد يصعب -أو يستحيل حتّى- تخيله، ناهيك برؤيته، فنحت تاركوفسكي في الزمن، ويحاول جيلان الاتصال بفضاءات أكثر رحابة ورهافة، عبر ربط أبطاله بتجليات الطبيعة حولهم.

يتجلى هذا التأثير، إذن، أوضح ما يكون في الصورة، فجذور كليهما في التصوير الفوتوغرافي شكلت لديهما وعيًا حادًا بقدرة الصورة على التأثير، وأنه في أحيان كثيرة تكون الصورة، من خلال التلاعب بعناصرها: كالتأطير والتكوين والإضاءة والألوان، كافيةً، من دون أي حوار، لنقل ما يريدانه. فكما الكلمة قوام الأدب، الصورة قوام السينما. فأخذا يمخران في عباب الصورة السينمائية محاولين سبر أغوارها، والوصول إلى أعماق الطاقات التعبيرية الكامنة فيها، وبالتالي: لمس سمائها. نعم في البدء كان الكلمة، لكن للصورة طاقات لا تقدر عليها الكلمة؛ لذلك قد يتركان شخصياتهم تثرثر في الخلفية، ويتجولان بالكاميرا لعرض صورة من الطبيعة هي أبلغ ألف مرة.

في فيلم «بعيدًا» لجيلان، المشهد الذي أضاء فيه وجه المصور وابتهج للمرة الأولى والوحيدة، بعيدًا عن ذلك الوجه الجامد المتخشب طوال الفيلم، كان عند توقفه بالسيارة للتأمل في ذاك المنظر الطبيعي الآسر، حيث الخِراف تأكل العشب وتعجّ بالثُغاء، وانعكاس أشعة الشمس الذهبية على صفحة مياه البحيرة، والمرتفعات المغطاة بالثلوج تلوح في الأفق. وفي مشهد مشابه من فيلم «القربان» لتاركوفسكي، نشاهد الأب الكهل يجلس مع ابنه على الأرض وسط الأشجار، ويحكي له كيف اختار مع زوجته هذا المنزل الذي يعيشون فيه الآن، وكان الاختيار نابعًا من قرب المنزل إلى البحر، بالإضافة إلى الأشجار العتيدة التي تطوّقه.

نحن أمام عيون نهمة للطبيعة، تضع نصبها كلمات الشاعر اليوناني ديونيسيوس سولوموس:

«الطبيعة سحر وحلم وجمال ودلال

تنبجس من ألف نبع، وتنادي بألف صوت

حتى تستقر في نفس الإنسان.

إن من يمت اليوم فكأنما مات ألف مرة».

يتجلى هذا النهم للطبيعة في الأسلوب الذي ينتهجانه، حيثُ اللقطات الواسعة التي تحتفي بالمناظر الطبيعية الخلابة، لقطات لا تحتاج العين إلى أي دُربة لإدراك الجمال فيها، فهو إدراك مباشر مثله مثل الإدراك بالموجودات حولنا. يتركان هذه اللقطات تتنفس وكأننا نراقب لوحة زيتية وهي تجفّ، في صمت مهيب يوحي بروحانية شديدة، وتحيل بمفهوم ترانسندنتاليّ إلى ما خلف جمال هذه المناظر، لا إلى هذه المناظر في ذاتها، بمعنى التعامل مع هذه المناظر بوصفها تجليات للوجود الإلهي. كذلك نسمع في أفلامهما صوت المطر، وارتطام الأمواج بصخور الشاطئ. نسمع نعيق النوارس، هديل الحمام، وثغاء الأغنام. نسمع حفيف أوراق الأشجار، ونراها بعد أن تسربلت بحُمرة خريفية خجول. نرى الشمس تغرب مُخضِّبة الوجود بحمرة الشفق، نرى تمايل العشب مع النسيم الرقيق، ونرى كذلك توهج الحطب وهو يشتعل تدريجيًا. نشُمّ أريج الأزهار، ونشعر بملمس كل شيء. يعتمدان بوضوح على عناصر الطبيعة، ويحاولان إيصال سحرها للمُشاهد من خلال تكثيف الشعور الحسي بها، مما يُثقل الوزن الشعوري للصورة، ويضفي عليها بُعدًا غارقًا في الواقعية يساعد على التواصل معها، إلا إنها واقعية تأتي على شكل حلم، واقعية سحرية إن جاز التعبير.

وكما يقول شارل لالو في كتابه «مبادئ علم الجمال»: «إن الطبيعة ليس لها قيمة جمالية إلا عندما تنظر لها من خلال فن من الفنون، أو عندما تكون قد تُرجمت إلى لغة أو أعمال أبدعتها عقلية أو شكّلها فن وتقنية».

مفردة أسلوبية أخرى يوظّفها الاثنان هي: الكاميرا الثابتة لفترات طويلة، لرصد الشخصيات أثناء لحظات الفراغ في طيّات غموض هذه الحياة اليومية، فيما يُعرف سينمائيًا بالوقت الميت، مؤكدين على أنه رغم كونها لحظات عابرة، فإنها ليست عاجزة، بل ومن رَحِمِها يتولد المعنى. ومن ثم توظيف طاقة الملل التي يخلفها هذا الوقت الميت على الشاشة، في خلق كنف من حالة روحانية تأمليّة. كذلك تتوزع الطاقة الجمالية للعمل، في أفلامهما، على عدد قليل من اللقطات، مما يُكسِب هذه اللقطات طاقة شعرية وشعورية هائلة.

يؤثر هذا الأسلوب في المُشاهد تأثيرًا يتجاوز حدود وساطة الصورة، ويثير في نفسه انفعالات تتجاوز شكيمة القالب الفني كله، ويبعث أحاسيس غامضة قد تتجاوز، في أحيان كثيرة، قدرة المُشاهد على استيعابها، وتترك في وجدانه ندبة وفي قلبه غصة. ليست اللقطات الواسعة والكاميرا الثابتة لفترات طويلة، إذن، سمات شكلانية فحسب، بل وسيلة فعّالة يتخذها الاثنان للتعبير عن الوحدة والضآلة، وعن تلك الغُربة الميتافيزيقية التي تسري في أفلامهما كما يسري النسغ في الشجرة.

شيء آخر يتشاركان فيه هو حب موسيقى باخ، وهو الأمر الذي أشار إليه جيلان في فيلمه «بعيدًا»، كما استخدم إحدى مقطوعات الفوغا لباخ في فيلمه «سبات شتوي»، أما بالنسبة إلى تاركوفسكي، على سبيل المثال لا الحصر، فقد وظّف موسيقى باخ في المشهد الافتتاحي لفيلمه «مرآة»، وكذلك استخدم مقطوعة «رحماك يا الله» وكاميراه تستعرض لوحة «عشق المجوس» لدافنشي في افتتاحية فيلمه «القربان».

سأنتقل الآن إلى مناقشة الجوانب الاجتماعية في أفلام جيلان:

ينتمي جيلان إلى موجة السينما التركية الجديدة التي بدأت في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، موجة عُنيت في المقام الأول بالهموم الآنية المؤرقة لمزاج الشارع، في إثر تحولات سياسية واجتماعية عنيفة شهدتها البلاد في العقود السابقة، تحولات غيّرت في نسيج المجتمع طبقيًا وإثنوغرافيًا، فقد قامت دولة مصطفى كمال أتاتورك على مجازر سالت فيها دماء الملايين الأبرياء من الأرمن والأكراد. تلك الجذور الدموية للدولة شوّهت وشوّشت الذاكرة الجمعية، والتي بدورها وبنوع من ميكانزمات المقاومة والمعايشة لهذا الواقع الأليم أصبح قوامها: التناسي والإنكار. أيضًا صاحَبَ قيامَ الدولة مشكلات عديدة مع أجوارها على الحدود السياسية. وفوق ذلك كله معضلة الهوية: هل تتبنى الدولة، التي لم تُفطَم بعد، التراث الإسلامي العثماني، أم تجحده وتتجاوزه؟

أضحت تركيا دولةً متخمة بالثنائيات على كل الأصعدة تقريبًا، جغرافيًا وسياسيًا وثقافيًا، دولة ذات هوية مزدوجة ومشوشة، مقسمة بين آسيا وأوروبا، بين الشرق والغرب، بين التقاليد والحداثة. وفي هذا السياق المضطرب يصنع جيلان أفلامه، حاملًا في جعبته كل هذه الأزمات، ساعيًا إلى عرضها على الشاشة عبر بورتريهات تتفرس عن كثب في ملامح شخصياته.

يتجسد وعي جيلان بهذا الموروث المنفر في الموضوعات التي تتوارى خلف القالب السردي الذي يوظفه، فنجد ثيمات مشتركة في معظم أفلامه: الإرث، الهوية، الطبقيّة، الذكورة المنهزمة، غياب الضمير في عملية تراتبية وتوافقية تقوم على دفن الحقيقة. كما فعل الأتراك مع الجذور الدامية لدولتهم.

«ثلاثة قرود» أو أن تبقى الحقيقة مدفونة:

فيلم «ثلاثة قرود»، مثل سائر أفلام جيلان، تنطلق هويته من اسمه الذي يحيلنا إلى لوحة القِرَدة الحكيمة الثلاثة من التراث الياباني. لوحة يغطي فيها أحد القردة عينيه، والثاني أذنيه، والثالث فمه، في تجسيد تصويري للمثل الشعبي القائل: «لا أرى شرًا، لا أسمع شرًا، لا أتكلم شرًا». ورغم أن هذه اللوحة تحثّ على الحكمة والحصافة، وهو الأمر الذي يتضح حتى من اسمها، فلقد لوى جيلان هذا المعنى في سياق الفيلم، واكتفى بمعناها الأصم: «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم».

يستهل جيلان الفيلم بمشهد لحادث يقع في جنح الليل، في أجواء تنتمي إلى «الفيلم نوار» film noir، لا تتضح فيها على وجه الدقة تفاصيل الحادث. ثم في المشهد التالي يستدعي السياسي «ثروت» سائقَه «أيوب»، ويقنعه بأن يسلِّم نفسه للشرطة بدلًا منه، في مقابل مبلغ سيدفعه له بعد أن يقضي مدته في السجن، وأيضًا التزامه بدفع راتبه الشهري لأسرته طوال المدة. يوافق أيوب بحكم وضعه الاقتصادي والاجتماعي، دون حتى أن يستشير زوجته «هاجر» ولا ابنه «إسماعيل»؛ فهو بطريرك الأسرة. ومن هنا تنطلق عملية دفن الحقيقة التى ستلازمنا طوال الفيلم.

يمكن من خلال هذين المشهدين قراءةُ كثيرٍ، فالسياسي يرتكب جريمة، ومَن يُعاقَب مُواطن بسيط من طبقة اجتماعية أقل. وللتأكيد على هذا المعنى، تدور في الخلفية أحداث سياسية فارقة، حيث نتابع من خلال شاشة التلفزيون إعلان فوز حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان بمنصب رئاسة الحكومة. والأهم من هذا، يمكن بسهولة استشفاف ملمح الفيلم الأهم: غياب الحقيقة في ظل عملية دفن وتزييف توافقية وتراتبية.

مع تطور الأحداث، نكتشف أن موافقة أيوب على هذا التزييف كان نقطة البداية لسقوط حر لأسرته في هوة التحلل الأخلاقي، حيثُ تنشأ علاقة غرامية بين زوجته هاجر وثروت، وينزلق ابنه إسماعيل في وهدة سحيقة من الفشل والعنف. يكتشف إسماعيل مصادفةً علاقة أمه بثروت، إلا إنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، فيخفي الأمر عن والده في زيارته التالية له في السجن، ويخفيه عنه حتى بعد خروجه. وفي مشهد صادم يواجه إسماعيل أمَه بالحقيقة، فتنكرها، فما كان منه إلا أن يصفعها على وجهها.

يخرج أيوب من السجن، ويكتشف تدريجيًا خيانة هاجر من خلال رنة موبايلها الطريفة، إلا أنه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم كذلك. وبشكل يتناقض تمامًا مع مظهره بوصفه رجلًا محافظًا، لا يواجه زوجته بالأمر، في مفارقة تدل على الذكورة المنهزمة، وهي ثيمة يتردد صداها في كثير من أفلام جيلان.

في نهاية الفيلم يقوم الابن إسماعيل بقتل ثروت انتقامًا، ثم يكمل الفيلم دورة كاملة من دفن وتزييف الحقيقة، حين يقنع أيوب عامل المقهى «بيرم» بأن يدخل السجن بدلًا من ابنه إسماعيل في مقابل مبلغ من المال بعد خروجه، ويسوّغ له هذا القرار بأن الشتاء قادم وأن السجن سيكون أدفأ من هذا المقهى الذي يبيت فيه. وبهذا تكون هذه الأسرة تجسيدًا مصغرًا لحالة مجتمع تبنى دفن الحقيقة وتزييفها من اللحظة الأولى لنشأته، في عمليةٍ ينبت جذرها التوافقي التراتبي من توغل الطبقية في المجتمع وتمكنها من منظومة العدالة، في تماثلٍ جليّ مع ما قاله ميشيل فوكو بأن منظومة العدالة وغيرها من مؤسسات إنفاذ السلطة كالشرطة والجيش، وحتّى التعليم، موجودة لخدمة وحماية طبقة اجتماعية معينة. وهو ما ينطبق على الحالة الأولى في الفيلم. وبالتالي أيضًا كلما ارتقت طبقتك الاجتماعية، كلما زادت فرصتك في الإفلات من قبضة العدالة والقانون. وهو ما ينطبق على الحالة الثانية الواردة في الفيلم. كما لا يجب أن تفوت علينا دلالات الأسماء: أيوب، هاجر، إسماعيل.

«ذات مرة في الأناضول» ونزق الجغرافيا:

يستخدم جيلان هنا هيكل الجريمة البوليسية لينسج القصة حوله، وفي ثنايا رحلة البحث عن مكان الجثة، نتعرف أكثر إلى الأحياء، وتتكشّف أسرارهم المدفونة.

يعرض الفيلم القضايا نفسها التي تناولها «ثلاثة قرود»، فنجد الذكورة المنهزمة وتزييف الحقيقة يتجسدان أوضح ما يكون في شخصية رئيس النيابة «نصرت». فعلى الرغم مما يبدو عليه من هيبة ووقار واتزان، نكتشف رويدًا رويدًا على طول الفيلم، من خلال محادثاته الجانبية مع شخصية الطبيب «جمال»، أنه كان السبب وراء انتحار زوجته، إثر عِلمها بخيانته لها. يحاول نصرت جاهدًا أن يزيف ويتغافل عن هذه الحقيقة المُرة، إلا أن جمال من خلال شكّه وقلقه الدائمين لا يترك له مناصًا. وينتهي الفيلم بإشارة إلى عملية دفن الحقيقة التي لا تتوقف في المجتمع، حين يكتشف جمال أثناء تشريحه للجثة أن صاحبها دُفن وهو لا يزال على قيد الحياة. يتجاهل الطبيب هذه الحقيقة ويختار واعيًا ألا يذكرها في تقريره، ملطخًا نفسه وأمانته. وهو ما يصدّق عليه جيلان بصريًا، عندما تتطاير قطرة دم من الجثة، وتستقر على وجهه ولا ينجح في إزالة أثرها كليةً.

لا أحد يعلم ما الذي يجرى في الأناضول:

يومىء جيلان إلى مشكلة التباس الحدود أو ما أُحب أن أُطلق عليه نزق الجغرافيا، حين اختلطت الأماكن على المجرمين، بسبب تشابه المناظر إلى حد كبير. والذي قد يرتبط كثيرًا بالالتباك والارتباك حول تركيا نفسها، والتاريخ الممتد من الصراع مع اليونان حول الحدود. ويتجلى هذا أيضًا في مناقشة الضباط عن مكان الجثة في محاولة لتحديده بدقة، حيث إن النافورة تفصل بين منطقتين، وأن الجانب الشمالي يمثل كيزيلكولو، والجنوبي يمثل ساريكولو.

بالتأكيد لم أعرض كل جوانب أفلام جيلان كالحضور النسائي الخافت، وماهية الإرث الثقافي، وذلك لأن المجال لن يتسع لمناقشتها كلها. ولكن قبل إنهاء المقال سأعرج على نقطة أخيرة تتعلق بالإيحاءات الأدبية في أسماء الأفلام:

يختار جيلان أسماء أفلامه بعناية فائقة، في عملية انتخاب واصطفاء دقيقة للغاية، إدراكًا منه بأن هوية الفيلم تنطلق من اسمه، فتصبح هذه الأسماء ذواتًا فاعلة في تخليق المعنى، وتُحيل إلى ما هو أبعد من الفيلم، تُحيل إلى ما خلف عملية الخلق الفني كلها. فعندما يسمي فيلمه «شجرة الكمثرى البرية»، تثير فرادة الاسم وأصالته الشديدة نوعًا من الغرابة، فيصبح شخصية فاعلة معنا تساهم في خلق المعنى، حيثُ يكتسب الفيلم من وراء الصورة التي يستحضرها الاسم في ذهن المتلقي طاقة غموض تنبع من سؤال بديهي: لماذا اختار جيلان هذا الاسم تحديدًا؟، وهو في الوقت نفسه تأكيد على ارتباط جيلان الوثيق بمظاهر الطبيعة.

وعندما يسمي فيلمه «ذات مرة في الأناضول» أو «كان يا ما كان في الأناضول»، موظفًا التركيب اللغوي المُستخدم عند استهلال الحكايات، الفولكلورية منها تحديدًا، هو بذلك يُهدي لنا المنظار المناسب لمشاهدة الفيلم، ويؤكد على هذا الأمر من خلال المشهد الساحر الذي تقدم فيه ابنة العمدة الشاي على إضاءة شمعية أخّاذة. وكذلك يستعير «الأناضول» مكانًا لبُعده التاريخي لدى الأتراك، وبُعده الشخصي لدى جيلان، بل ولا يستعيره بوصفه مكانًا فقط، بل شخصيةً تؤثر في مجريات الأحداث من خلال مناظره التي تتشابه حد التطابق، مؤكدًا مرة أخرى على دور المكان في توليد المعنى.

وعندما يسمي فيلمه «بعيدًا»، فهو يُعبّر بالاسم عن لبّ الفيلم، ويمهد لنا -في إيجازٍ- ما نحن مقبلون على رؤيته، من فيلم عن فنان في حالة عزلة تامة، لا يستطيع التوفيق بين طموحاته الفنية -بأن يصنع أفلامًا كأفلام تاركوفسكي- واضطراره للعمل في التصوير للمجلات التجارية لكسب لقمة العيش. محمود هنا يمثل نموذجًا لحالة اللاانتماء والاغتراب التي تكررت في أفلام لاحقة، كشخصية الطبيب في «ذات مرة في الأناضول» أو شخصية سِنان في «شجرة الكمثرى البرية».

وكذلك يعتمد جيلان على المناخ وتفاصيله في تشريح الحالة النفسية لشخصياته، فينعكس ذلك على عناوين أفلامه: «سحب مايو»، «مناخات»، «سبات شتوي».

الهوامش:

1. سينما المؤلف هي مفهوم يشدد على دور المخرج بوصفه مبدعًا رئيسًا في إنتاج الفيلم وتمييز أسلوبه الشخصي وموضوعاته عبر أعماله.

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى