«ستموت في العشرين» .. صراع الخرافة والعقل

August 24, 2025

الحياة موضوعٌ يستحقُّ التفكير، فهي تختلف من شخصٍ لآخر، على عكس الموت الذي يظل مشتركًا بيننا جميعًا. يتناول فيلم «ستموت في العشرين» (You Will Die at Twenty - 2019) فلسفة الموت المُرتقب الذي يحاصر بطله من كلِّ اتجاه، الموت الذي يُقرُّ به جميع من حوله، والذي ينبغي عليه الوقوع في وقتٍ بعينه حتى تستمرَّ الخرافة، ولكيلا تهتزَّ منزلة النبوءة.

لقد ظلَّ البطل ينتظر خلاصًا من شبح هذا الموت، متجسدًا في شخصٍ يُوقظ تفكيره، ويفتح له ضوءًا نحو الحياة، بعد أن يصرخ في وجهه: «كل شيء فيك يذكرني بالموت». وقد آمن الجميع أنَّه ميِّتٌ لا محالة حتى وهو ينجو، وكان إيمانهم بالوهم أقوى من أنفاسه وهو يهرول نحو الحياة!

يبدأ الفيلم الدرامي السوداني «ستموت في العشرين»، المقتبس عن قصة قصيرة للكاتب حمور زيادة ومن إخراج أمجد أبو العلا، بلقطةٍ بانوراميَّة رمزيَّةٍ لحياةٍ تعكس واقعًا مثقلًا بالهموم، والمعتقدات والخرافات السائدة. هذه اللقطة، التي تجسِّدُ طائرًا يأكلُ من جثَّة بقرةٍ في صحراء موحشةٍ على وقع صوت الرياح والأهازيج الغامضة، تشي بقصَّة الموت المهيمنة على المكان، ثمَّ تتبعها لقطةٌ أخرى تعرضُ جانبًا من الفقر والتبعيَّة، ونلمح جانبًا اجتماعيًّا متمثلًا في الأزياء البسيطة، وطقوس الطعام والحوارات القصيرة، وكأنَّ عينَ المخرج تجهِّزنا للدخول مباشرةً في الحدث الجوهري: ولادة الطفل مُزَّمِّل التي تستوجب طقسًا احتفائيًا استبشارًا بقدومه، وهي عادةٌ منتشرةٌ في المناطق التي تُهيمن عليها الطُرق الصُوفيَّة.

لكن ما حدث لمُزَّمِّل كان مختلفًا، إذ تنبَّأ العرَّاف بموته في سن العشرين! وبين صدمة الأمِّ والدهشة التي علت ملامح الحاضرين، انتشر الخبر سريعًا حتى غدا أمرًا مُسلَّمًا به، وبات مُزَّمِّل يُدعى بين أقرانه لاحقًا بـ "ولد الموت"، في حين كانت النسوة يطبطبن على كتف أمه في كلِّ لقاء، في محاولةٍ لحثِّها على التسليم بالقضاء والرضا بهذا المصير المحتوم. وهكذا آمن الناس في القرية الصغيرة بالنبوءة إيمانًا مطلقًا، ومضت قصَّته لتصبح علامةً على القرية تشكل جغرافيَّتها الجديدة، فكان الناس عندما يصِفون الطريق لعابر، يشيرون إلى القرية باسم "قرية الصبي الذي سيموت في العشرين".

لم تستسلم سَكِينَة أم مُزَّمِّل في بداية الأمر، وأخذت تسعى بين العرَّافين وتسألهم وتطرق أبواب تجمُّعات الدراويش بحثًا عن خلاصٍ لابنها، ومع مرور الوقت، وهي تشعر بالإرهاق الشديد والحزن العميق من هذا الفأل، استسلمت أخيرًا. الحزن الذي لا يمكن أن تفهمه سَكِينَة، فضلًا عن الآخرين، هو حُزن تساؤليٌّ يضع الحياة في كفّة، ورمزية المُوت المختصرة في شخص مُزَّمِّل في كفّةٍ أخرى. هذا الصراع يُلخِّصه مشهد مُزَّمِّل وهو نائم في ثوبه الأبيض، بالقرب من أمه في ثوبها الأسود.

يتكالب الحزن على سَكِينَة بشراسةٍ من كلِّ جهة، خاصَّةً بعد رحيل زوجها الذي لم يعد يحتمل هذه القصة، لكنَّه ظلَّ يسأل عن زوجته وابنه ويُرسل لهما الأموال من بعيد. استسلمت سكينة ولبست ثوب الحداد، بل وبدأت تخيط كفنًا وتجهِّز وداعًا يليق بولدها، وأخذت تعدُّ الأيام والسنوات في لقطاتٍ مؤثرة. ويا للمفارقة المدهشة، حين تختلف مع زوجها على مكان مرقده الأخير، في لقطةٍ تتَّسم بسخريةٍ سوداء، فهي تمعنُ في تأكيد فكرة أنَّه ليس هناك من احتمالٍ آخر لوداعه عندما يتمُّ العشرين، وتقضي على أيِّ أملٍ في الحياة.

تتسرَّب الفكرة إلى نفس مُزَّمِّل ويؤمن بها بيقينٍ تام، كيف لا وهو الذي قضى مع الموت عمرًا مديدًا، حتى إنَّه تخلَّى عن الزواج بحبيبته التي حاولت إقناعه بأنَّ ما حدثَ ليس أكثر من مجرَّد تنبؤات قد لا تكون حقيقة، وكانت مؤمنةً بأنَّ موته لن يحدث. أراد المخرج أن يجعل من الحبيبة رمزًا للعاطفة في صراعها المتقلِّب ضد الخرافة، وكيف يمكن أن تكون استثناءً لقوَّة الحب.

يلتقي مُزَّمِّل بسُلَيْمَان الذي يحمل شيئًا من الخلاص لحكايته المؤلمة وكأنَّه الفرصة الأخيرة. وهو رجلٌ منفتحٌ يرفض الخرافات والأوهام، مُحبٌّ للفنون والموسيقى، للرحلات وملذات الحياة. يقول له في مرَّةٍ من المرات: «لو افترضنا أن موتك في العشرين صحيحٌ، فلماذا تحزن؟ عِش لأقصى ما فيك من فرحٍ، وحياةٍ، وحُب، وعند العشرين... طلّع لهم لسانك».

يكشفُ لقاء مُزَّمِّل بسُلَيْمَان عن شخصيةٍ جديدة تظهرُ لأوَّل مرَّةٍ في حياة الأوَّل، تقول له أشياء لم يسمع بها من قبل، وبنفس القوة واليقين اللتين تلقاهما طوال عمره، وجهة نظرٍ أخرى عن الحياة والأفكار، والقرية والدراويش. شخصية سُلَيْمَان مختلفة عن مجتمعه المحافظ، المتدين والمؤمن المُنقاد لتوجيه القبيلة والعُرف، وهذا ما يُربك مُزَّمِّل في بداية الأمر، ويدخل بسببه في صراعٍ عميق بين ما يعرفه، وبين قناعاتٍ جديدة تبدو مريحةً ومُقنعة.

ثمَّ تتغير أفكاره شيئًا فشيئًا عن موته، عن الخرافات المتردِّدة من حوله، بل نراه يتمُّ العشرين دون أن يَموت، في قدرٍ يعاكس نبوءات القرية المتشائمة. في اللقطة الأخيرة من الفيلم، يجري مُزَّمِّل، يجري بعيدًا عن القرية، بعيدًا عن عشرين سنة رافق فيها الموت، ليذهب إلى سعة الحياة.

يستعرض فيلم «ستموت في العشرين» ما يجنيه السُذّج من الانقياد الأعمى، وكيف يمكن للخرافة أن تُهيمن، وتُسيطر على العقل وتُغيّبه تمامًا، ثمَّ تُحرِّكه كالدمية في مسرحٍ يضجُّ بالمُوت.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى