موجز تاريخ الراوي، بالعموم
منذ بدايات القَصّ البشري كان صوت الراوي هو الأبرز، ولربما كان الأول. ذلك الصوت الذي لا يقاطعه أحد، ينهل منه الآخرون سمعيًّا، صوت في سيماه الأولى يعطي سيماء السيطرة على كافة مجريات الحكاية، غير قابل للمناقشة والتشكيك. وفي تطوره، جنبًا إلى جنب مع تطور أساليب القصّ وتراكم الحكايات، كان يتوسّع من مجرد نقل الحكاية إلى إعطاء الحِكمة أو العبرة في وجه من وجوهه. ومن وجه آخر، من ناحية الشكل، كان إما يبقى على شاكلته الأولى صوتًا مفردًا أو يتكثّف على مجموع من الأصوات المتحدة والتي تعمل عمل التضخيم، مثلما كان في دور الجوقة (الكورس) في مسرحيّات الإغريق. ولعلنا نستطيع حتى إدخال أصوات العنعنة من ضمن ذلك في تراثنا الإسلامي، فالحديث لا ينقطع عند راويه الأخير إلا بعد مروره على عدة رواة، كلٌّ منهم يُرجع الحديث إلى سابقه، رجلًا عن رجل، في حالة من قطرات العِلم، وصولًا إلى الفيض في صوت عليمٍ يأخذ عن العليم بصفته المقدّسة.
إذن، فلقد كان صوت الراوي العليم، وتطوراته في السرد البشري بمداه الأوسع -في الأدب، الدين، العلوم… إلخ- ذا سيطرة كبرى. حتى برغم دخول مفهوم التدوين وترقّيه إلى مفاهيم الكتابة ما زال متمسّكًا بمكانته. لكنه -حيث لكل شيء إذا ما تمّ نقصان!- يبدأ في التذبذب والتقهقر على وقع ضربات من جهات مختلفة ولأسباب تتعدد بتعدد المجالات التي وُجد فيها. ففي علم الحديث الإسلامي، وحول موضوعة الرواة المتتابعين، قام عِلم الجرح والتعديل (علم الرجال في بعض الاصطلاح)، وهو عِلم يقوم بالتجريح في سِيَر بعض الرواة الذين أُخذ عنهم الحديث النبوي، من باب توثيق الأحاديث والتشكيك في بعض من روى.. على أن يأتي عالِم آخر ويقوم بالتعديل في سيرة الراوي المُجرّح إن ارتأى ذلك، ومن هنا سبب تسميته بذلك: جرح وتعديل.
لا أستشهد بحالة علم، وحال خاصة جدًا، بل وبعالَم بعيد كل البعد عن السينما، إلا بسبب أنه قريب من الفاهمة العربية، في وجه من أوجُهها، بالإضافة إلى أنه حقل مثير لتتبع فكرة أصوات الرواة وتأثيرها على النص الرئيس في إعلائه (حديث صحيح) أو إرخائه (حديث ضعيف). والأهم، وهو مما يتصل بحديثنا، أنه مرآة مصغّرة لما حدث لصوت الراوي في النص الواسع من الأدب الإنساني، فصوت الراوي العليم قد تضعضع، لأسباب كثيرة يطول شرحها، على طول التاريخ القصصي، من الصوت الوحيد والمسيطر إلى عدّة أصوات تتداخل وتروي الحكاية ذاتها، بل وقد يحدث أنها -وبرغم سردها لنفس الحكاية- ينقض بعضها بعضًا. لقد رأينا ذلك واضحًا من خلال الأدب الروائي على وجه الخصوص، بل، وصار في كثير من القص، ومع تضاؤل حالة الاستماع البشرية لصوت مفرد، وزيادة حس الفردانية بين المجتمعات، أن ينعدم صوت الراوي العليم تمامًا بمقابل علوّ، وسيطرة، صوت الأنا الراوية.
أوّلُ تاريخ الراوي، بخصوص داود عبدالسيد
عند ظهور أول أعمال داود عبدالسيد عام 1976 ميلادية، كان مفهوم صوت الراوي قد مر بتاريخ طويل من الاستعمال والنقد والمراجعة، إضافة إلى دخوله في عالَم السينما وتوسّعه إلى الحد الذي قد استُنفدَ فيه أو كاد. إلا أن الشاب داود عبدالسيد قرر أن يستعمل هذه التقنية بالذات في عمله التسجيلي الأول «وصيّة رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم».
إنه فيلم تسجيلي في قمة البساطة، لا يحاول عملَ شيء كبير ولا يتفنن بصريًّا إلا في ربعه الأخير، وبتقنيات بسيطة كذلك، إلا أنه على هذه البساطة الخارجية يُكمن تعقيدًا داخليًّا شديد الذكاء، وذلك عبر صوت الراوي. قلنا إن صوت الراوي في جزء طويل من تاريخه كان صوتًا مسيطرًا، وهذا ما يكُونه في عمل داود الأول أيضًا، بيد أنه يزيد عن هذا بكونه صوتًا متسلطًا يعطي وجهة نظره ويأمر وينهى ويستشيط غضبًا على المُتلقي.
يأتي الفيلم، كما يبين من عنوانه، من القرية، ويحكي عن أحوالها بصوت راوٍ عليم يبدو للوهلة الأولى أنه رجل حكيم، بالفعل، يقدّر حياة القرويين الهادئة الهانئة بالسكينة والمحبّة والسلام، كما يقول هو بنفسه، إلا أنه سرعان ما يتضح للمُتلقي أن الأمر غير ما يبدو، فالرجل الحكيم يبدأ الدخول في موضوع كبير ويُفصّل فيه ويعطي وجهة نظر مختلفة. إنه يتحدث عن مرض، بل وباء خطير، يغزو أهل القرية ويقلب أحوالهم رأسًا على عقب بتعاقب الأجيال. إن الحياة الهادئة الهانئة بالسكينة والمحبة والسلام -بحسب وصفه- تفقد هذه المقومات بسبب هذا الوباء المستشري في بدن القرية الواهن أصلًا. وما هو هذا الوباء اللعين، أيها الرجل الحكيم؟
التعليم. إنه وبوضوح شديد: التعليم. لماذا يتعلّم الفلاحون؟ فيمَ سيفيدهم ذلك؟ أليست القراءة ملهاة تبعد الفلاح عن أرضه وعمله المفيد للوطن وأصحاب الغيطان؟ (هو لم يقل هذه الأخيرة، إحقاقًا للحق). إن التعليم لعنة وعي ولوثة في عقول القرويين البسطاء من ناحية، ومن ناحية هو ثِقَل باهظ على كواهل هؤلاء الفقراء. لمَ يحمل أبٌ عبء تعليم أبنائه ويبذر النزر القليل من ماله ليصبح هذا الابن طبيبًا أو مهندسًا؟ أليس الأجدى أن يكمل الابن عمل أبيه في فلاحة الأرض؟ صار الرجال يتجمعون ليقرأوا الصحف ويتداولون فيما بينهم أخبار الساسة والسياسيين ويدلون بدلوهم، والنسوة أخذن يتسلّين بالقراءة بعضهن لبعض، والأطفال يقضون سحابة يومهم في المدرسة يفكّون الخط. والأدهى أنه صار في القرية رجال من المدينة يرتدون البدلة المدنية بدلًا من ثياب الفلاحين، ويحثّون الأهالي لدفع بنيهم إلى المدارس، بل لقد طغوا في هذا وأخذوا يعلّمون الكبار من القرية أيضًا ويسمون ذلك بمحو الأمية. والأجدر بالمحو، حقًّا، هم أنفسهم، هؤلاء المخربون الفوضويون أعداء الأمة. إن هذا هو ما يقوله الرجل الحكيم على طول الفيلم لو أردنا قوله على طريقتنا، بلا تَجَنٍّ.
شخصيًّا، لم أستطع مشاهدة هذا العمل إلا بوصفه عملًا كوميديًّا لو جاز لي ذلك، فسخرية داود عبدالسيد الذكية، والتي تصل إلى أعالٍ شاهقة فنيًّا بعد النضج في «مواطن ومُخبر وحرامي»، طغت على كامل الفيلم. درجة عالية من السخرية في أن تجعل من صوت الراوي، بهذه الطريقة وحول هكذا موضوع، صوتًا برجوازيًّا متعاليًا لا يرى في الفلاحين أكثر من كونهم مخلوقين للكدح والبقاء تحت أيدي أصحاب الغيطان هم وأبناؤهم، وخصوصًا في أن تجعل هذا الصوت صوتًا غاضبًا لا يفهم لِمَ يحدث ما يحدث، صوتًا لرجل حكيم فَقَدَ أعصابه أمام كل الخبل الحاصل أمامه في القرية من تخريب لمصالحه الشخصية للدرجة التي تجعله يصرخ بهستيريا آمرًا بإيقاف كل هذا وإعادة الأمور إلى نصابها القديم: للفلاح الشمس على قفاه، وللطبقة العليا التعليم والمهن المرموقة.
إن الكوميديا السوداء في هذا العمل -على بساطتها- ستمتد وتتحول إلى صوت عليم آخر محايد وتقريري في عمل متأخر لنفس المخرج، يضرب بسخريته كامل تاريخ مصر الحديث من بعد ثورة 23 يوليو، أعني -كما أشرت سلفًا- «مواطن ومخبر وحرامي». ومن «الحكيم» إلى «الحرامي» وما بعده، يستعمل داود عبدالسيد صوت الراوي بطرائق تجعل من يرى أن هذه التقنية قد أكل الدهر عليها وشرب. يأكل منها ويشرب.. ويضحك.