في كل مرة تصدر فيها دراسات حول ذلك النوع السينمائي الذي يُطلق عليه اسم «أفلام السيرة الذاتية»، وهو نوع يكاد يكون جديدًا من بين الأنواع السينمائية الأكثر جدية في تاريخ السينما، والتي تحظى باهتمام كبير عادة، وبقدر من الاحترام لا بأس به، من المرجح أن السينمائي العربي الوحيد الذي يُضَم اسمه وعناوين عدد من أفلامه إلى اللوائح التي تتحدث عن أفضل ما أُنتج ضمن إطار هذا النوع، إنما هو يوسف شاهين، المخرج المصري الكبير الذي عاش ما بين 1926 و2008 وحقق متنًا سينمائيًا بالغ الأهمية، خاض به طوال ما يزيد عن ستين عامًا عدة أنواع سينمائية. غير أن متنه في مجال «سينما الذات» يمكن حصره في أربعة أفلام تُعتبر ضمن سياقها من أمهات أفلام هذا النوع على الصعيد العالمي، ما يجعل اسمه يرِد في المرتبة الثانية، تاليًا لاسم الإيطالي الكبير فيدريكو فيلليني الذي يكاد يُعتبر رائد النوع على الصعيد العالمي بعدد مماثل لعدد أفلام شاهين في هذا المجال، إن لم يزد عنه قليلًا. ومهما يكن لا بد من الإشارة إلى أن مجمل الإنتاج السينمائي في العالم لهذا النوع لا يتجاوز عشرات الأفلام المرموقة، كما أن مخرجيها لا يزالون قلة، في المجال المنظور والصريح على الأقل. وذلك لأننا لو حاولنا التبحر في ما قد نعتبره «حضورًا مواربًا» لذاتية السينمائيين في أفلامهم لاحتجنا مئات الصفحات. لكنّ ما نتطلع إلى الحديث عنه هنا إنما هي تلك الأفلام التي حققتها تلك القلة من السينمائيين الكبار ليحكوا من خلالها فصولًا من حياتهم.
وربما لا نحتاج هنا إلى التوقف عند ما يبرر اختيارنا يوسف شاهين و«رباعيته الذاتية» موضوعًا لحديثنا. ولكن لا بأس قبل ذلك من الإشارة إلى أن شاهين قد افتتح بهذه الرباعية تيارًا بكامله في السينما العربية سار على منواله فيه تلاميذه من أمثال يسري نصر الله وخالد الحجر، كي نكتفي بهذين المثلين الساطعين ونضيف إليهما تامر السعيد في تحفته «آخر أيام المدينة» في مصر، ونوري بوزيد وربما فريد بوغدير، في تونس، ومحمد ملص وعبداللطيف عبدالحميد، إلى حد ما، في سورية، ولكن بخاصة الفلسطيني إيليا سليمان الذي قد يكون من مميزات «رباعيته» هو الآخر كونها قام بنفسه فيها بدوره في الحياة، حيث حضر على الشاشة بنفسه فأتى أداؤه قيمة إضافية لتجديداته الفنية التي يمكن احتسابها بين أروع ما عالج القضية الفلسطينية من أفلام.
ويعيدنا هذا بالطبع، هنا، إلى يوسف شاهين الذي كان صاحب المبادرة المصرية الأولى في هذا المجال، لنستطرد في الكلام عنه ملتقطين الحكاية مما قلناه عن إيليا سليمان، فإذا كان هذا الأخير قد روى «حكايته» من خلال أدائه بنفسه دوره الخاص فيها، فإن شاهين لم يفعل ذلك إلا في فيلم واحد من أفلام رباعيته التي قد يكون مناسبًا أن نسميها «الرباعية الإسكندرانية» لو لم يكن الكاتب الإنجليزي لورانس داريل قد سبقه إلى استخدام العنوان نفسه لروايته التي تدور في الإسكندرية..
لم يقم شاهين بدور يحيى شكري (الياء هنا إشارة إلى يوسف بالطبع، أما الشين فإشارة إلى شاهين، كما لا يخفى على القاريء) بنفسه إلا في ثالث أفلام الرباعية، «إسكندرية كمان وكمان»، أما في الأجزاء الثلاثة الأخرى فوزّع سيرة حياته على محسن محيي الدين في «إسكندرية ليه؟»، ونور الشريف في «حدوتة مصرية»، ليكون مسك الختام، محمود حميدة في «إسكندرية نيويورك». صحيح أن تلك الأفلام الأربعة التي حققها شاهين بين العام 1978 والعام 2001 تتكامل فيما بينها، غير أنها إنما تنهل من ربط يقيمه المخرج في حكايته -حتى حين يستعين بمساعدين له على كتابة السيناريو- بين ما هو خاص به وما هو مرتبط بالعالم خارجه، بحيث قد يكون من الصعب القول بأن الأفلام تشكل حلقات في سيرة سينمائية حقيقية. هي بالأحرى أجزاء من نظرة إلى العالم تنطلق من الذات لتصب في نوع من تفكير إيديولوجي ينبني على وعي راهن للمخرج ويكاد يبدو أحيانًا نوعًا من استخدام للذات للاطلاع على العالم الموضوعي. ومن هنا لا بد من التوقف عند الفيلم الأخير في الرباعية والذي يتابع بالتأكيد فصولًا من حياة يحيى (يوسف) ولكن بترتيب عشوائي يقل ذاتية، مثلًا عنه في «حدوتة مصرية» الذي ينطلق من أزمة صحية اعترت «البطل» ودفعته إلى تأمل حياته ومحاكمة الطفل الذي كانه للكهل الذي صاره، كما يقل ذاتية عما في «إسكندرية كمان وكمان» الذي يجابهنا فيه شاهين بنفسه هذه المرة، ولكن موزعًا على شخصية ثانية في الفيلم، هي يسرا التي تكاد تشكل أنا/آخر إذ تعايشه وتحاوره وتناكده، في صراعاته الإبداعية والعاطفية والمهنية الحقيقية. وقد يكون في إمكاننا قول الشيء ذاته متسائلين عن «صدق» شاهين في فيلم الرباعية الأول «إسكندرية ليه؟» في الغوص في حياة الشاب الذي كانه يوم خاض الصراع مع أهله في سبيل التوجه إلى أميركا لدراسة السينما غداة فقدان العرب فلسطين وضلوع أميركا في التآمر العالمي الذي أدى إلى ذلك الفقدان.
في تلك الأفلام إذًا دنا شاهين حقًا من سيرته مكرسًا موهبته السينمائية الكبيرة لإيصالها إلى متفرجه، وبقدر من الجرأة ندر أن رأينا ما يماثله في السينما العربية، على الأقل حتى ظهور أول أفلام الثلاثية. أما بالنسبة إلى «إسكندرية نيويورك» فالأمر يختلف بالتأكيد. صحيح، من ناحية أولى، أن هذا الفيلم يُعتبر استكمالًا، بل حتى خاتمة، للرباعيّة، كما أنه من ناحية ثانية يصوّر ما حدث منذ تحقق الحلم الأميركي لبطل «إسكندرية ليه؟»، يحيى، إذ عاش ودرس في أميركا ثم أصبح لاحقًا مخرجًا، ليعود إلى أميركا مرات عدّة، مرّة قبل أن يصل إلى ذروة النجاح، وأخرى بعد أن صار مخرجًا عالميًّا مكرّسًا، فيجابه هذه المرّة، ليس الحلم الأميركي، بل كابوسًا ممثّلًا في ابن أنجبه دون أن يعلم بشأنه، فيرفضه الابن انطلاقًا من موقف عنصري واضح. ومن ناحية أخرى، أتى «إسكندرية نيويورك» مبرّرًا -بشكل لاحق- تلك الغمزة القبيحة التي يصورها شاهين على سحنة تمثال الحرية عند مدخل نيويورك البحري من وجهة نظر بطله الشاب يحيى في «إسكندرية ليه؟» وهي غمزة تهديد قبيحة ما كان يمكن لها أن تكون واعية في ذلك الفيلم الأول، إلّا على ضوء العقود التالية من حياة وخيبات يحيي (يوسف شاهين). ورابعًا وأخيرًا لأن «إسكندرية نيويورك» قدّم -في رأي كاتب هذه السطور على الأقل- أفصح وأوضح صورة لموقف قطاعات عريضة من المثقفين العرب، وربّما أيضًا من الجمهور العربي، من أميركا، والتعبير الحقيقي عن أسباب وأبعاد هذه الخيبة. ومن هنا نقول، إن «إسكندرية نيويورك» يأتي ردًّا ناسفًا على طروحات سابقة لشاهين نفسه وأفلامه، في خطوة لا بدّ هنا من قطعها، عبر توضح أين تكمن الطروحات الجديدة في هذا الفيلم.
كی نبقى، أولًا، وفي المجال السينمائي، لا بدّ أن نقول إن «إسكندرية نيويورك»، أكثر من كونه فيلمًا يتعاطى مع ما آلت إليه العلاقات مع أميركا بعد كارثة 11 أيلول-سبتمبر وبسببها، يبدو فيلمًا يجيب كما نوهنا قبل سطور، عن سؤال قدیم خامر دائمًا أذهان محبّي سينما يوسف شاهين ومتابعي سيرته: ما الذي حدث لذلك الفتى يحيى شكري بعد ختام «إسكندرية ليه؟»؟ ومع ذلك لا بأس هنا من المصادرة على الجواب للقول أيضًا، ومنذ الآن، إن شاهين بدا في هذا الفيلم أذكى من أن يجعل من نفسه حربةً في صراع أميركي-عربي، حتى ولو أبدى بطله يحيى، بين الحين والآخر، غضبًا على أميركا وانتقد سياسيّيها وممارساتها «الاستعماريّة» الجديدة. والفيلم هو أكثر غوصًا في لعبته الفنّية من أن يكون مجرّد منشور سياسي على «الموضة» كما رآه كُثُر. فنحن إذا نحّينا بعض خطابات الفيلم السياسيّة العرضيّة جانبًا، وغضضنا نظرنا عن فكرة استحالة اللقاء بین یحیی وابنه الأميركي إسكندر، نصبح أمام فيلم هو أقرب إلى أن يكون تحيّة إلى أميركا القديمة، أميركا الحلم، وإلى هوليوود، بل أمام فيلم أقرب إلى أن يكون حنينًا إلى أيام أميركا الطيّبة، أميركا الحلم، قبل أن تخون نفسها.
وفي هذا الإطار لن نكون مبالغين إن قلنا إن قلّة من الأفلام السينمائيّة عرفت كيف توجّه مثل هذه التحيّة الطيّبة إلى السينما الأميركية، إلى أميركا الأمس، وإلى الإنسان الأميركي عمومًا (من خلال شخصيات طيّبة وصادقة زرعها شاهين في طول الفيلم وعرضه: خطيبة إسكندر، أستاذ الباليه اليهودي، بولي صديقه جنجر، وجنجر نفسها، حبيبة يحيی في ماضيات أيامه، وصولًا إلى الموزّعين السينمائيّين الأميركيين). إن النقطة المركزية في «إسكندرية نيويورك» هي رفض إسكندر الأميركي لأبيه المصري (يحيي). لكن شاهين لا يقدّم لنا إسكندر شرّيرًا أو عنصريًّا، كل ما في الأمر أنه نتاج فكري لوضع يتفاقم وتكمن جذوره في النظرة الأميركية المستجدّة إلى العرب، هذه النظرة التي ربّما يكون العرب أنفسهم مسؤولين عنها.
وشاهين، إذ يخشى ألّا يبدو هذا البُعد واضحًا في فيلمه بما فيه الكفاية، كان يزيد في أحاديثه الصحافية قائلًا: «أنا دائمًا ما كنت أتوق للسفر إلى أميركا، ولكني كنت أشعر دائمًا أن هناك مشكلة ما بيني وبين الولايات المتحدة، أما نيويورك فإنّني أحبّها حتى العبادة، فهي مدينة كوزموبوليتيّة على الشاكلة التي كانت عليها الإسكندرية، مدينتي، في ماضيها. أما غضبي الحالي ضدّ أميركا -ولاحظوا أني أقول "غضبي" ولا أقول "كراهيّتي"- فهو شيء قوي جدًّا في داخلي».
ويقينًا أن شاهين إنما يُعبّر هنا بذكائه الفطري عن الطريقة التي استخدم بها، في «إسكندرية نيويورك»، سيرته كي يقول الكلام الإيديولوجي بأكثر مما يقول تلك السيرة. ومع ذلك لا شك أنه كان الأساس الذي قام عليه تيار سينما الذات العربية، ناهيك بكونه أحد الكبار في تاريخ السينما العالمية من الذين عرّوا أنفسهم على شاشة متواطئة. فهل تراه بعد كل شيء لم يفعل ذلك الشيء نفسه في بقية أفلام سيرته؟