سؤال المصير في «حياة خفية» لتيرينس ماليك

في خضم رحلتنا في هذه الدنيا نتساءل: هل تضطرنا الحياة للرضوخ والتخلي عن مبادئنا وقيمنا حال تعرضنا لضغوط قاسية؟ أم أن التمسك بالمبدأ هو ملاذنا في هذا العالم الموحش؛ بصرف النظر عن النتائج التي قد تترتب على هذا الاختيار؟ أتقف في مواجهة السلطة وجهًا لوجه، حتى لو تعرضت حياتك الشخصية والأسرية للتهديد، أم الأفضل اتقاءُ هذا الشر، حتى لو كان تنازلك عن المبدأ هو المقابل؟ بعد فترة انقطاع قاربت الست سنوات يعود تيرينس ماليك محملاً بهذا السؤال الإشكالي الذي يتجاوز حدود التساؤل الأخلاقي ليغدو سؤالًا متعلقًا بالوجود الإنساني ومصيره المحتوم. «حياة خفية»، هو عنوان الفيلم الذي شارك به ماليك في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" السينمائي في دورته الـ (72) من العام 2019. وقد حصل الفيلم على جائزة فرانسوا شلايس التي يمنحها "كان" للأفلام التي ترسخ من قيم الحياة وتدعمها. 

«حياة خفية» هو العمل الثاني الذي يقدمه ماليك عن الحرب وتداعياتها الإشكالية، بعد فيلمه الأول «الخيط الأحمر الرفيع» الذي عُرض على الشاشات في عام 1998. في هذا الأخير يطرح ماليك سؤالًا مباشرًا عن سبب الحرب: لماذا الحروب؟ لماذا كل هذا الدمار والأذى الذي نُلحقه ببعضنا البعض؟ يتحدث الفيلم عن المعارك بين الولايات المتحدة واليابان إبان الحرب العالمية الثانية؛ لانتزاع هذه الجزيرة التي تكسوها الخضرة، وتأوي العديد من الفصائل المختلفة من النباتات والطيور الوديعة، ويشقها نهرٌ عذبٌ تبتهجُ الطبيعة بين جنباته. في هذه الجزيرة الجميلة تدور المواجهة الشرسة بين البلدين لإعلاء القوة، فتنتشر رائحة الموت.

يتعالى صوت الضمير الإنساني العميق من خلال صوت أحد الجنود، معلقًا على تلك الحرب الشرسة: «لماذا هذا الشر الرهيب؟ كيف تسلل إلى الحياة ومن بثه في النفوس؟ ما كل هذا العبث؟ لأجل ماذا يقتل بعضنا بعضا؟ ما الذي سيأخذه الإنسان معه بعد مغادرته الحياة؟» هؤلاء الجنود منهم من يتوق لأن يرى حبيبته مرة أخرى، ومنهم من يشتاق إلى العودة لأسرته التي تنتظره، والتي يتذكرها في قلب المعركة. لكنه لن يعود ثانية؛ فقد أكلت الحرب كل شيء: الأخضر واليابس، الأحلام والأمل والحياة بأكملها. العالم يحتاج إلى السلام، ونحن أيضًا نحتاج إلى السلام. وعندما نظن أن صراعاتنا ستؤدي بنا للسلام، فنحن بذلك نخدع أنفسنا، ولن نناله أبدًا. تلك رسالة الفيلم التي أراد ماليك أن ينقلها لنا، وهي رسالة محملة بنزعة إنسانية ترى وراء الدوافع الشريرة للإنسان جانبًا مضيئًا يمكن نفض الغبار عنه من أجل الأمل والحلم والسلام.

من نفس عوالم «الخيط الأحمر الرفيع» يأتينا فيلم ماليك «حياة خفية»، الذي يدور حول جندي نمساوي، يُحاكَم بتهمة الخيانة لرفضه الانتماء للجيش النازي خلال الحرب العالمية الثانية في النمسا، أي بعد أن قام هتلر بضم النمسا إلى "الرايخ" عام 1938، ثم نُشوب الحرب العالمية الثانية في العام التالي الذي تبدأ فيه أحداث الفيلم.

تستند القصة إلى أحداث حقيقية وتدور داخل إطار واقعي؛ حيث ينعَمُ فرانتس ياغرستاتر (الذي يجسد دوره أوغست ديل بمهارة كبيرة) بحياته الريفية البسيطة، منخرطًا في عالمه وسعيدًا بزوجته وأطفاله. وفجأة ينقلب هذا العالم بمكوناته البسيطة رأسًا على عقب بعد استدعائه للالتحاق بالجيش. يرفض فرانتس الانصياع لهذا الاستدعاء مدفوعًا بنسقه القيمي، الذي يرى في الحرب جريمة ما بعدها جريمة. يُعتقل، ثم يُهان ويُضرب في السجون كي يتراجع عن رفضه لمبايعة هتلر ومقاومته المستميتة. لكنه لا يستجيب، فتكون حياته ثمنًا لتمسكه بموقفه. وبالإضافة إلى الأداء المبهر لأوغست، يأتي أداء الممثلة الأسترالية فاليري باشنر - في تعاونها الأول مع ماليك - مدهشًا ومحملًا بمشاعر لا تغادر المشاهد بسهولة.

لكن هذه الحكاية، التي تبدو بسيطة في ظاهرها، تتحول عبر كاميرا ماليك وطريقته السردية المبهرة إلى لوحة فنية متحركة، أو قصيدة تفصح عن لغة سينمائية شاعرية، بحيث يغدو كل مشهد فيها استثنائيًا. وقد اعتمد ماليك في معظم مشاهد فيلمه على ضوء الشمس، باستثناء بعض المشاهد القليلة، التي صورها داخل السجون، وهو أمرٌ يشبه الآلية التي استندت إليها المدرسة الانطباعية في تنفيذ رسوماتها. 

يبدأ الفيلم في العام 1939، ويعتمد التقسيم الثلاثي لأحداثه عبر بنية سردية خطية: مقدمة، حدث رئيس، خاتمة. في الجزء الأول، يصور ماليك الحياة المستقرة السعيدة لفرانتس في الريف مع زوجته وبناته. إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة التي ستجتاح حياته وتنهيها بعد أن تحولها إلى بركان من الآلام والمعاناة والأسى. التهمة هي الخيانة؛ يخون بلده بعد تخلفه عن الالتحاق بالجيش. لكن ماليك لا يُظهِر البطلَ متأثرًا بهذا الموقف الذي يبدو أخلاقيًا في مظهره، بل يُظهره متسقًا مع قراره الداخلي ومطمئنًا إليه، وعلى استعداد أن يتحمل تبعاته.

في الجزء الثاني، بعد القبض عليه، يتعرض فرانتس لأقسى أنواع العذاب جراء قراره السابق. يُنقل إلى برلين لتبدأ محاكمته. وهناك يتبادل الرسائل مع زوجته، التي تتعرض للتنكيل من أبناء قريتها بعد اتهام زوجها بالخيانة، لكنها تسانده وتحاول دعمه وتشجيعه على التمسك بموقفه. في هذا الجزء تتجسد فلسفة ماليك الوجودية بشاعريتها والتزامها الأخلاقي تجاه العالم؛ حيث لا ينبغي للعالم أن يقهرنا، حتى لو كنا سنغرد بمفردنا خارج السرب. أما الجزء الأخير من الفيلم - الذي ينتهي نهاية تراجيدية بإعدام البطل - ففيه تتبدى فكرة ماليك عن الخلاص والتطهر عبر التضحية، وهي فكرة مسيحية خالصة، تعودنا عليها في معظم أفلام ماليك. 

لم يتخل ماليك في فيلمه عن أسلوبه الذي تبلورَ ونضجَ منذ فيلمه «الخيط الأحمر الرفيع»: استعماله لتقنيات الكاميرا الرقمية، اشتغاله على الزاوية العريضة، حركة الكاميرا التي لا تتوقف، مونتاج يمزج بين الحاضر والماضي بطريقة مفاجئة وغير معتادة، مراوحة بين الشخصيات ومحيطها الطبيعي في سيمفونية روحانية لا تبتعد عن فلسفة وحدة الوجود، موسيقى كلاسيكية لا تنتهي. وبالإضافة لذلك، هناك التعليق الصوتي الذي يأتي من خارج الكادر، وهو ما يمكن أن نعتبره بصمة ماليك السينمائية. هذه التعليقات تماثل ما تسميه المخرجة الطليعية مايا ديرن بالحركة الرأسية لما هو شعري، فهي لا تدفع الدراما للأمام، بل تضيء روح اللحظات التي تنطق من خلالها، وهي لحظات تجسد التيه الذي يضرب أعماق هذه الشخصيات وتعزز حالةَ اغترابها ووحدتها، فهي موجهة في الأغلب لشخص غير مرئي، كأنها لا تجد ما تتواصل معه داخل الفضاء الفيلمي، فتأتي من خارج الكادر، وتذهب خارجه أيضًا كصلوات ضائعة. 

وكمعظم أعمال ماليك الأخرى، لا يعتمد الفيلم على الحوار، بل يعتمد على الصورة والموسيقى التصويرية الكلاسيكية لـجيمس نيوتن هاورد. وكما هو الحال أيضًا في أفلامه السابقة، التي تغرد خارج السياق الهوليودي التقليدي، جاءَ فيلمه هذا، روائيًا من الدرجة الأولى ومحملًا بالعديد من الرسائل غير المباشرة واللاوعظية. ورغم ما يحمله الفيلم من طابعٍ أخلاقيٍّ واضح، فإن ماليك يحاكي المشاهد بصورة سينمائية تعبيرية لحكايات قديمة جديدة عن الحب والحرب والانتظار والأمل والإخلاص بكل معانيه.

كان ماليك دارسًا للفلسفة، وعمل أستاذًا لها؛ لهذا جاءت أعماله كلها محملة بثيمات فلسفية لا تخطئها عين، خاصة تلك التي تعود إلى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي تخصص ماليك في فلسفته أثناء دراسته. لقد كان سؤالُ الوجود هو السؤال الأساسي في فلسفة هايدغر: وجود الإنسان في العالم وعلاقته بالطبيعة في داخله ومن حوله. يرى هايدغر أن الوجود الإنساني في العالم موسومٌ بالغربة والغرابة. الإنسانُ مقذوفٌ به إلى العالم، يتجه نحو الموت بخطى حثيثة، ويناضل من أجل خلاصه. وجود الإنسان عند هايدغر يغلّفه النسيان والشعور الدائم بالانفصال والتعالي وعدم الانتماء؛ غربة وجودية ملازمة لوجوده نتيجة اللقاء الأول للإنسان بهذا العالم الذي لم يختر العيش فيه. ربما هذا هو الوصف الأمثل لأبطال ماليك، فهم تائهون داخل أنفسهم وداخل الوجود، ضائعون بين السماء والأرض، كلما لامست أقدامهم أرضًا صارت هواء.

ورغم ما تعرَّض له ماليك من انتقادات كبيرة تتعلق بضعف النصوص التي تقوم عليها أفلامه، ونصيحة بعض الناس له بأن يعتمد على كتاب للسيناريو، لا على اجتهاداته الشخصية، في بناء أعماله. لكن في الواقع فإن وراء هذه الانتقادات تكمن براعة ماليك الحقيقية؛ إذ تخرج أفلامه في شكلها النهائي على قدر كبير جدًا من التماسك والسرد المبتكر، وكذا محاولته الإمساك بالعواطف المضطربة في دواخل الشخصيات التي يمنحها صوتًا داخليًا وصورًا تنتمي إلى عالم الذكريات والأحلام، وتعمل كخزان رئيس للصور الشعرية. 

وكما هو الحال في فيلمه الأول عن الحرب، يتبدى في هذا الفيلم ولع ماليك الكبير بتصوير علاقة الإنسان بالطبيعة كالأشجار، وجداول الماء، والحيوانات التي تُرعى، والسحب التي تتجمع في السماء كأنها تنذر بالمصير القادم، وكأن ماليك يريد أن يقول للمشاهد إن الطبيعة في ذاتها تميل إلى الهدوء والسلام والسكينة. إنها نقيض الإنسان، وتبدو ملاذًا في ذاتها ضد كآبة العالم الإنساني ووحشيته، غير أن هناك بُعدًا آخر لحضور الطبيعة في أعماله؛ حيث يجيد ماليك ترجمة الأحاسيس الإنسانية في الطبيعة بمهارة: التعبير عن لحظة الأسى عبر حفيف ورق الشجر، التعبير عن القلق عبر بانوراما للجبال الشاهقة، الانتظار عبر تدفق المياه، وهكذا الأمر بالنسبة إلى السعادة والفرح والأمل. لا شيء على وجوه الشخصيات سوى ظلّ المواسم التي تمر، وكل الأسرار هنا في التراب الذي صُنعوا منه، في الهواء الذي يهب عليهم، في الصدى الذي سيردد حكاياتهم.

في «حياة خفية»، الذي قد يكون أقربَ أفلام ماليك إلى نفسه، وإلى رؤيته الفلسفية، يستحضر ماليك هذه المعاني بقوة عبر الحكاية التراجيدية للبطل، ومعاناته، وتشتته، وتردده، في عالم تختلط فيه المعايير بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. غير أن سينما ماليك تنتصر في النهاية لفكرة الواجب الداخلي والسمو الأخلاقي، بعيدًا عما تفرضه حسابات الواقع والمصلحة، بما يفرضه ذلك من تضحيات ومعاناة، روحية كانت أو مادية. 

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى