صورٌ متحركة: سلسلة تاريخ السينما في مئة عام الجزء الرابع: الواقعية الإيطالية الجديدة والسينما بوصفها وثيقة اجتماعية.

December 17, 2023

لو صادفت في حياتك شخصًا متعمقًا في السينما، فقد تجده يحدّثك عن مشكلات الطبقية والعنصرية في البرازيل، مثلًا، أو تجده يعرف عن المشكلات الاقتصادية وزيادة حجم الفجوة بين الطبقات فوق الوسطى والطبقة الفقيرة، في ظل الانفتاح الرأسمالي الحديث في مصر، أو قد يعطيك نظرة عميقة عن الحرية الجنسية وانتشار العقاقير المهلوسة في أمريكا في الستينيات، وصعود "جيل البيت" (Beat Generation) ومواقفه السياسية والاجتماعية، أو سوداوية الحياة في ظل انهيار الأنظمة الشيوعية في شرق أوروبا. وهكذا، تجده يشارك في الحديث عن موضوعات مشابهة تحدث حول العالم، من أقصى غربه إلى أدنى شرقه. يمكن القول بأن السبب وراء ذلك هو مجموعة من الأفلام الإيطالية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، وشكّلت ما يُعرف بالموجة الواقعية الإيطالية الجديدة، حيث كان لتلك الأفلام، التي ظهرت في الفترة ما بين العام 1945 حتى العام 1952، تأثيرٌ هائل على شكل السينما في العالم أجمع. ويكاد لا يكون هناك إنتاجات سينمائية لأي بلد إلا وتجد لتلك الموجة أثرًا في عديد منها. يمكن القول إن الواقعية الإيطالية أضفت على السينما صفتها كمرآة اجتماعية، تصور وتوثق ما يدور في المجتمع من أحداث وهموم وقضايا في مختلف الأزمنة.

يَعتبر بعض المؤرخين أن بداية الموجة الواقعية الإيطالية حدثت قبل نهاية الحرب العالمية الثانية مع إصدار الفيلم الروائي الأول للمخرج الإيطالي لوكينو فيسكونتي «هوس» (Obsession - 1943) المبني على رواية الجريمة: «ساعي البريد يرن الجرس مرتين دائمًا» للكاتب الأمريكي جيمس كين. بالرغم من كون الرواية الأصلية لا تحتوي على العناصر المميزة للواقعية، فإن اقتباس فيسكونتي أضفى عليها صفات الواقعية وعدّل على النص بما يجعله أقرب إلى الحياة الاجتماعية الإيطالية بطريقة تجعل بعض الناس يعتبرونه الشكل الأول من السينما الواقعية الإيطالية، كما أنه واجه ردود أفعال حادة من السلطات الكنسية والفاشية حتى مُنع الفيلم من العرض في عهد موسوليني ودُمّرت نسخ الفيلم، لكن فيسكونتي ظل محتفظًا بنسخة من الفيلم ونشرها بعد سقوط نظام موسوليني.

لكن أغلب المؤرخين يُجمعون على أن بداية الواقعية الإيطالية الجديدة جاءت بعد سقوط النظام الفاشي في إيطاليا وإعدام موسوليني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا مع فيلم «روما، المدينة المفتوحة» (Rome, open city - 1945) للمخرج روبيرتو روسيليني، والذي يدور حول شخص من المقاومة الإيطالية يحاول الهرب من روما بمساعدة قس كاثوليكي في ظل الاحتلال النازي لإيطاليا في أواخر الحرب العالمية الثانية. صور روسيليني فيلمه هذا في الغالب في الشوارع الإيطالية بعد نهاية الحرب العالمية، ورغم أن التصوير في الشوارع أصبح من علامات الواقعية الإيطالية، فإن جزءًا من الأسباب التي جعلت روسيليني يلجأ إلى ذلك هو أن استوديوهات "تشينيتشيتا" الإيطالية كانت مدمرة بسبب الحرب، وحتى غير المدمر منها كان تحت سيطرة قوات التحالف، مما جعل التصوير فيها صعبًا بالنسبة إلى روسيليني. كما استخدم روسيليني في فيلمه عديدًا من الممثلين غير المحترفين، وذلك لجعل الجو المشحون ومشاعر القلق والرعب تبدو أكثر حقيقية وواقعية. وعليه، أصبح ذلك من سمات الواقعية الإيطالية بعد هذا الفيلم. يمثل فيلم روسيليني «روما، المدينة المفتوحة» الجزء الأول لما أُطلق عليه لاحقًا ثلاثية الواقعية الإيطالية، حيث تبع روسيليني فيلمه هذا بفيلمين يحملان الصفات الواقعية نفسها شكلًا وموضوعًا، وهما «باييزا» (Paisan - 1946) و«ألمانيا، السنة صفر» (1948 Germany, year zero).

أما عن فيتوريو دي سيكا فقد قدّم ما هو أشهر عالميًا، وهو الفيلم الذي يخطر أولاً على بال الأعم الأغلب من الناس عندما يأتي الحديث عن الواقعية، وهو فيلم «سارقي الدراجات» (Bicycle Thieves - 1948) الذي يروي قصة أب من الطبقة العاملة الفقيرة تُسرق دراجته، فيجوب شوارع روما البائسة بحثًا عن دراجته، وإلا فإنه سيفقد عمله الذي يعتمد عليه لتأمين حياة عائلته في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. شارك دي سيكا في كتابة النص مع الكاتب تشيزاري زافاتيني، الذي يُعتبر واحدًا من أهم منظّري الموجة الواقعية الإيطالية وروادها. وقد كتب دي سيكا أيضًا فيلمًا آخر بعنوان «أومبرتو دي» (1952- Umberto D)، وهو أحد أهم أفلام هذه الموجة. بالنظر إلى فيلمَي دي سيكا، نجد أنهما تخليا تمامًا عن الحبكة ومراحل السرد الهوليوودية التقليدية، التي تبدأ بمقدمةٍ وتتصاعد وتتعقد تدريجيًا إلى الذروة، ثم الحل والخاتمة، وهذا ما كان مبتكرًا في السرد السينمائي، وأوضح زافاتيني هذا النهج في مقالته «بعض الأفكار عن السينما»، التي يمكن اعتبارها نوعًا من المانيفستو للموجة الواقعية الإيطالية. في هذه المقالة، أعرب زافاتيني عن رفضه للسرد والتصوير التقليديين في السينما ودعا إلى سرد الواقع كما هو، أو على الأقل في أقرب صُوَره إلى الحقيقة. وهذا هو النهج الذي تبنّته الموجة الواقعية الإيطالية، واستفادت من جميع عناصر السينما لتحقيق هذا الهدف، سواء من خلال التصوير في الهواء الطلق أو استخدام الإضاءة الطبيعية أو التعاون مع الممثلين غير المحترفين أو التخلي عن السرد التقليدي الذي يتّبع مراحل حبكة معقدة.

ربما لفهمٍ أكبر لثورية الموجة الواقعية الإيطالية علينا أن نقارنها بما كان يسبقها في إيطاليا وشكل الأفلام السائدة في عهد موسوليني، حيث كان يطلق على أفلام تلك الفترة: «أفلام الهاتف الأبيض». وهي عبارة عن أفلام رومانسية كوميدية أُطلقت عليها تلك التسمية بسبب الظهور الدائم للهواتف البيضاء في مَشاهدها، وهي الهواتف التي يصعب امتلاكها إلا لمن هم من الطبقة فوق الوسطى. وكانت تلك الأفلام تلقى دعمًا حكوميًا من النظام الفاشي الذي يجد فيها ما يمكن استخدامه لتبييض طبيعة الحياة في إيطاليا تلك الفترة، فلم يكن لتلك الأفلام أي تعليقات اجتماعية أو سياسية على مشكلات النظام الفاشي لموسوليني، لذا كان ظهور الموجة الواقعية الإيطالية بعد سقوط موسوليني أشبه بالتحرير للسينما من قيود الفاشية، حيث كانت أفلام الموجة ذات ميول وطبيعة يسارية اشتراكية، وعلى الرغم من رفض بعض روادها مثل دي سيكا لوصف أفلامهم بأي صفة سياسية، فإن الطابع الماركسي كان طاغيًا عليها. وعلى سبيل المثال، وصف الناقد الفرنسي أندريه بازان فيلم دي سيكا «سارقي الدراجات» بأنه الفيلم الشيوعي الحقيقي الوحيد في السينما في عقد إصداره.

إن التأثير الثوري الكبير للموجة الواقعية الإيطالية قد يجعل بعض الناس يظنون أن تلك الأفلام كانت هي الشكل السائد في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الحقيقة أن عدد أفلام الواقعية في إيطاليا كان قليلاً جدًا مقارنة بتأثيرها الهائل، وتوقفت إنتاجاتها بعد سنوات قليلة من ظهورها بسبب الضغوطات السياسية على روادها واتهام تلك الأفلام بإحباط الروح المعنوية للشعب وتكوين صورة سلبية عن إيطاليا، مما قد يؤدي حسب ادعاءاتهم إلى إبعاد رؤوس الأموال الخارجية عن الاستثمار في إيطاليا، وهو ما كانت إيطاليا في أمسّ الحاجة إليه بسبب الظروف الاقتصادية السيئة بعد الحرب. وبهذا انتهت الموجة داخل إيطاليا، لكن تأثيرها على السينما ظل مستمرًا حتى اليوم في العالم أجمع، بما في ذلك ما كان من تأثير مباشر على موجات مهمة ومؤثرة ظهرت لاحقًا في مختلف الدول، مثل الموجة الفرنسية الجديدة أو الموجة الإيرانية الجديدة أو الواقعية المصرية أو سينما ساتياجيت راي الهندية وغيرها كثير.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى