كان الشاعرُ والمسرحي والروائي والفيلسوف والموسيقي والرسام والفائز بجائزة نوبل للآداب روبندرونات طاغور (1864-1941) الشخصيةَ الأهم في النهضة البنغالية. ومن بين منجزاته الخالدة «جامعة العالم» فيسفا بهاراتي التي أسسها سنة 1921 في شانتي نكتان التي تبعد عن كلكتا قرابة الـ 120 ميلًا. وفي عام 1940 التحق في هذه الجامعة ساتياجيت راي ذو الـ 19 ربيعًا لدراسة الآداب والفنون.
سوكومار -الذي رحل عن الدنيا ولما يبلغ ابنه راي الثانية بعد- كان صديقًا مقربًا من طاغور، إلا أن راي حين وصل إلى شانتي نكتان لم يبق في عمر طاغور إلا سنة واحدة، لذا لم يحظ الطالب الشاب الوجِل من رفعة مقام طاغور بلقياه إلا قليلا. على كل، لطالما قدّر راي أعمال طاغور تقديرا عميقًا، وحين قرر -عام (1948)- أن يبدأ مسيرته في السينما تعاونَ مع أحد أصدقائه لكتابة سيناريو مستندٍ إلى إحدى روايات طاغور وهي (البيت والعالم). لم يُكتبْ للمشروع النجاح، وحين أعاد راي قراءة السيناريو وجد أنه: «بدائي و هوليوودي الصنعة، وكان ليدمر سمعتي ويضع حدًا لكل ما فكرتُ أن أبني به مسيرتي السينمائية». وفي نهاية المطاف، سنة (1984)، اقتبس راي هذه الرواية مستخدماً سيناريو مختلفًا تمامًا عما كتبه سابقًا.
في عام (1961)، عاد راي إلى طاغور وقد أضحى مخرجًا له مكانته العالمية، وفي جعبته روائع مثل: «ثلاثية آبو» (Apu's trilogy) و «غرفة الموسيقى» (Music Room 1958) و«ديفي» (Devi 1960)، فاقتبس ثلاث قصص من طاغور في فيلمه «ثلاث بنات » (1961 Three daughters)، وصوّر وثائقيا بعنوان «روبندرونات طاغور» (Rabindranath Tagore 1961)، وذلك احتفالا بمئوية الرجل العظيم. ووصف راي فيلمه الأخير الذي يعد احتفاء رسميًا بشاعر الهند بأنه «مهمة روتينية قاصمة للظهر». إلا أن الأعمال المقتبسة عن طاغور تاليًا لم تحمل هذه الصفة على الإطلاق.
« شارولاتا» (1964 Charulata) -الموصوف عادة بأنه أفضل أعمال المخرج، والذي يفضلّه عن سواه هو نفسه إذ يقول: «هو الفيلم الأقل عيوبا»- مقتبسٌ من نوفيلا طاغور «نستنيره» أو «العش المكسور». ويقال إن القصة مستلهمة من علاقة طاغور بزوجة أخيه «كادامباري ديفي»، التي انتحرت سنة (1884) تاركةً وراءها أسئلة ليس لها جواب. كانت كادامباري مثل شارولاتا جميلة وذكية وكاتبة موهوبة. وفي نهاية سنين حياته اعترف طاغور أن مئات من البورتريهات التي رسمها عن النساء كانت مستوحاة من ذكرياته عنها.
أظهر راي منذ أن استهل مسيرته -بدءًا من «باتر بانشالي» (1955 Pather Panchali)- قدرتَه الاستثنائية على تحويل العالم أجمع إلى عالم مصغر، وذلك بالتركيز على مجموعة اجتماعية صغيرة دون إغفال صلتها بالصورة الأعم. واستطاعت أفضل أفلامه كـ«ثلاثية آبو، وغرفة الموسيقى، وأيام وليالي في الغابة، ورعد بعيد، والرجل المتوسط»، أن تحقق هذان المعياران. ومن بين جميع ما قدم من (دراما الحجرة) يبرز فيلم «شارولاتا » بصفته الأكثر رقة وعذوبة. تدور أحداث الفيلم، كغالب أفلام راي، في بلدته الأم كلكتا، حوالي سنة (1880). وفي ذلك الزمان بلغ الحراك الفكري في دائرة النهضة البنغالية مبلغًا عظيمًا، وبدأ الحديث بين أفراد الطبقة المثقفة عن حق تقرير المصير في الهند، والاستقلال الكامل عن الإمبراطورية البريطانية. وكانت هذه الأخبار تجد صداها في صحيفة الحارس (The Sentinel)، وهي صحيفة تحررية تصدر بالإنجليزية إسبوعيا، ويملك هذه الصحيفة ويترأس تحريرها (بوباتيناث دوتا). وبوباتي هذا رجل طيب، إلا أن همه السياسي قد سرق وقته كله، مما أدى إلى إهمالِه لزوجته الطيبة الذكية شارولاتا وتركِها لهمومها الخاصة.
إن السلاسة والأناقة البصرية التي حققها راي في شارولاتا تتجلى على الفور، فبعد إشارة البداية تظهر لنا (شارو) مثل سجينة في بيتها، تحيك وتخيط محاولة تسلية وقتها. (لا يُسمح في ذلك الوقت للمرأة البنغالية المتزوجة أن تخرج لوحدها). نراها تستدعي الخادم كي يأخذ الشاي إلى (بوباتي)، ثم نشاهدها تتصفح كتابا وهي مستلقية على سريرها، ثم تنهض لتأخذ واحداً آخر من رف الكتب. وحين تستمع إلى الضوضاء القادمة من الشارع، تهرع لارتداء نظارات الأوبرا خاصتها ثم تراوح كطير من نافذة إلى أخرى، لمشاهدة المارة. فترى أحد موسيقيّ الشوراع مع سعدانه، ومجموعة من الحمالين يهللون وهم يحملون على ظهورهم بالانكوين، وبراهما بطين يحمل مظلته السوداء. وحين يعبر (بوباتي) على بعد خطوتين منها ولا يلاحظها لانهماكه التام في كتابه، تتابعه بنظارتيها، فإذا به مجرد مثال غريب آخر عن العالم الخارجي بعيد المنال.
من خلال هذه المشاهد المتتالية، تتبع كاميرا راي (شارو) جليًا وهي تتجول بلا هوادة في أطراف البيت، يصورها في سلسلة من المساحات: المداخل، الممرات، وبين الأعمدة، الأمر الذي يرمز على حد سواء إلى الرفاهية البنغالية الفكتورية وإلى السجن الذي تشعر به داخلها. وحيث إن اللقطات الذاتية مخصصة عموما لنظرات (شارو) لحياة الشارع، فإن اللقطات المتتبعة التي تلحق بها وهي تمر عبر الدهليز والتي تتحرك فوق كتفها وهي تنسل من نافذة إلى نافذة، تشعرنا بحياتها المريحة والعالقة في الوقت نفسه. لا يختلف هذا النمط إلا في حالة واحدة: عندما تأخذ نظارتيها. فنرى تتبعًا جانبيًا سريعًا يركز على النظارة التي تحملها (شارو) وهي تعود مسرعة إلى النوافذ، وتشارك الكاميرا هاهنا لهفتَها المندفعة.
نرى (شارو) أثناء إشارة البداية وهي تطرز الحرف B على منديل ليكون هديةً لزوجها، يسرُّ (بوباتي) حين يتلقى الهدية ولكنه يسألها: «متى وجدتِ وقت فراغ يا شارو؟». لم يخطر بباله فيما يبدو أنها تمرّ بفترة محيرة. والآن بعد أن يفطن إلى مدى مللها ويخشى أن تصيبها الوحدة، يدعو أخاها الطائش (أومبادا) وزوجته (مانداكيني) ليمكُثا معهما، ويعرض لأخيها وظيفة في المجلة. لا تأتي صحبة (ماندا) الثرثارة حتى النخاع بخير لأخت زوجها. بعد ذلك، يظهر زائر فجائي، وهو (أمال) قريب (بوباتي). رجل مثقف مُتحمس مليء بالحياة وكاتب مُلهم. ويكوّن على الفور علاقة وثيقة بـ (شارو). علاقة تدفع كلا الطرفين بلا وعي منهما نحو الحب.
«ظاهرٌ ساكن، داخلٌ مستعر»، عنوانُ مقال كتبه راي عن السينما اليابانية، جملةٌ يمكننا أن نصف بها فيلمه شارولاتا كما أشار إلى ذلك الناقد البنغالي (شيداناندا داس غوبتا). إن الاضطراب العاطفي المتواري في طيات الفيلم يشار إليه إما بالتلميحات أو الإيماءات غير المباشرة، عبر نظرة عين عابرة أو مقطع من أغنية، ومشاعر الخيانة لا يُدركها من يحس بها إلا نصف إدراك. وفي مشهد جوهري تدور أحداثه في الحديقة المُضاءة بنور الشمس (في إشارة واضحة إلى لوحات فراغونار)، يستلقي (أمال) على حصير ينتظر الإلهام. في حين تتمرجح (شارو) عالياً فوقه، مستمتعةً بنشوةِ ما اكتشفتْه توا من إثارة فكرية و إيروتيكية. إن راي -وفقا لما لاحظه الناقد روبن وود- أحد أساتذة السينما في الربط.
في مشهد الحديقة، الذي يمتد قرابة العشر دقائق، نجد راي في غنائيته الأكثر حميميةً. إنها اللحظة الأولى التي تخرج فيها الأحداث من داخل البيت، فيشيع جو من الحرية والانعتاق. من الواضح أن هذا المشهد يتضمن أكثر من حادثة (مثلا: وعدت شارو أمال بأن تصمم دفترًا لأجل كتاباته، تقدمه إليه، يخبرها بأنه ملأه)، لكن القطع (المونتاج) يوحي بأنه مشهد واحد، وحدث مستمر، وتصعيد عاطفي سلس. مشهدان على وجه الخصوص يبلغان قدرًا لم يبلغه مشهدًا آخر في بقية أعمال راي، وكلاهما توّشيه الموسيقى. الأول: حين نرى (شارو) -بعدما حثّت (أمال) على الكتابة- وهي تتمرجح إلى الأمام والخلف، وتنشد بلطف، نرى الكاميرا تركز على وجهها (كلوز أب) لدقيقة كاملة. والآخر، حين يجد (أمال) الإلهام، فتنتقل الصورة على كتابات بنغالية تملأ دفتر ملاحظاته، خطٌ يتلو خطًا، في سلسلة من التلاشي المتقاطع cross-fades، في لحظة نسمع السيتار والشهناي يمجّدان إبداعه.
يقول ساتياجيت راي في مقالته المنشورة عام (1982) في مجلة (سايت اند ساوند) إن الفيلم قد يبدو منطقةً مألوفةً للجمهور الغربي، وذلك لحبكته الثلاثية وأجوائه الأوروبية والفكتورية، ولكنه «يُخفي تحت هذه القشرة المألوفة حشدًا من التفاصيل ليس للمشاهد الغربي إليها سبيل. كمقاطع الأغاني، والإشارات الأدبية، والتفاصيل المحلية، ومشهد كامل بين (شارو) ومحبوبها (أمال) يتحدثان فيه بأسلوب السجع. جميع ما سبق يعطي الفيلم وجهةً يغفل عنه المشاهد الغربي بانشغاله بالحبكة والشخصيات والأبعاد الأخلاقية والفلسفية في القصة ومعاني الصور».
من بين التفاصيل التي قد تغيب أيضًا عن المشاهد الغربي المتوسط الإشاراتُ المتكررة إلى بانكيم شاندرا (1838-94) أحد روائيي القرن التاسع عشر، وهو شخصية مهمة في الأدب البنغالي ومن الجيل الذي سبق طاغور. كتب بانكيم شاندرا (الذي يلقب بـ والتر سكوت البنغالي) مجموعةً من الروايات الرومانسية والقومية، التي ألهمت بدورها الشاب طاغور في بداية مسيرته. في بداية الفيلم، تأخذ (شارو) إحدى روايات بانكيم شاندرا من على الرف وهي تغني باسمه، وكذلك عندما يدخل (أمال) أول مرة بشعره الحريري والمتطاير جراء الرياح الصيفية، نسمعه يردد عبارة مشهورة للكاتب نفسه، تلّمح هذه المصادفة إلى الألفة بينهما. على النقيض، يذكر (بوباتي) مستغربًا أن أحد أصدقائه لم يستطع النوم لثلاث ليال بعد أن قرأ إحدى روايات بانكيم شاندرا ويخبره: «لا بد أنك مجنون»، وهذا يشير إلى الهوة العاطفية بينه وبين زوجته.
والموسيقى كذلك تستخدم للتعبير عن الوجدان الخفي: كالحالة التي يدخل بها كل من (شارو) و(أمال) إلى الجو الغنائي عفويًا، فيما تدور في الخلفية مقطوعتان لطاغور. نسمع نغمة إحداهما «ماما سيتي» أو «من يرقص في قلبي؟» وهي تُعزَف في الافتتاحية، و(أمال) يغني الأخرى وهي «فول فول» أو «كل زهرة تهتز وتتأرجح في النسيم العليل»، وهو مقطع تردده (شارو) في مشهد الحديقة بعدما نمت علاقتهما عاطفيًا. (وهو المقطع ذاته أيضًا الذي تردده ماندا لأمال بعدما شاهدتهما معا في الحديقة). ينسج راي تنويعات من كلا المقطوعتين لصنع أغنيته الخاصة. أما الأغنية الأخرى التي ينشدها (أمال) لـ (شارو) فهي من تأليف أخو طاغور الأكبر جيوتيريندراناث، زوج كادامباري ديفي.
تُصَوَّر ثيمة الفيلم المتمثلة في المشاعر المكبوتة والمرتعشة على شفا جرفِ التعبيرِ على مستويين.. السياسي: حين يرى (بوباتي) وأصدقائه في نصر الليبرالية في ويستمينستر في أبريل (1880) فرصةً عظيمة للاستقلال الهندي. والشخصي: في حالة (شارولاتا) بصفتها امرأة حساسة موهوبة تصبو إلى التحرر لكنها تنزلق نحو خيانة زوجها. للمُشاهد الغربي، لا يبدو الثلاثي إلا ساذجًا أو بليدًا، وهذا الأمر قد يولّد مجددًا سوء فهم ينتج عن عدم المعرفة التامة بالمجتمع البنغالي، حيث يجوز -كما يقول راي- وفقا للعادات لأخي الزوج (في هذه الحالة هو قريب للزوج، ولكن الأمر سيان بالنسبة للعادات والتقاليد البنغالية)، أنْ يكوّن علاقة مع زوجة أخيه. هذه العلاقة الحلوة العفيفة والتغزل الهزلي بين الزوجة وحميها مقبولة اجتماعيًا بل ومحضوض عليها. إلا أن (شارو) و(أمال) يضلان غير واعيين و يتخطيان حدودًا اجتماعية غير واضحة المعالم.
لطالما عُرف عن راي موهبته ووده في التعامل مع ممثليه، يقول عنه سعيد جافري الذي لعب دور البطولة في «لاعب الشطرنج» (The chess players 1977) إنه «مخرج كالمزارع، يختار الأزهار، ويعرف تمامًا مقدار الماء وأشعة الشمس التي تحتاجها الزهرة، ثم يدعها تنمو». أما سوميترا شاتريجي الذي كانت أولى أعماله في فيلم «عالم آبو» (The world of Apu 1959 )، فقد قدم أجمل ما عنده في دور (أمال)، شاب مندفع، تكسو تباهيه غير المكبوح لمسةٌ من سخافة. شاب يفيض فرحًا من غبطة اكتشاف الحياة حتى أقصاها، بعدما خرج طليقًا من كبت نزل الطلاب. لقد وافق (أمال) (شارو) التي لعبت دورها (مادهابي موهيرجي) موافقةَ شنٌ طبقة. هي التي تمتلك ملامح تعبيرية حية توائم مشاعرها التي لا تنفك تتغير وتتبدل والتي لا تكاد تدركها، ناهيك عن التعامل معها. لقد لعبتْ كذلك دور البطولة في فيلم راي السابق «المدينة الكبيرة» (The big city 1963)، ووصفها بقوله: «إنها ممثلة رائعة وحساسة، وقد جعلت من عملي مهمة سهلة للغاية».
وكذلك الشخصيات الرئيسية الثلاث الأخرى ظهرت في فيلم «المدينة الكبيرة»، ولكن في أدوار صغيرة. مثل شايلين موهيرجي الذي لعب دور (بوباتي)، والذي كان في الأساس ممثلاً مسرحيًا. يستذكر راي ما قاله له: «مانيكدا (لقب راي) إنني لا أعلم أي شيء عن التمثيل السينمائي، أنا تلميذك، علمني». وبالرغم من قلة خبرته نجح في تأدية دور (بوباتي) على أكمل وجه، وجعلها شخصية محبوبة، حسنة النية ولكنها مثالية للغاية ومؤمنة بمصالحها الخاصة. أما (غتالي روي) فنظراتها المتخفية لا توحي بأن (مانداكيني) خاوية العقل كما تفترض (شارو)، وبالتأكيد ليس بمستغرب أن تغازل (أمال) هي الأخرى. أما زوجها (أومبادا) الذي يلعب دوره (شيامال غوسال) فيعبّر جسده بأكمله عن حسده و حنقه تجاه (بوباتي)، إشاراتٌ يفشل صهره في إلتقاطها وفهمها.
لا يحبذ راي استعمال المواقع الحقيقية في مشاهده الداخلية، ويفضل ما أمكن أن يصنعها في الاستوديو، ويفعل ذلك بمهارة لدرجة توهمنا بأنها حقيقية. يتضمن «شارولاتا» القليل من المشاهد الخارجية، فمعظم الأحداث تدور في بيت (بوباتي) ذي الأثاث الباذخ. وكما هو الحال دائمًا، تعاونَ راي مع المدير الفني المقرب منه (بانسي شاندراغوبتا). مزودا إياه بالتخطيط الدقيق للغرف، وجميع التفاصيل المتعلقة للتجهيزات الرئيسية، كما يصحبه في رحلته إلى البازارات للعثور على الأثاث والديكورات والإكسسوارات المناسبة. وكانت الأصالة المقنعة نتيجة ذلك العمل، وذلك بإحياء حس قوي بالحقبة والطبقة الاجتماعية التي هم فيها، أو كما تقول الناقدة (بينيلوب هيوستن) من خلال: «دمج واع بين البذخ الشرقي والرقي الغربي».
يعتبر راي واحدًا من أكثر المخرجين اقترابًا لتحقيق مصطلح المؤلف الكامل، فبالإضافة إلى الإخراج والكتابة واختيار الممثلين، فإنه قد ألّف موسيقى جميع أفلامه منذ فيلمه «ثلاث بنات»، كما أنه يصمم إشارة البدء والختام والعناوين وملصقات الفيلم. وبدءًا من شارولاتا أخذ على عاتقه مهمة أخرى وهي تشغيل كاميراه الخاصة. يعلل ذلك قائلا «أدركتُ أن الممثلين الجدد يصبحون أكثر ثقةً وأقل توترًا إنْ لم يشاهدونني، أكون خلف الكاميرا، أشاهد بشكل أفضل وأحصل على الصورة المنشودة».
كان «شارولاتا» أفضل أفلام راي استقبالا على المستويين البنغالي والعالمي، في بلاده ثمة اتفاق عام على أنه قدم ما يلزم لطاغور الموقر، على الرغم من وجود بعض التحفظات على موضوع الفيلم الذي يشير ضمنيًا إلى علاقة مُحرمة. وبعد عرضه في مهرجان برلين السينمائي سنة (1965) -حيث فاز بجائزة الدب الفضي لأفضل إخراج- لاحظ (ريتشارد رود) وجود «اختلاف أسلوبي لم نره في أي من أفلام راي السابقة». ولكن «ليس الأسلوب ما يدفع المرء لتقدير راي، فما من كنز من كنوز الإعداد المسرحي mise-en-scène يبلغ ما يستخرجه راي من ممثليه من غنى وألق وثراء تمثيلي سالب للب».
بعد الغنائية التي بلغها «شارولاتا» في ذروته في مشهد الحديقة، يمضي المزاج العام للفيلم شيئًا فشيئًا وبطريقة غير محسوسة إلى طريق معتمة، متجها إلى الصراع العاطفي، وفي نهاية المطاف، إلى الدمار. وهذا التطور ينعكس على حركة الكاميرا المقيدة والإضاءة، التي تضحي غامضة وكئيبة حين يرى (بوباتي) ثقته تُخان، وحين تدرك (شارو) الذي فقدته. يختم راي فيلمه -متأثرًا كما أقر باللقطة الأخيرة من فيلم فرانسوا تروفو الـ «400 ضربة» (The 400 Blows 1959)- على صورة جامدة، أو بالأحرى مجموعة من الصور الجامدة. يدان، يد (شارو) و(بوباتي)، ممدودتان لتصل الواحدة للأخرى ولو مؤقتًا، قريبتان ولكن غير مضمومتين. وتصعد بوتيرة حادة مقطوعة راي طانبورة tanpura. وعلى الشاشة يظهر عنوان قصة طاغور «العش المكسور». أكسرٌ لا يُجبر؟ راي ببراعة وصمت، يتركنا وحدنا لنجيب عن هذا السؤال.