«سماء بلا أرض»: عن التضامن النسويِّ كوسيلةٍ للنجاة.

May 22, 2025

تسرد المخرجة أريج السحيري، في فيلمها الروائي الثاني «سماء بلا أرض» (أو سماء موعودة بحسب العنوان الإنكليزي)، حكايةً لا تكتفي بالحديث عن الهجرة والعنف على نحوٍ سطحي، إنَّما تغوص في عمقِ التجربة الإنسانيَّة، فهي تجمعُ ثلاث نساء مهاجرات، من أعمارٍ وخلفيَّاتٍ متباينة، تحت سقفٍ واحد، في محاولةٍ جاهدةٍ لخلقِ وطنٍ داخل جدران هذا البيت. وفيما تتحرَّك هذه الأرواح المحاصرة داخل بيتٍ ضيِّق، في فضاءٍ مغلقٍ يفيضُ بالخوفِ والصمت، يبدأن بسردِ حكاياتهنَّ الشخصيَّة في جوٍّ من التضامن النسوي، ويسعين للنجاة، في الوقت الذي يواجهن فيه هشاشتهنَّ وصراعاتهنَّ النفسيَّة.

يلتقط الفيلم بعينٍ حسَّاسةٍ لحظات الصمتِ المشحونة، والألمِ المكتومِ والخوف الذي يتسلَّل من الخارج إلى جدرانِ هذا البيت، ومن داخل نفوسهنَّ وعلاقاتهن المتوتِّرة وذكرياتهن المؤلمة. البيت في «سماء بلا أرض» ليس ملجأ فحسب، فهو يجمع نساءً من خلفيَّاتٍ عديدة، يحاولن التعايش سويًا تحت ضغط الخوف، وهذا يمثِّل مساحة اختبارٍ لهن، ويصوِّر مدى هشاشة العلاقات الإنسانيَّة حين تتقاطع الرغبات والاحتياجات وسط ظروفٍ عصيبة.

تعيش ماري، وناني وجولي، تحت سقفٍ واحد. ماري قسيسيَّةٌ وصحفيَّةٌ سابقة، اختارت الصمتَ طريقًا للنجاة، ولا يخلو الهدوء لديها من عمقٍ خفيٍّ لا يُدرَك بالعين المجرَّدة. أمَّا ناني فتمثِّل هشاشة الأمومة في وجه قسوة الحياة اليومية: أمٌ علِقت بعيدًا عن ابنتها، امرأةٌ عاديَّةٌ من لحم ودم، لا تطلب سوى الأمان ولا ترغب إلا بالبقاء. وفي حين تجسِّدُ جولي، الطالبة الشابَّة القادمة إلى تونس للدراسة لا للهجرة، ملامحَ الشباب الحالم المتمرد الذي يتمسَّك بأحلامِه رغم الشروخ التي يتركها الواقع.

تتأرجح العلاقة بين ماري وناني بين الحنان والحذر، إذ تسعى ماري لتكون الأمَّ الروحيَّة لمن في البيت، تحيطهم بصمتها الحاني وإيمانها العميق، بينما تقابلها ناني بتحفظٍ خفي، إذ تخشى كأمٍّ مجروحة أن يتحوَّل الاعتماد إلى نوعٍ من الاستسلام، أو أن تُفقدها سيطرتها على ما تبقى من توازنها. أمَّا العلاقة بين جولي وناني فتعكس صراعًا أزليًا بين من ترفضُ الواقع ومن تتشبَّث بما تبقَّى منه، فجولي، بعينيها المشعَّتين بالأمل، تمثِّل التوقَ إلى الانعتاق والتمرد، إلى كسر القيود والسعي نحو المجهول، في المقابل تقفُ ناني مثقلةً بأمومتها، متردِّدة في كلِّ خطوة، يخنقها الخوفُ من المجازفة، خشية أن تخسَر آخر ما تبقى لها من أمانٍ هش.

رغمَ التوتُّرات التي تشوب العلاقات، تنبثقُ لحظاتٌ خافتةٌ من تضامنٍ صامت، تضامنٌ لا يُعلن عن نفسه بالكلمات، بل يتسلَّل في النظرات العابرة، في تحمُّل النساء لبعضهن، وفي محاولاتٍ صغيرةٍ لمنح الآخر شيئًا ولو في ظلِّ عوزٍ مشترك. وجوهرُ هذا التضامن يظهرُ في صورة الطفلة اليتيمة التي دخلت حياة هؤلاء النساء مثل ومضةٍ هادئة، لكنَّها غيَّرت كلَّ شيء.

منذ المشهد الأول، تجتمع النساء حول الطفلة الجالسة في حوض الاستحمام. تبدأ الصغيرة بسردِ رحلتها بهدوءٍ مؤلم، تروي كيف خسرت عائلتها كلها، غير مدركة تمامًا فداحة ما تقوله. تقابلها النسوة بصمتٍ مشوبٍ بالتأثر، يتجمَّعن حولها بقلوبٍ مفتوحة، في محاولة للطمأنة، لاحتضانٍ رمزيٍّ أكثر منه فعلي. تشعُّ اللحظة بوهجٍ ناعم وهش، لكنَّه صادق، وربما من تلك النقطة تحديدًا، بدأت خيوطٌ غير مرئيَّةٍ تنسج ارتباطًا بين هؤلاء النساء، ارتباطًا صنعه وجود الصغيرة، وتأرجحٌ بين رغبةٍ في حمايتها، ورغبةٍ أخرى في التشبُّث ببعضهنَّ البعض، بحلمٍ مشترك في الاستمرار رغمَ كلِّ شيء.

إنَّ وجود الطفلة اليتيمة لم يكن عابرًا. كانت أشبه بمرآةٍ خفيَّةٍ تعكس جروحَ كلِّ امرأة في البيت، جروحٌ حاولنَ طمرها بالصمت والانشغال. ومع كلِّ لحظةٍ تمعن فيها النسوة في النظر إلى الطفلة، كانت تنبثق أسئلةً أكبر وأعمق: هل يمكن لامرأةٍ مجروحةٍ أن تحمي أخرى؟ وهل يمكن للتضامن، وإن كان صامتًا، أن يُعيد للحياة معناها وسط الركام؟

تُقدِّم أريج السحيري فيلمًا لا يتناولُ النجاة من الجوع أو الحرب فحسب، بل من الوحدة، من الصمت، ومن التفتُّت الداخلي. لا تصنع فيلمًا سياسيًا مباشرًا، لا شعارات، لا خطابات ولا بطولاتٍ تقليدية، بل تمنحنا تجربةً تنبعُ من الداخل، من الهامش، من ذاك المكان الذي لا تصله الكاميرا عادةً. لا يمكنُ اعتبارُ الهجرة في هذا العمل موضوعًا بحدِّ ذاته، بل بصورةِ فضاءٍ إنسانيٍّ معقَّد. والمهاجر لا يُقدَّم كضحيَّةٍ أو كبطل، بل كإنسانٍ بكلِّ ما يحمله من هشاشةٍ وجراحٍ وأخطاء، إنسانٌ يعيشُ يومه مثقلًا بتعبٍ لا يزول، تحاصرُه الأسئلة المعلَّقة، ويقبض على أملٍ هشٍّ يحاذرُ فقدانه في كلِّ لحظة. 

بعدسة فريدا مرزوق، تتوغَّل الكاميرا في الهشاشة: في النظرات الغارقة بالصمت، في رعشةِ اليد، وفي لحظات الارتباك التي تمرُّ غالبًا بلا انتباه. هنا تُصبحُ التفاصيلُ الصغيرة مفتاحًا لكشف أبعادٍ أكبر، كأنَّ السينما تُنصتُ لما هو غير منطوق، لما يختبئ بين طيَّات اليومي والعابر. تتَّبع أريج السحيري أسلوبًا تأمليًّا هادئًا يرفض اللهاث وراء الحدث ويختار التريُّث، وتلتقط الكاميرا ما يفلت عادةً من العين المألوفة، ما يُهمَل لصالح الدراما الصاخبة. بالتالي تغدو اللقطات الضيِّقة أداةً سرديَّةً بحدِّ ذاتها، تُجسِّد البيت كمساحةٍ خانقة لا تحاصرُ الجسد فحسب، بل تحاصره بالقصص التي لا تجدُ حيِّزًا لتتجاور أو لتُروى. 

لا تختِم أريج السحيري فيلمَها بسرديَّةٍ مغلقةٍ أو بإجاباتٍ جاهزة، بل تتركُ المُشاهد أمامَ سؤالٍ مفتوحٍ يلاحقه حتى بعد انتهاءِ العرض: ما معنى البيت حين يضيق بأهله؟ حين يتحوَّل من مأوى إلى عبء، من حضنٍ إلى جدار؟ تطرحُ أريج سؤالًا عن السماء التي لا تُفضي إلى أرض، وعن أراضٍ لا تعود صالحة لساكنيها، لا لأنَّها مدمَّرة، بل لأنَّها لم تعد تتَّسع لمن يعيشون فيها. إنَّها أسئلةٌ لا تخصُّ المهاجرين وحدهم - وإن كانت تمسّهم في الصميم - بل تخصُّ كلَّ من يشعر أنَّ الجدران تضيق عليه، أنَّ الهواء شحيح، وأن المعنى يتسرَّب من بين الأصابع. 

يستندُ الفيلم إلى أحداثٍ واقعيَّةٍ جرت في تونس عام 2023، حين تعرَّض المهاجرون من دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى موجةِ عنفٍ وتمييز واعتقالات تعسُّفية، ما أثار توترًا اجتماعيًا واسعًا في البلاد. وقد عُرض الفيلم عالميًا لأوَّل مرَّةٍ ضمن قسم "نظرة ما" في الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي، وهو ثاني أفلام أريج السحيري الروائيَّة الطويلة بعد فيلمِها «تحت الشجرة» (2022).

نُشرت هذه المقالة بدعم من مبادرة «سينماء» لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى