سينما من أجل المجتمع الإنساني: السينما الاجتماعيَّة وأصغر فرهادي

إحدى التهم التي يوجِّهها البعض - نقَّادٌ ومشاهدون وحتى سينمائيُّون - إلى فرهادي، هي أنَّ أعماله تفتقرُ إلى الحضور الكافي للبُعد الاجتماعي، وقصصُ أفلامِه، لا سيما التي جاءت بعد «المدينة الجميلة» (The Beautiful City - 2004)، تدور في أجواءٍ بعيدةٍ عن مجتمعنا ذي الطبيعة الاحتجاجيَّة، ولا يُرى فيها أيُّ أثرٍ للاضطرابات الاجتماعيَّة. وهذه الملاحظات لم تُذكر بلا مبرر، إذ لم يُشَر في أيٍّ من أعمال فرهادي إلى الأحداث المعاصرة، كما لو كان يعيش في عالمٍ آخر، لا يمتُّ بصِلَةٍ إلى عصرنا وتقلُّباته إلا في مسألة الانحطاط الأخلاقي. ومع هذا، لا ينبغي إغفال أن القضيَّة الأخلاقية تُعدُّ جذرًا للاضطرابات الاجتماعيَّة. فالكذب، والأحكام المتسرِّعة المفتقرة إلى الأساس السليم، يشكِّلان مضمون أعمال فرهادي في السنوات الأخيرة.

أعتقد أنَّه، من أجل توضيح الصورة، لا بدَّ من تقسيم مسيرة فرهادي السينمائيَّة إلى مرحلتين: المرحلة الأولى، تضمُّ المسلسلات التلفزيونية التي كتبها، بالإضافة إلى الأفلام السينمائيَّة: «الرقص في الغبار» (Dancing in the Dust - 2003)، و«المدينة الجميلة»، وسيناريو «دائرة الحياة» (Dayere Zangi - 2008) من إخراج زوجته پریسا بخت آور. تتمحورُ جميع أعماله في هذه المرحلة حول الفقر، إذ يُشكِّل ثميتها الرئيسة.

أما المرحلة الثانية، فتبدأ بـ «أربعاء الألعاب الناريَّة» (Fireworks Wednesday - 2006)، وتستمر إلى فيلم «بخصوص إيلي» (About Elly - 2009) و «انفصال» (A Separation - 2011)، وهي أعمالٌ استبدل فيها فرهادي محوريَّة الفقر والتعاطف مع المحرومين، وأحلَّ محلَّها النقد الأخلاقي، خصوصًا في أوساط الطبقة المتوسِّطة في المدن.

يُعدُّ فرهادي في مرحلته الأولى - بحسب رؤية متابعي مسيرته السينمائيَّة - صانعَ أفلامٍ ذا طبيعةٍ ناقدة، أي أنَّه، بالضرورة، «اجتماعيٌّ» بالمعنى المُتداوَل في مجتمعنا المشحون سياسيًّا.

على سبيل المثال، كان فرهادي في «المدينة الجميلة» يتبنَّى موقفًا نقديًّا صريحًا نحو بعض القضايا الاجتماعيَّة الحادَّة. من بينها مسألة القصاص، والتي تُعدُّ إجراءً قضائيًّا في الجمهوريَّة الإسلامية أثار جدلًا عالميًّا. في هذا الفيلم، يطعن فرهادي في أصلٍ دينيٍّ مركزيٍّ، يُستَخدم في النظام القضائي ضد المتَّهمين بالقتل.

من هذا المنظور، يُعدُّ فرهادي من أوائل الفنانين الذين تناولت أعمالهم بعض القوانين الجنائيَّة، موجِّهًا إليها نقدًا من منظورٍ إنساني (Humanism).

يحكي فيلم «المدينة الجميلة» قصة شابٍّ يواجه حكمًا بالإعدام بعد بلوغه الثامنة عشرة، لأنَّه ارتكب جريمة قتلٍ أيَّام مراهقته. يتشكَّل الإطار السردي للفيلم من خلال إبراز المحاولات التي تبذلها شقيقته، بمعيَّة صديقه السابق في السجن، بُغية إنقاذه، في مقاربةٍ اجتماعيَّةٍ جريئةٍ لم نشهد مثلها من قبل في أيِّ عملٍ سينمائيٍّ آخر (على الأقل بهذه الصراحة).

أما في المرحلة الثانية لفرهادي، فنراه يبتعد عن هذه المواقف الاجتماعيَّة الحادَّة ويتجه نحو القضايا الأخلاقيَّة. ويمكن تفهُّم ذلك بافتراض أنَّ فرهادي، بدافع التحفُّظ والحذر، يتَّجِه نحو موضوعاتٍ تُفَضِّلُ  - من منظور سوسيولجي - النزعةَ الفردانيَّة وتُقدِّمُها على نقدِ البُنى الاجتماعية. بل يمكنُ المضي أبعد، والقول إنَّ تعهُّدَ الابنِ بأبيه، كما يُطرح في «انفصال»، أو سلبيَّة الشخصيَّة الرئيسة في فيلم «الماضي» (The Past - 2013) تجاه وضع زوجته السابقة، أو انتقام «عماد» الشخصي في «البائع» (The Salesman - 2016)، كلُّها نماذج نرى أنَّها لا تحمل طابعًا اجتماعيًّا شاملًا، وتبدو أقرب إلى الهموم الفرديَّة منها إلى القضايا الاجتماعيَّة.

جميعُ هذه الملاحظات قد تبدو صائبةً من ناحية، وخاطئةً من ناحيةٍ أخرى؛ لأنَّه من الممكن، في صميم هذه القصص الفرديَّة، رؤية لمحاتٍ احتجاجيَّة – وإن لم تكن مُعلنةً وصريحة. ممَّا يجعل مسألة الاعتقاد بأنَّ فرهادي سينمائيٌّ ذو توجُّه اجتماعي لها وجاهتها. غير أنَّه لا يسلك مسار الواقعيَّة الاشتراكيَّة، بل هو أقرب إلى كُتَّاب الدراما والواقعيين الكلاسيكيِّين الذين انطلقوا من موضوعاتٍ ذات مضامين خالدة، فخلقوا أعمالًا باقيةً في الذاكرة.

بعبارة أخرى، يُعدّ فرهادي سينمائيًّا واقعيًَا (Realism) بالمعنى المُتعارف عليه؛ يَطرحُ المشكلاتِ الاجتماعيَّةَ التي يعاني منها إنسانُ اليوم (بعيدًا عن الجغرافيا الثقافيَّة والطبيعيَّة). لذا فإنَّ مظاهر «الانحطاط الأخلاقي» التي تُشكِّل البنية الأساسيَّة لأفلام فرهادي: «أربعاء الألعاب النارية»، «بخصوص إيلي»، و«انفصال نادر عن سيمين»، وغيرها، ليست مقصورةً على جغرافيا بعينها، ففي جميع المجتمعات البشريَّة يمكن رؤية صورٍ من هذه الظواهر.

يعتقد البعض أن زمنَ السرديات الكبرى في الأدب والسينما قد مضى، وأنَّ المواقف اليوميَّة، أو ما تُعرَف بـ«السرديَّات الصغرى»، هي التي تتصدَّر المشهد. ومع ذلك، يظلُّ فرهادي متمسِّكًا بالسرديَّات الكبرى. وربما هذا ما يفسِّر وصول أفلامه إلى كلِّ مكانٍ في العالم، لأنَّ الناس كلُّهم، مهما اختلف لونهم وعِرقهم وانتماؤهم القومي، يلتقون في خصائصَ إنسانيَّة مشتركة؛ فالأكاذيب والمراوغة، و«أن تكون أعمى ناحية عيوبك وتراها في الآخرين» هي صفاتٌ يشترك فيها الجميع.

لذا فإنَّ فرهادي فنَّانٌ بالمعنى الواسع للكلمة، يرى الأشياء بكليَّتها ولا يهتف لرايةٍ بعينها. أعتقدُ أنَّ سوء الفهم القائم عنه وعن أعماله يعود إلى سوء الفهمِ القائم عن مصطلح «اجتماعي»؛ إذ غالبًا ما تَردَّدَ على الألسنة - في الوعي الشعبي - بأنَّه مرادفٌ للاحتجاج، ومن ثَمَّ يُقرن تلقائيًّا بالممارسة السياسيَّة.

ثمَّة ملاحظة أخرى: يستخدم بعضهم مصطلح «اجتماعي» باعتباره نوعًا فنيًّا، وقد كنت لسنواتٍ أعتقد ذلك أيضًا، في حين أن «النوع» يُعرَّف بناءً على عناصر ظاهريَّة مشتركة؛ فعندما نقول «ويسترن» فإنَّنا نعني نوعًا محدَّدًا من الأفلام تدور حول رعاة البقر ومربِّي الماشية وقُطَّاع الطرق، وأمثالهم ممن عاشوا في الغرب المتوحِّش؛ أو حين نقول «أفلام حربيَّة» فالمقصود واضح: أفلامٌ تدور حول الحرب والمقاتلين، وتقع أحداثها في ميادين القتال.

على هذا الأساس، إذا سلَّمنا بأنَّ إطلاق صفة «اجتماعي» على الأفلام يمكن أن يُعدَّ نوعًا سينمائيًّا قائمًا بذاته، فما الوجوه المشتركة والعناصر الثابتة لهذا النوع؟ وهل له ملامحُ شكليةٌ مميَّزة، كونه يَنتقدُ القضايا الاجتماعيَّة؟ من الواضح أنَّه لا يملك ذلك.

إذن، أليس من الأفضل استخدام مصطلح «السينما الاجتماعية» عِوَضًا عن استخدامنا لـ «النوع الاجتماعي»؟ على الأقل هو مصطلحٌ يُقدِّم إلى الذهن مفهومًا أوضح. أعتقد أن فرهادي، في جميع أعماله، يتبنَّى توجُّهًا اجتماعيًّا واضحًا وقويًّا، وهو ناتجٌ عن خلفيَّته الاجتماعيَّة ووضعه العائلي.

ليس فرهادي استثناءً، فغالبيَّة صنَّاع السينما «الملتزمين» لدينا - بالمعنى غير السياسيِّ للكلمة - يحملون الميل نفسه. خذ مثلًا مخرجًا مثقَّفًا مثل داريوش مهرجوئي، الذي ما من شكوكٍ حول شموليَّة رؤيته عندما يختار موضوعًا ميلودراميًّا محضًا، كما في فيلم «ليلى» (Leila - 1997)، حيثُ تنبعثُ رؤيته الاجتماعيَّة من ثنايا الحكاية، ويظهر نقده للتقاليد في مقابل الحداثة، رغم الطابع الفرداني الذي تحمله القصَّة.

وإذا نظرنا إلى أفلام فرهادي من هذا المنظور، سندرك استمراريته في هذا النهج الاجتماعي، وسيظل كذلك، لأنَّ هذا التوجُّه مغروس فيه. وكما يُقال: «هكذا تربَّى، وهكذا يرى العالم».

***

مصدر المادَّة

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى