«ارتزاز»: لغةٌ سينمائيّةٌ تبحثُ عن فضاءٍ أرحب.

December 12, 2025

عُرِض فيلمُ «ارتزاز» للمخرجةِ سارة بالغُنيم ضمن عروضِ الأفلامِ القصيرة في مهرجانِ البحرِ الأحمر السينمائيّ يومَ 8 ديسمبر، وهو عملٌ يقومُ على توتّرٍ نفسيٍّ مُكثَّف نابعٍ من العلاقةِ المُعقَّدة بين أمٍّ وابنتِها داخل فضاءِ عزاءٍ نسائيٍّ مُغلق؛ إذ تتحوّل فيه العاداتُ الاجتماعيّة إلى أدواتِ ضغط، ويُعاد إنتاجُ القمعِ بأكثرِ أشكالِه نُعومةً وصمتًا.

تُقدّم ريم الحبيب أداءً يلتقطُ الصراعَ الداخليَّ لشخصيّةِ الأمّ؛ أداءٌ لا يُعلن فيه القمعُ عن نفسِه مباشرة، بل يُمارَس عبر التجاهلِ والازدراءِ والاعترافِ الغائب. في المقابل، تقف شخصيةُ الابنةِ التي تنتظرُ كلمةً واحدةً تحملُ معنى الإنتماء؛ انتظارٌ يتحوّلُ تدريجيًا إلى هشاشة، ثمّ إلى لامبالاة، وصولًا إلى سخريةٍ سوداء تُصبح وسيلتَها الوحيدة للتماسُك داخل مساحةٍ خانقة.

يُظهر فيلمُ «ارتزاز» قدرةَ سارة بالغُنيم على استخدامِ حدثٍ اجتماعيٍّ مثل العزاءِ النسائيّ لا كخلفيّةٍ للأحداث، بل كمساحةٍ يمكن أن تتقاطعَ فيها مشاعرُ كثيرةٌ في اللحظةِ ذاتها. فالعزاءُ عادةً مكانٌ للحزنِ الرسميِّ وضبطِ الانفعالات، لكنّ الفيلمَ يُحوّله إلى مساحةٍ تكشفُ عن التوتّر بين الأمّ والابنة.

ويُعَدّ استخدامُ المخرجةِ للرمزيّات من النقاطِ الذكيّة داخل أحداثٍ قد تبدو في ظاهرِها بسيطة. فبعضُ الإشاراتِ البصريّة داخل العزاء - من نظرةٍ، أو حركةِ يدٍ، أو مسافةٍ تُتركُ عمدًا بين شخصيتين - تتحوّلُ إلى معانٍ تُكثّف من الحالةِ الشعوريّة دون الحاجةِ إلى لَفظِها. كما تستعينُ المخرجةُ بالدلالةِ الرمزيّة لبعضِ الإكسسواراتِ الموجودةِ في مشاهدِ العزاء، وتوظّف انعكاساتها على الشخصياتِ الموجودةِ في المكانِ نفسِه؛ كلوحةٍ أو تُحفةٍ تعملُ كمرآةٍ داخليّةٍ للمشهد، وتمنحُ القصةَ عُمقًا يتجاوزُ ما هو معروضٌ على السطح.

كما يبرزُ أسلوبُ سارة الواضحُ في تركيبِ المشهدِ وتقطيعِه بطريقةٍ تُعبّر عن ملامحِ بصمتِها الخاصّة؛ فثمّة حِسٌّ سرديٌّ يعملُ على خلقِ إيقاعٍ داخليٍّ مستمر، وإدارةٌ ذكيّة لمساحةِ الإطار، واستغلالٌ مدروسٌ للحظاتِ الصمت، ممّا يخلقُ مساحةً أمام المُشاهد للضحكِ على حِسّ الكوميديا السوداء دون أن تنطقَ الشخصيات. ويمكنُ القول أنّ المخرجةَ، من خلالِ هذا العمل، تضعُ ملامحَ منهجٍ بصريٍّ وسرديٍّ قد يتطوّر إلى لغةٍ سينمائيّةٍ خاصّة بها في الأعمالِ القادمة؛ لغةٍ تعتمدُ على الحدّ الأدنى من الحركةِ والحدّ الأقصى من الدلالة.

ورغم ذلك، يظلّ واضحًا أنّ هذه اللغةَ تحتاجُ إلى مساحةٍ زمنيّةٍ أطول حتى تتبلورَ في صورتِها الأكثرِ نُضجًا. يُلمّح «ارتزاز» إلى مخرجةٍ تمتلكُ تصوّرًا فنّيًا قادرًا على الاتّساع، لكنّه اتّساعٌ يصعبُ احتواؤه داخل فيلمٍ قصير. فأبعادُ الرؤيةِ الإخراجيّة لديها -كما تكشفُها لحظاتُ الفيلم- تحتاجُ إلى مشروعٍ أطول حتى تتجلّى طبقاتُها الكاملة، وتسمحَ للرمزيّاتِ وللتوتّرِ الداخليّ بالتنفّسِ بحُريةٍ أكبر.

وعلى مستوى البناءِ الدراميّ، كانت النهايةُ بحاجةٍ إلى تمهيدٍ أطول لترسيخِ العلاقةِ بين الأمّ وابنتها قبل بلوغِ لحظةِ الانفجارِ الصامتِ في النهاية؛ إذ يصلُ الفيلمُ إلى ذروةٍ شعوريّةٍ قوية، لكنّه يقفزُ إليها سريعًا دون التراكمِ الكافي الذي كان سيُضاعفُ من تأثيرَها. ومع ذلك، يظلّ الاشتغالُ الإخراجيّ حاضرًا، عبر الإطاراتِ الدقيقة، وتوجيهِ الممثلات، والقدرةِ على خلقِ عالمٍ بصريٍّ متماسكٍ ومشحونٍ بإيقاعٍ داخليّ.

«ارتزاز» عملٌ قصير، لكنّه يكشفُ عن مخرجةٍ تمتلكُ حِسًّا بصريًا واعيًا، ولغةً آخذةً بالتشكّل، ورغبةً واضحةً في استخدامِ السينما كأداةً لقراءةِ المشاعرِ والعلاقاتِ الصامتة. وإذا كان هذا الفيلمُ إعلانًا أوّليًا عن صوتٍ سينمائيٍّ جديدٍ في عالمِ الأفلامِ الطويلة، فربما يكون مشروعُها القادم هو المحطّةَ التي ستتفتحُ فيها هذه الرؤيةُ بكاملِ طبقاتِها.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى