«سوناتا الخريف»: أن تعتزل الأمومة

عادةً ما نشاهد أعمالًا في السينما تتطرق لمسائل حسَّاسةٍ مثل الدين أو السياسة، لكن نادرًا ما نشاهد فيلمًا يملكُ نفس القدرِ من الحساسيَّة عند معالجته لمواضيع أسريَّة شائكة. وعلى الرغم من أنَّ القصة في فيلم «سوناتا الخريف» (Autumn Sonata - 1978) للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان قد تبدو بسيطة، إلا أن بيرغمان تناول فيها علاقة أم بابنتها على نحو عميق، فما هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث في إطار هذه العلاقة الشائكة؟ في الحقيقة، كل شيء.

يحكي الفيلم قصة شارلوت (إنغريد برغمان)، الأم التي تعود للظهور في حياة ابنتها إيفا (ليف أولمان) بعد غيابٍ استمر لسنواتٍ بسبب انشغالها غير المبرَّر في تحقيق ذاتها. وخلال هذه السنوات من الغياب، تركت شارلوت ابنتها إيفا الهشة نفسيًا وهيلينا (لينا نيمان)، المصابة بمرض منهك، وحدهما يواجهان وحشة الحياة، فاتسعت هوة البعد السحيقة هذه وكبرت عامًا بعد عام، استنفذت فيها ابنتها كل مشاعر الصبر والحِلم على إهمال الأم، وكتمت بداخلها كل غضب. ومع عودة الأم بعد كل هذا الغياب، فإنَّ أقل ما كان يُنتظر منها هو أن تقدِّم إجاباتٍ عن أسئلةٍ خلَّفتها بقسوةٍ في طفولتهما اليتيمة. لكنَّها تعود إليهما في حالةٍ من الضعف، ضعفٌ ظاهريٌّ فقط، حيث أصبحت أرملةً للمرة الثانية بعد فقدها لزوجها مرَّةً ثانية، وكأنَّ التكفير عن قصور تربية إيفا تجسد في وفاة زوجها الأول - والد إيفا - وتكفيرها عن إهمالها لهيلينا تجلى في فقد الزوج الثاني.

عودة من دون عودة

بعد قرار شارلوت العودة إلى منزل ابنتها، تبدأ في استجداء الدعم العاطفي، مقدمةً صورةً مختلفة عن تلك التي توقَّعتها ابنتها، فكلُّ ما تمنَّت إيفا أن تقدمه والدتها حين عودتها من مشاعر أمومةٍ لم تقدمه شارلوت، بل كانت عودتها فارغةً من كلِّ عاطفةٍ ومن كلِّ شعورٍ بالأسف على ما فعلته، وذلك في مشاهد تستحضرُ إلى الأذهان أبيات الشاعر نزار قباني الذي يقول في قصيدته «أيظن»: 

«اليوم عاد كأنَّ شيئًا لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه»

وعلى عكس ما تفعله الأمهات، فإنَّ شارلوت تتبنى سلوكًا مغايرًا يبدو أنانيًّا، يعكس حقيقة شخصيَّتها المنفصلة عن ذاتها وعن العالم من حولها، ونرى صوره وتجليَّاته الكاشفة لأغوار هذه العلاقة طيلة مراحل الفيلم، والتي سنُقسِّمها إلى أجزاء. ونبتدئُ بالجزء الأول: المهد.

في اليوم الأول نرى شارلوت على السرير تستعد للنوم مثل طفلٍ رضيع، وهي تتفوَّه أمام إيفا بطلباتها المعقَّدة على الفطور وكأنَّها مقيمةٌ داخل فندق. المفارقة هنا أن شارلوت، التي يُفترض أن تكون مصدر الحنان والاحتواء، تصبحُ هي التي تستجدي من ابنتها لحظة رعايةٍ أو لمسة حنان، عناقًا دافئًا أو قبلة. هذا التداعي لصورة العلاقة الفطريَّة، والذي تجلى في صورة تبادلٍ في الأدوار، يثير تساؤلاتٍ حول طبيعة العلاقة العاطفية المعقَّدة التي تجمع بين الأم وابنتها، حيث أصبحت الأم، التي يقع على عاتقها عبء توفير الحنان بشكلٍ مستمر، هي نفسها في حاجةٍ لأن تستمدَّ بعضًا من الدعم العاطفي الذي تمنحه عادةً لابنتها. وعلى الطرف النقيض، نرى تجاوب إيفا معها وحرصها على إتمام طلباتها مُخلصةً لها تمام الإخلاص، لتستمرَّ علامات الإخلاص هذه بالتطوُّر شيئًا فشيئًا في مشهدٍ أشبه باحتواءِ وهدهدة طفلٍ في المهد، وهذا الارتباط العاطفيُّ الأموميُّ ما هو إلا استجابةً للصدمات التي سبَّبتها شارلوت لابنتها إيفا في طفولتها والانتهاكات الأخلاقيَّة تجاه هيلينا المُقعدة.

يُطلُّ احتواء إيفا لشارلوت، والذي يشبه احتضان طفلٍ في المهد، كتمهيدٍ عاطفيٍّ واستباقٍ رمزيٍّ لما سيأتي لاحقًا وهو الجزء الذي سنعنونه بـ «السهد». هناك نرى إيفا متكئة على عتبة الدرج، منهكة الجسد والنفس، يثقلها الإرهاق النفسي الناتج عن المواجهة المؤلمة التي جمعتها بوالدتها.

ولا يسعني هنا إلَّا أن أبدأ انطلاقًا من هذه النقطة: ألا وهي محادثة شارلوت لنفسها في مشاهدَ متكرِّرةٍ من الفيلم. لم يُستخدم هذا الأسلوب بصفته أداةً سرديَّةً فقط، بل إنَّ المناجاة الداخلية (المونولوج الداخلي) يُستخدمُ عادةً للكشف عن أعماق الشخصيَّة وأفكارها الخفيَّة. في حين نلاحظ أنَّ معظم استخدامات المناجاة الداخليَّة التي وظَّفها بيرغمان لم تكن تهدف إلى ذلك، إنَّما كان هدفها هو الكشف عمَّا يدور في عقل شارلوت. وقد أُخرِجت مشاهد حديثها مع نفسِها بشكلٍ مقصود لتبعث شعورًا بالنفور والإزعاج يعكسه الانهماك في الثرثرة حول أمورٍ سطحية. تكمنُ القيمة غير المباشرة لهذا الأسلوب في إثارة مشاعر الازدراء تجاه شارلوت، إذ يُظهِرها كشخصيَّةٍ كثيرة الإزعاج لتأكيد إحساس عدم التعاطف تجاهها. ومن جهة مباشرةٍ نرى شارلوت تتحدَّث عن زوجها المتوفي وكأنَّه لم يكن أكثر من بطاقةٍ إئتمانيَّة، مبديةً كيف ستستخدم أمواله التي ورثتها في استثماراتها الخاصَّة. من خلال تصوير هذا المونولوج تتجلَّى حقيقة شارلوت ويتبدى لنا خواؤها العاطفي، وتَبرُزُ كامرأةٍ لم تشعر بحبٍّ حقيقيٍّ تجاه أحدٍ من قبل، بل تبدو كمن لم يعرِف الحب قط.

أمٌّ تتعثر في الأمومة

تعدُّ لغة العيون في السينما من أبلغ الأدوات التعبيريَّة التي يستخدمها الممثِّلون لنقل المشاعر والمضامين العاطفيَّة، وذلك بتحويل نصٍّ مجرَّدٍ إلى مرآةٍ تعكس رؤية المخرج. ومن أبرز ما تميَّز به الفيلم هي لحظاته الشاعريَّة، تلك اللحظات التي ينقطعُ فيها الكلام وتنزف المشاعر باحثةً عن لسانٍ يترجمُ المعاناة إلى معانٍ ومفردات، حينها تخذلنا لغةُ اللسان ونكتفي بلغة العيون.

عقبَ الكابوس الذي راود شارلوت، والذي جاء كانعكاس لما تود إيفا فعله بوالدتِها (أي خنقها)، نراهما سُهادًا في آخر الليل، وكأنَّ منبِّهًا قد رنَّ ليوقظ أشياء لم تُحْكَ بعد وبقيت لسنواتٍ مطويَّةً في الأعماق السحيقة لكلٍّ منهما. تكسر شارلوت صمت المكان بسؤالها: «أنت تحبينني؟ أليس كذلك؟» وهي ترتدي رداءً أحمر يعكس توليفةً من التعطُّش العاطفي المسمومِ والشر في الغرفة. وعلى الجهة الأخرى نرى إيفا ترتدي رداءً أزرق، وكأنها تتهيَّأ لإطفاء الحريق الذي تسببت به شارلوت. تتجلى في المشهد رمزيَّة أخرى عندما تمسكُ إيفا بشمعةٍ حمراءَ تمثل والدتها، المرتدية للأحمر، في شكلها الخارجي، بينما يمثل فتيل النار داخل الشمعة روحَ شارلوت المستعدة لإشعال أي شيء، تمامًا كما كانت تشعل السجائر، وتشرب النبيذ الأحمر في شكلٍ من التهديد الموجه نحو الذات، والذي يعكس رغبتها في إخماد شخصها ومشاعرها الداخليَّة.

تبدأ إيفا بالكشفِ عن التداعيات النفسيَّة المظلمة لفترة الطفولة، وعما خبأته طوال تلك المدة، والدموع تنهمرُ على امتداد هذا المشهد الدرامي المُحكم. ترفض شارلوت النظر إلى إيفا، فتمشي بالغرفة في تذلُّلٍ وخوفٍ نراه من منظورٍ شخصي، وتعبر عن رفضها بشكل آخر عبر الصدِّ عن إيفا من خلال إعطائها ظهرها طيلة تعبيرها عن مشاعرها، أو حتى عند مواجهتها للموقف بإغماض عينيها. هذا الهروب من انفتاح إيفا للمرَّة الأولى يُظهر لنا مدى تعلُّق شارلوت المفرط بذاتها وعواطفها، وبعدم رغبتها في الاستماع إلى قصَّة ابنتها، وفي المقابل نرى لمعان عيني إيفا وتوهُّج مشاعرها في كلِّ مرَّةٍ تخلع فيها النظارة وهي تتحدث عن أصدق أحاسيسها بلغة الأعين الأكثر صدقًا. 

اقتراف الثلاثية

إنَّ الخوض في تفاصيل الآلام والمعاناة التي سبق وأن مرَّ بها الشخص المُخطئ، أو حتى تلك التي لا يزال يمر بها، لا يُعالِج ولا يغطي أبدًا على ما اقترفه من ضررٍ ومشاكلَ للضحيَّة. لا شكَّ أنه قد يعكس رغبةَ الإنسان في الحصول على التقدير والتعاطف من الطرفِ الآخر، حيث أنَّه كان في موضع ضعف، وغالبًا ما تتعرَّض الضحية إلى فكرة (كان من الممكن أن يلحق بي ضررٌ أكبر)، ومن هنا تبدأ في المقارنة بين "ما حدث فعلًا" و"ما كان بالإمكان أن يحدث". قد تبدو طريقةً مسمومةً ومؤذيةً في التعامل، لكنَّ الحقيقة تقول إنَّ هذا السلوك البشري نتَّخذه بشكلٍ روتينيٍّ دون التطرُّق إلى تفسير معناه الحقيقي وإدراك ما يوجد خلفه من استغلاليَّة. إن أسوأ ما يمكن أن يقدِم عليه المرء في حق نفسه والآخرين، خلال لحظة الانفتاح (الفضفضة)، هو استخدام عبارة "لا تبالغ!" كردٍّ على لحظةِ التنفيس العميقة، وهذا ما أقدمت عليه شارلوت في ذات المشهد عندما واجهتها إيفا بعد مرور سنواتٍ طويلةٍ من كتمان مشاعرها، وحين أتيحت لها الفرصة للتعبير، تقرِّر شارلوت أن تكبت مشاعر ابنتها التي كانت مكبوتةً بالفعل.

أمَّا الأمر الثاني الذي أقدمت عليه شارلوت، من بين مجموع سلوكيَّاتها المتلاعبة تجاه ابنتها، فهو تغيير محور الحديث من معاناة ابنتها إلى معاناتها الشخصيَّة، وذلك بغضِّ النظر عمَّا إذا كانت معاناتها تستحقُّ فعلًا لفت الانتباه. من غير "الإنساني" - "الأمومي" في هذه الحالة - القيام بتصرُّفٍ يُناقض الأدوار في توفير احتياجٍ إنسانيٍّ أساسي، وهذا التصرُّف يعكس لنا التداخلَ العميق بين أنانيَّة شارلوت وبين ضعفها المُدَّعى، وما يخفيه من شرور، في سياق الحبِّ تجاه ابنتها.

«أنا بحاجة للرعاية»… هكذا بدأت شارلوت في ارتكاب ثالث أسوأ سلوكٍ متلاعبٍ ضمن سلسلة أفعالها: البكاء عند الحديث وأخذ دور الضحيَّة. وبالرغم من أنَّ إيفا قد وصفتها بأسوأ الصفات، إلا أن شارلوت لم تبكِ حينها، بل كانت مشاعرها مخفيَّةً بوضوحٍ وبطرقٍ متعددة، وكأن الفيلم يدرس حالة إخفاء المشاعر، إذ كانت شارلوت تحاولُ مرَّةً أخرى جذب الانتباه. والأمر لم يكن مقتصرًا على الرغبة في الحصول على الاهتمام منها فحسب، بل كان وسيلةً لإثارة الملل والضجر حيث كانت تشكو لتسلب إيفا صوتَها وحقَّها في التعبير.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى