«أسوأ شخصٍ في العالم»: بطلةٌ من هذا الزمان

August 12, 2025

يشكِّل فيلم «أسوأ شخصٍ في العالم» (The worst person in the world - 2021) المحطَّة الختاميَّة في «ثلاثية أوسلو» للمخرج النرويجي خواكيم ترايير، والتي افتتحها بفيلم «تكرار»، وتبعه بفيلم «أوسلو، 31 أغسطس». يُعدُّ «أسوأ شخصٍ في العالم» أنجح أفلام السلسلة من حيث الانتشار الجماهيري والاحتفاء النقدي، وقد شاهدتُه بدافع حبِّي لنوعٍ من الأفلام التي تدور حول "البحث عن الذات" و"الهروب من الواقع"، تلك الأعمال التي تلامسنا لأنَّها تسرد ما نعجز عن عيشه: قراراتٌ جريئة، قصصٌ تحتفي بالتحرُّر، وشخصيَّاتٌ تعيش خارج المألوف، لكنَّ المفاجأة كانت في صراحته الصادمة وتناقضه في الوقت ذاته. 

رغم أنَّ الفيلم يلمِّح في بدايته إلى أنَّه سيتناول موضوعاتٍ محوريَّةً مثل الهويَّة، الاستقرار، الحب والجنس، إلا أنَّ تطوُّره الدراميَّ لا يكتفي بالسير في هذا الاتجاه فقط، فإلى جانب التطرُّق لهذه المفاهيم، ينحرف تدريجيًا نحو معالجة مواضيع أخرى أكثر التصاقًا بشخصيَّة البطلة، مثل عقدة النقص، الخوف من الفشل، وصعوبة تعريف الذات دون مقارنتها بالآخرين. وهذا التحوُّل لا ينقصُ من قيمة الفيلم، بل يكشفُ عن جوانب نفسيَّة أكثر تعقيدًا وواقعيَّة.

تدور القصَّة حول يوليا (ريناتي رينسف)، شابَّةٌ في الثلاثين من عمرها تعيش في أوسلو وتمثِّل ابنة هذا العصر الحديث: حرَّة، مستقلَّة، و"ضائعة" بين الخيارات. تبدأ دراستها في الطب، ثمَّ تنتقل إلى الجراحة لشغفها بها، قبل أن تملَّ وتتحوَّل إلى الطبِّ النفسي. ثمَّ تقرِّر فجأةً احتراف التصوير. وبين هذه التحوُّلات تكتب مقالاتٍ وتعملُ موظَّفةً في مكتبة. هذا التنقُّل لا يقتصر على مسيرتها المهنيَّة فقط، بل يمتدُّ إلى حياتها العاطفيَّة، فنراها تنتقل من علاقةٍ إلى أخرى بالاندفاع وعدم الاستقرار نفسيهما. يحاول الفيلم تقديم يوليا كشخصيَّةٍ تخوض رحلةً للبحث عن ذاتها، لكن مع توالي الأحداث، تظهرُ أمامنا امرأةٌ تتأرجحُ بين قراراتٍ متضاربة واندفاعاتٍ غير محسوبة، دون مسارٍ واضحٍ أو قناعةٍ داخليَّةٍ تقودها. لا تبدو الرحلة هنا واعيةً أو متماسكة، بل أقربُ إلى سلسلةٍ من ردود الفعل المرتبكة، نابعة من شعورٍ دفينٍ بالنقص، من ضياعٍ داخلي يصعب الاعتراف به، فهي لا ترفض الأشياء لأنَّها تعرف ما تريد، بل لأنَّها لا تعرف أصلًا ما تبحث عنه. 

تقع يوليا في حبِّ أكسل (آندرس دانييلسن لاي)، كاتبُ قصصٍ مصوَّرةٍ يكبرها بأربعة عشر عامًا، رجلٌ ناضج، جادٌّ وطموح، يحلمُ بتكوين أسرةٍ وإنجاب أطفال، وهو بالضبط ما لا تريده. تتصاعد التوتُّرات بينهما تدريجيًا بسبب هذا الاختلاف الجوهري، غير أنَّ أكسل، بدافع حبِّه العميق لها، يقرِّر التنازل عن رغبته ليبقى معها. لقد كان داعمًا لها في كلِّ شيء: يُشجعها، يُواسيها، ويُرافقها حتى لزيارة والدها الذي لا تُكنُّ له أيَّ مشاعر.

مع مرور الوقت تبدأ شهرة أكسل بالتنامي ونجاحه بالتزايد، وتلقى أعماله احتفاءً كبيرًا، بينما لا تزال يوليا تعمل في مكتبةٍ دون إنجازٍ يُذكر. هنا تبدأ بمقارنة نفسها به، ويُخالجها شعورٌ عميقٌ بالضياع والخيبة. في إحدى حفلات إطلاق أحد أعمال أكسل الجديدة، تختار يوليا المغادرة دون سببٍ واضح. تنسلُّ من الحفل وتدخل عن طريق المصادفة إلى حفلة زفافٍ لا تعرف فيها أحدًا، وهناك تلتقي بإيفيند (هربرت نوردروم)، شابٌ بسيطٌ يعمل في مقهى ولا يرغب في إنجاب أطفال، ولا يشغله السعي وراء المجد أو النجاح.

تقضي معه السهرة في حديثٍ طويلٍ وصادق عن كلِّ شيء. يحاولان تبرير انجذابهما لبعضهما بعضًا بعدم تخطِّي الخط الأحمر: الجسد. فبالنسبة لهما، الخيانة الجسدية وحدها هي ما تُحسب "خيانة"، أما التورُّط العاطفي، أو التعلُّق أو مجرَّد الرغبة... فلا بأس به.

تعود يوليا إلى المنزل وإلى حياتها اليوميَّة مع أكسل وكأن شيئًا لم يحدث. تُخفي ما جرى، وتواصل التظاهر بأنَّ كلَّ شيءٍ على ما يرام. غير أنَّ الأمور تأخذ منحى آخر حين تُفاجَأ ذات يومٍ برؤية إيفيند في المكتبة، برفقة حبيبته. يعترف لها أنَّه لم يتوقف عن التفكير بها، يخبرها عن مكان عمله، ويترك لها القرار إن كانت تريد رؤيته مجددًا.

قبل أن تتخذ يوليا قرارها النهائي بشأن علاقتها بأكسل، يقدِّم الفيلم لحظةً مفصليَّةً تتجمَّد فيها الحياة حرفيًا. في لقطةٍ سينمائيَّةٍ عبقريَّةٍ يتوقَّف الزمن، ويتجمد كلُّ من في المدينة. وحدها يوليا تتحرَّك بحريَّةٍ وسطَ هذا الفراغ الصامت، كأنَّ العالم قد منحها أربعًا وعشرين ساعةً كاملةً للهروب، للعيش كما ترغب، دون عواقب. تذهب إلى إيفيند وتعيش معه أجمل لحظات حياتها، وكأنها تحاكي حلمًا داخليًا طالما راودها. هذا المشهد لا يعبِّر فقط عن رغبتها في الخروج من علاقتها، بل يُجسِّد كذلك كيف تتوقَّع أن حياتها مع الشريك الجديد ستكون مثاليَّة.

وهكذا تقرِّر الانفصال عن أكسل دون مصارحته بالحقيقة، بدلًا من ذلك تختبئ خلف عبارةٍ مألوفةٍ ومستهلكة: «أحتاج البحث عن ذاتي»، مُخفيةً السبب الحقيقي؛ وهو ببساطةٍ أنها أصبحت تريدُ رجلًا آخر. في هذا المشهد تخدع يوليا أكسل، لكن الأخطر من ذلك هو أنَّ المخرج يخدع المشاهد نفسه. يُقدَّم الانفصال على أنَّه نتيجةٌ لحالةٍ نفسيَّةٍ معقَّدة، بحث عن الذات وبداية جديدة... بينما الحقيقة واضحةٌ ومباشرة: يوليا خانت شريكًا أحبَّها بصدق.

لكن لماذا خانت؟ عادةً ما يكون الشخص الذي يقدم على فعل الخيانة هو الطرف الذي يشعر بالنقص وعدم قدرته على مواكبة مستوى شريكه. ولهذا نلاحظ أنَّ الخيانة لا تكون مع شخصٍ "أفضل"، بل في الغالب مع طرفٍ أقل، سواء على الصعيد الفكري أو العاطفي أو حتى الاجتماعي. فالرجل غالبًا ما يخون زوجته مع امرأةٍ أقل منها، وكذلك تفعل المرأة.

هذا ما ينطبق تمامًا على يوليا، فقد خانت أكسل - الشريك الأكثر نضجًا وعمقًا - مع إيفيند، وهو شخصيَّةٌ أكثرُ بساطةً وأقلُّ طموحًا. نرى دلالةً واضحةً على هذا التفاوت في مشهد شجارِها مع إيفيند حين تسأله بتهكم: «هل تنوي أن تقضي حياتك في تقديم القهوة للناس؟»؛ جملةٌ تكشف عن تناقضها الداخلي، فهي لم تكن مقتنعةً باختيارها الجديد، لكنَّها اختارته فقط لأنَّها لا تستطيع مجاراة أكسل.

في النهاية يصاب أكسل بمرض السرطان، وتبدأ صحَّته بالتدهور تدريجيًا حتى يفارق الحياة، تاركًا خلفه أثرًا إنسانيًا عميقًا في حياة يوليا رغم كلِّ ما حدث بينهما. أمَّا إيفيند فيمضي قدمًا في حياته، يتزوَّج امرأةً أخرى ويصبح أبًا لطفل، مبتعدًا تمامًا عن العلاقة العابرة التي جمعته بيوليا. ويوليا تحترف أخيرًا مهنة التصوير. خاتمةٌ تبدو هادئةً وغير عادلة، لكنَّها واقعيَّةٌ نوعًا ما، وتتركنا أمام تساؤلاتٍ جوهريَّة: هل قرارات يوليا كانت صحيحة؟ هل يوليا أسوأ شخص في العالم؟

لذلك، بدلًا من اعتبار الفيلم رحلةً في البحث عن الذات، ربما يكون من الأدق وصفه بأنَّه معالجةٌ دراميَّةٌ لعقدة النقص وللهوس الدائم بمقارنة الذات بالآخرين. فـيوليا تمضي معظم وقتها وهي تقيسُ قيمتها من خلال من حولها: شريكها، والدتها، جدتها وحتى أقرانها. لم تشعر يومًا بأنَّها "كافية"، وهذا ما يفسر ارتباكها المهني وانتقالها المتكرِّر بين مجالات متعدِّدة، وكذلك اختيارها للهروب كخيارٍ دائمٍ بدلًا من خوض رحلةٍ حقيقيَّةٍ لفهم الذات. وهذا ما يتجلى بوضوحٍ في واحدٍ من أكثر مشاهد الفيلم جرأةً من الناحية البصريَّة: مشهد الهلوسة، حيث تدخل يوليا، تحت تأثير الفطر المهلوس، في حالةٍ من الهذيان البصري تخرجُ فيها كل مخاوفها وأشباحها إلى السطح. نراها فجأة في جسدِ امرأةٍ مسنَّة، ببشرةٍ مترهِّلة، وفي حضنها طفلٌ رضيعٌ تقوم بإرضاعه. مشهد مثيرٌ للقلق والتساؤل: هل يوليا تخاف من الأمومة لأنَّها ترى فيها نهاية شبابها؟ أم أنَّها تخشى الوصول إلى الشيخوخة دون أن تعيش تجربة الأمومة؟ هل تخشى المسؤولية أم الوحدة؟ هذا الهذيان يقودها أيضًا إلى مواجهةِ شخصيَّةٍ لطالما كانت جارحة لها، ألا وهي والدها المنفصل، الغائب عن حياتها.

وهكذا لا يمنحنا الفيلم أجوبةً بقدر ما يعرِّينا أمام أسئلتنا. فربما لا تكون يوليا "أسوأ شخصٍ في العالم"، لكنَّها بالتأكيد انعكاسٌ للكثير منَّا.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى