«شكل الماء»: قراءة تحليلية في ضوء الحكاية الأسطورية و"الآخر"

في فيلم «شكل الماء» (The Shape of Water - 2017)، يحطِّمُ غييرمو ديل تورو القوالب التقليديَّة للسينما الأسطوريَّة والخياليَّة، ليصوغ سردًا شاعريًّا وسرياليًّا يمتدُّ من المشهد الأول حتى النهاية. تنطلق الحكاية بأسلوبٍ غير مألوف، حيث تنساب الكاميرا في منزلٍ غارق تحت الماء، بينما ينسج الصوت الخارجي هالةً شعريَّةً حالمة، تغمرُ القصَّة منذ لحظاتها الأولى في عالمٍ بين الواقع والخيال:

«إن تحدثتُ عن الأمر - إن فعلتُ ذلك - فماذا عساي أن أقول؟
أتساءل… هل أخبركم عن الوقت…؟
لقد حدث ذلك منذ زمنٍ بعيدٍ يبدو، في الأيام الأخيرة من حكم أميرٍ عادل.
أم أخبركم عن المكان؟ مدينةٌ صغيرةٌ بالقرب من الساحل، لكنَّها بعيدةٌ عن كلِّ شيءٍ آخر.
أو، لا أدري… هل أخبركم عنها؟ الأميرة التي لا تملك صوتًا.
أو ربَّما سأكتفي بتحذيركم، من حقيقة هذه الوقائع وحكاية الحبِّ والخسارة،
والوحش الذي حاول تدمير ذلك كله».

من خلال صوت جيلز (ريتشارد جينكينز)، يتَّضح لنا نوع الحكاية التي سنشهدها، وكما هو الحال في جميع القصص الخياليَّة، يظهر الصراع بين الخير والشرِّ منذ البداية. بالإضافة إلى ذلك، يمنحُنا السرد لمحةً عن المكان، ليتَّضح لاحقًا أنَّ المدينة التي يدور فيها الحدث هي بالتيمور في ولاية ماريلاند الأمريكيَّة.

ينسج غييرمو ديل تورو حكايةً سينمائيَّةً تتراقصُ بين الواقع والخيال، حيث يتجاوز الحبُّ حدوده التقليديَّة، متجسِّدًا في صمتِ فتاةٍ وحيدةٍ ونبض كائنٍ خارجٍ عن المألوف، أشبهُ بقصيدةٍ بصريَّةٍ نابضةٍ بتفاصيل سرياليَّة. وكما في أفلامه السابقة، يبهرنا ديل تورو بقدرته الفريدة على استحضار الزمن بروحه وتفاصيله، فحقبة الستينيَّات تنبضُ بالحياة من خلال الألوان الخافتة، الإضاءة المدروسة، الأزياء التي تعكس روح العصر، والصالة السينمائية التي تقف شاهدةً على الحلم.

فاز الفيلم بأربع جوائز أوسكار عن جدارة: أفضل فيلم، أفضل مخرج، أفضل موسيقى تصويرية، وأفضل تصميم إنتاج. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أنَّ الفيلم يمزجُ بين الطابع الرومانسي والسحر، لكنَّه في الوقت ذاته يعكسُ نقدًا حادًّا للمناخ السياسيِّ المتوتِّر، خصوصًا في الولايات المتحدة بعد وصول ترامب إلى السلطة وتصاعد حدَّة السياسات التمييزيَّة والإقصائيَّة. بصفته مخرجًا مكسيكيًّا، يطرحُ ديل تورو فيلمه في ظلِّ تصاعد الإجراءات التمييزيَّة التي فرضتها إدارة ترامب، مثل بناء الجدار الفاصل في الحدود مع أمريكا اللاتينية وتشديد سياسات الهجرة. في هذا الإطار، يمكن فهم الاحتفاء الكبير الذي لقيَه الفيلم في الأوساط السينمائيَّة الليبراليَّة في هوليوود، ومنحه جائزة الأوسكار، كجزءٍ من خطابٍ نقديٍّ موجَّهٍ ضد تلك السياسات.

قراءة ووندتيَّة - دولوزيَّة لـ «شكل الماء» 

تمثيلات "الآخر" في ضوء فلسفة دولوز : 

كما نعلمُ جميعنا، ليست السينما مجرَّد أداةٍ لنقل المعنى، بل فضاءٌ ديناميكيٌّ يُعاد تشكيله عبر الجماليَّات الاجتماعيَّة، ممَّا يمنحها دورًا محوريًّا في إعادة التفكير في مفاهيم السلطة والهويَّة والاختلاف، فهي قادرةٌ على كشفِ غيرِ المرئي، لا عبرَ تسليط الضوء عليه فحسب، بل عبر تفكيكِ المنظومات التي تحدِّدُ ما يمكن رؤيته وما ينبغي حجبه.

في «شكل الماء»، يتجسَّد هذا التوتُّر من خلال العلاقة بين الكائن البرمائيِّ والنظام الذي يحتجزه، فمنذ لحظة أسر الكائن لا يعامل بوصفه وجودًا مستقلًّا، بل كموضوعٍ للتجارب، محكومٍ بتصنيفاتٍ تفرضها السلطة حول ما هو "طبيعي" وما هو "الآخر". هذه العلاقة تعكس ما يشير إليه دولوز بمفهومي "الأغلبيَّة" و"الأقليَّة"، حيث لا تُعرَّف الأغلبية بمجرَّد كونها الفئة الأكبر، بل بقدرتها على فرض معاييرها بوصفها النموذج القياسي، في حين أنَّ الأقليَّة ليست مجرَّد عدد، بل وضعيةٌ تُجبَر على التكيُّف أو الإقصاء.

هنا يظهر مفهوم "الصيرورة-الآخر" باعتباره عمليَّة تحوُّلٍ دائمةٍ لا تندرج ضمن ثنائيَّة الأغلبيَّة/الأقليَّة الصلبة، بل تهدِّد استقرارها. والكائن البرمائي ليس مجرَّد ضحيَّةٍ للقمع، بل يمثِّلُ صيرورةً مستمرَّةً من الانفلات من التصنيف، وهو ما يجعله موضع خوفٍ لدى السلطة التي يمثِّلها العميل ريتشارد ستريكلاند (مايكل شانون). بالنسبة له، كلُّ ما لا يندرج ضمن النظام القائم يشكل تهديدًا، ولهذا يعامله بعنفٍ مفرط، محاولًا القضاء عليه بدل فهمه.

على الجانب الآخر، تعيش إليسا (سالي هوكينز) بدورها وضعيَّةَ "الصيرورة-الأقلويَّة"، فهي صامتةٌ في عالمٍ يقدِّس الصوت، مهمَّشة ضمن منظومةٍ لا تعترف إلا بمن يتوافقُ مع معاييرها. لكنَّها على عكس ستريكلاند، ترى في الكائن البرمائيِّ إمكانياتٍ تتجاوزُ التصنيفات الصارمة، ممَّا يخلق فضاءً لمقاومة الهيمنة وإعادة تعريف ما هو "طبيعي" وما هو "آخر". 

يمثِّلُ الكائن البرمائي، الذي كان معبودًا من قبل سكَّان الأمازون قبل أن يتحوَّل إلى مادةٍ للاختبار، تجسيدًا لمفهوم "الصيرورة-الآخر"، فهو يتجاوز التعريفات الجاهزة، ممَّا يجعله عرضةً للاستغلال البيوبوليتيكي، حيث يُعامَل جسدُه كأداةٍ في صراعٍ علميٍّ وسياسي. في البداية يُنظر إليه بوصفه تهديدًا شيوعيًّا، لكنه سرعان ما يصبح هدفًا للتعذيب والتجارب، في محاولةٍ لإخضاعه للمعايير التي تفرضها السلطة على الوجود المقبول. هذا الالتباس في هويته يجعله موضعَ تجاربٍ علميَّةٍ سريَّةٍ ذات أبعادٍ سياسيَّة، خاصةً على يد العميل ستريكلاند. 

عندما تتواصل إليسا مع الكائن الغريب، تشعر بأنها تفهمه بعمق، فالتصورات النمطيَّة لا يمكن تفكيكها إلَّا من خلال إدراكٍ غير متحيِّز،  وتواصُلٍ ورغبةٍ متبادلةٍ في الاعتراف بالآخر، والسبب في ذلك هو أنَّ إليسا، كونها شخصيَّةً فاقدةً للنطق، تنتمي إلى خارج ما يُعتبرُ "طبيعيًّا" وفق معايير المجتمع. ولكن في سياق علاقتها بالكائن الغريب تفقد هذه الفروق أهميتها، إذ تتماهى معه، ممَّا يعزز البُعد الرمزي للتضامن بين المهمَّشين في الفيلم.

تظهر في الفيلم شخصيَّتان تمثِّلان مستوياتٍ متعدِّدة من الإقصاء: إليسا التي تُعامل كآخرٍ بسبب إعاقتها وصمتها، والكائن البرمائي الذي يُعدُّ "آخر الآخر" بسبب موقعه الأدنى في التسلسل الهرمي البيولوجي. والعلاقة بينهما قائمةٌ على نوعٍ من التماهي المتبادل الناتج عن وضعهما المشترك كـ "آخرَين".

الرمزية النفسية والتحولات الاجتماعيَّة في «شكل الماء»: مقاربة ووندتيَّة 

إذا تأمَّلنا الفيلم من منظورِ علمِ النفس البنيوي، نرى أنَّه باستطاعتنا الاستعانة بتصنيفِ فيلهلم ووندت، أحد الرواد المؤسِّسين لعلمِ النفس الحديث، الذي قدَّمَ منهجيَّةً تحليليَّةً قائمةً على تقسيمِ الخبرة الواعية إلى عناصر أساسيَّة، مثل الأحاسيس، المشاعر، والصور الذهنيَّة. من خلال اعتماده على الاستبطان المنهجي، سعى ووندت إلى فهمِ الكيفيَّة التي يُشكل بها العقل تجاربه، مما يتيح إطارًا لتحليل الظواهر الفنيَّة والسرديَّة. هذا التصنيف لا يكتفي بتفكيك الخبرة الإنسانيَّة إلى أجزائها الأوليَّة، بل يوفِّر أيضًا أداةً لفهم كيف يمكن للأساطير والحكايات أن تعكس التوتُّرات والصراعات المجتمعيَّة بعمق.

وفقًا لتصنيف ووندت، لا يمكن اعتبار الفيلم حكايةً خرافيَّةً خالصةً وحسب، بل يتخطى في جوهره إطارَ الأسطورة ليصبح مرآةً تعكس توتُّرات عصره. من خلال حكاية إليسا، العاملة البكماء التي تعمل في مختبرٍ سري ببالتيمور، لا يكتفي ديل تورو بسرد قصَّة حبٍّ غير مألوفة، بل يسلِّطُ الضوء على الظلال الثقيلة للحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، والقهر الاجتماعيِّ الذي يتجلَّى في معاناة السود، وعلى التمييز العنصري والتهميش الذي يواجهه الخارجون عن معايير المجتمع من خلال شخصيَّتي زيلدا (أوكتافيا سبنسر) وجيلز. كما يستعين بشخصياتٍ شرِّيرةٍ مبنيَّةٍ على أسسٍ نمطيَّةٍ تعكس التحيُّز العنصريَّ والتمييز الجنسيَّ وكراهية المثليِّين، وهي العناصر التي شكَّلت أدوات القمع في ذلك الزمن. في هذا السياق، لا يكونُ الصمت الذي تعيشه إليسا مجرَّد حالةٍ جسديَّة، بل رمزًا لعزلةٍ أعمق تفرضُها قيود المجتمع على كلِّ من يختلف عن المألوف.

يدور الفيلم «شكل الماء» حول هذه العزلة المتداخلة، حيثُ تجد إليسا نفسها في عالمٍ يحدُّ من تواصلها مع الآخرين، إلى حين التقائها بكائنٍ برمائيٍّ غريبٍ يجسِّدُ وحدتَها بطريقةٍ أخرى. رغم اختلافهما الجسدي، فإنَّ الرابط العاطفي بينهما يتجاوزُ الشكل الخارجي، ليتجسَّد في تبادل القبول والاعتراف بالآخر المختلف، كما لو أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يرى في الآخر انعكاسًا لذاته المهمَّشة. بهذه الرؤية يحوِّل ديل تورو قصَّة الحب إلى نشيدٍ للمهمَّشين، حيث يصبح اللقاء بين إليسا والكائن البرمائي دعوةً لتحطيم الحواجز التي يصنعها الخوف من الآخر، وجسرًا يمتدُّ بين العزلة والانتماء.

من خلال شخصيَّة إليسا، يأخذنا ديل تورو إلى مختبرٍ أمريكيٍّ غامضٍ تُجرى فيه تجاربُ تتجاوزُ الحدود الأخلاقيَّة والإنسانيَّة. في هذا السياق، يتجسد الكولونيل ريتشارد ستريكلاند كتمثيلٍ للشرِّ المطلق، حيث يجمعُ بين الساديَّة والعنصريَّة، مما يعكسُ السلطة القمعيَّة التي تمارس العنف ضد كلِّ ما هو مختلف. وعندما يَعُضُّ الكائن البرمائيُّ أحدَ أَصابِعِه، يتفاقم عداؤه تجاهه، ليتحوَّل إلى رغبةٍ انتقاميَّةٍ جامحةٍ تدفعه إلى اتخاذ قرارٍ حاسم بالقضاء عليه نهائيًّا.

تتحوَّل إليسا من شخصيَّة هامشيَّةٍ إلى بطلةٍ جسورةٍ وشجاعة، ففي هذا الكائن الصامت تعثرُ على الصديق الذي افتقدته لسنوات. ومدفوعةً بروابطها العاطفيَّة العميقة، تخاطرُ بكلِّ شيءٍ لإنقاذه، متجاوزةً مخاوفها ومتحدِّيةً السلطة القمعيَّة التي تحتجزه. خلال هذه المهمَّة تعتمدُ على دعم أقرب أصدقائها زيلدا (التي تشكو باستمرارٍ من زوجها ذي الأخلاق السيِّئة) وجيلز (الذي يستمرُّ بمشاهدة الأفلام الكلاسيكيَّة القديمة وأكلِ الحلوى التي يَقومُ بشرائِها من المتجر الذي يعمل فيه شابٌّ يعجبه)، واللذين يمثِّلان حليفين أساسيَّين لها في رحلتها. إلى جانب الدكتور روبرت هوفستتلر (مايكل ستولبارغ)، يجسِّدُ هؤلاء الثلاثة شخصيَّات الخير النمطيَّة التي نجدها في الحكايات الخياليَّة، حيث يتَّخذون دور الحلفاء الذين يقفون بجانب البطلة، مساندين إياها في رحلتها التحرُّرية ضد قوى القمع والاضطهاد، وهو التضامن المتعارف عليه بين المهشمين. مُمثِّلين بذلك القوى النقيضة للشر، ومُضفين على السرد بعدًا أخلاقيًّا واضحًا، حيث تتجلى صراعاتُ الخير والشرِّ ضمن إطارٍ رمزي.

رحلة البطل: رمزيَّة الحبِّ والتحوُّل في السرد الأسطوري

في هذا الفيلم، لا يقدِّم ديل تورو قصَّة حبٍّ تقليديَّةٍ بين كائنين مألوفين، بل يرسمُ علاقةً استثنائيَّةً بين شخصَين يبدوان متناقضَين جسديًّا على نحوٍ تام. وعلى الرغم من أنَّ الحبكة قد تذكِّر بقصة «الجميلة والوحش»، إلَّا أنَّ الفيلم يتجاوز هذا التصوُّر ليغوص في جوهر العلاقة الروحيَّة والإنسانيَّة البحتَّة. هذا ما يتجلَّى بوضوحٍ في لحظات التلاقي الحسي، حيثُ يصبحُ اللمس وسيلة تعبيرٍ ماورائيَّة تتخطَّى اللغة، ويتحوَّل جسد المخلوق البرمائي عند ملامسته لإليسا إلى كيانٍ مضيءٍ ورقيق، متجاوزًا التفاعلات الفيزيائيَّة ومتَّجهًا نحو المفاهيم الفانتازية في تجسيدٍ بصري يسعى لاستيعاب العاطفة في أسمى تجلياتها. إلى جانب الحب الذي يتجاوز المنطق والعقلانية، تضفي هذه المشاهد طابعًا سرياليًّا متفرِّدًا على القصة، ممَّا يجعلها واحدةً من أكثر التعبيرات السينمائيَّة عمقًا عن العاطفة البريئة والحبِّ غير المشروط. ولطالما عانت إليسا من النَبذ الاجتماعي نتيجة عيوبِها الجسديَّة، وهذا ما جعلها تعيش في عزلةٍ عاطفيَّةٍ وجسديَّة، غير خاضعةٍ لأيِّ تجربة حبٍّ أو رغبةٍ جنسيَّة. غير أنَّ لقاءها بالمخلوق البرمائيِّ شكَّل نقطةَ تحوُّلٍ جوهريَّة، إذ أحبها كما هي، متجاوزًا قيود الجسد والمعايير المتعارف عليها. ومع تطور علاقتهما، انتقلت من مجرَّدِ صداقةٍ إلى رابطةٍ عاطفيَّةٍ عميقةٍ تمنحُ إليسا إحساسًا بالانتماء والاكتمال، وتسدُّ فراغها الوجداني والجسدي.

في المقابل، يتجلَّى البعد الرمزيِّ للتحوُّل العاطفيِّ الذي تخوضه إليسا من خلال الحذاء الأحمر، الذي لطالما تأمَّلته من خلف زجاجِ المتجرِ دون أن تجرؤ على امتلاكه. غير أنّ وقوعها في حب المخلوق البرمائي يمنحها الشجاعة لاتخاذ قرار شرائه، ليصبح هذا الحذاء رمزًا للتحرُّر العاطفي وإعادة اكتشاف الذات. يعكسُ هذا الفعل لحظةً مفصليَّةً في رحلتها، حيث تتجاوزُ مخاوفَها، وتتصالح مع رغباتها، مستمدَّةً قوَّتها من تجربة الحب بوصفِها تجربة تحرُّرٍ وتحوُّلٍ وجودي. إلى جانب عجزها عن النطق، تحملُ إليسا منذُ ولادتها علامةً مميَّزةً على عنقها، وهذا  تجسيدٌ لعنصرٍ رمزيٍّ يتكرَّر في شخصيَّات أبطال الحكايات الخرافيَّة عادةً. يظهر هذا الرمز في القصة، مشدودًا بخيوط السحر والأسطورة، ليحكم مصيرها ويربطها بعالمٍ يتجاوز الواقع، فيتغلغل كجزءٍ من نسيج الحكاية الأسطورية نفسها.

أمَّا المخلوق البرمائي فيُقدَّم بوصفه كيانًا أسطوريًّا يتمتَّع بقدراتٍ خارقة، أبرزها القدرة على الشفاء. ويتجلى تقاطع الواقع مع الماورائي بوضوحٍ في المشهد الذي يضع فيه المخلوقُ يده على رأس جيلز الأصلع، ليكتشف الأخير في صباح اليوم التالي نموَّ شعره مجدَّدًا، في إشارةٍ إلى طاقة المخلوق التحويليَّة. وتتجسَّد قوته الأسطورية بشكلٍ أكثر وضوحًا في المشاهد الأخيرة، عندما يتلقى رصاص العميل ستريكلاند، لكنَّه يعالِج جراحه فورًا ويستعيد قوَّته، قبل أن يقتلَ ستريكلاند انتقامًا منه لإطلاقه النار على إليسا. بهذا الفعل، لا يقتصر دوره على كونه كائنًا خارقًا فحسب، بل يصبحُ أداةً لتحقيق العدالة داخل السرد، مؤكِّدًا انتصار الخير على الشر وفقَ منطق الأسطورة والخرافة. 

مع تطوُّر علاقة المخلوق بإليسا، يكتسبُ المخلوق البرمائي صفاتٍ إنسانيَّةٍ متزايدة، بحيثُ يصبحُ أكثر هدوءًا، يتواصل بشكلٍ أكثر حساسيَّة، يتفاعل مع القطط بلطفٍ على غرار ما كان يفعلُ من قبل، بل ويجلس على الطاولة ليتناول الطعام كما يفعل البشر. من هذا المنظور، يمر كلٌّ من إليسا والمخلوق بعمليَّة تحوُّلٍ متبادل، حيث يقدِّمُ كلٌّ منهما تضحيةً وجوديَّةً تتيح لهما البقاء معًا، متجاوزين بذلك ثنائيَّة الإنسان والمخلوق إلى حالةٍ من التكامل الكياني والروحي.

في نهاية السرد، عندما تُصاب إليسا برصاصة، يحملُها المخلوق ويلقي بنفسه معها في القناة المائيَّة، حيث يمنحها قبلةً تحت الماء تعيدها إلى الحياة. ومن خلال العلامات التي تظهر على عنقها، يتَّضح أنَّها تخضعُ لتحوُّلٍ جوهري، حيث تتحوَّل إلى "مخلوقٍ برمائيٍّ" مثله. وهكذا يبلغ العاشقان ذروة الاندماج المطلق، تمامًا كما في الأساطير الخالدة، حيث يكتمل مصير "الأميرة" و"الأمير" في لقاءٍ أبدي، محقِّقين الأسطورة الأسمى في السرديات الرومانسية: النهاية السعيدة، حيث ينتصرُ الحبُّ على المستحيل، متجاوزًا حدود الزمن والوجود.

الرمزيات الدينية والأسطورية في «شكل الماء»:

في فيلمه هذا، يضمِّن المخرج إشاراتٍ إلى الأساطير ورواياتٍ دينيَّةٍ وتاريخيَّة، حيثُ يروي من خلال شخصية زيلدا، المرأة السمراء، حكايةَ شمشون ودليلة الواردة في سفر القضاة من العهد القديم في الكتاب المقدس. وبحسب الروايات الدينيَّة، تجسِّد هذه القصة معنى الخيانة والانتقام. وعندما يسرد العميل ستريكلاند هذه الحكاية لزيلدا، يتماهى مع شخصيَّة شمشون، وينظر إليها كدليلة، مضمِّناً تهديده لها بلمحةٍ من الوعيد الخفي.

إضافة إلى ذلك، يُضيف المخرج بُعدًا أسطوريًا أكثر عمقًا إلى فيلمه عبر استدعائه لأسطورة "تانطالوس"، ممَّا يمنحُ الفيلم بعدًا أسطوريًّا أكثر عمقًا. يتجلَّى هذا التوظيف حين يرتدي جيلز الباروكة في محاولةٍ للإيحاء بشبابه، فيروي قصَّة تانطالوس قائلًا: «حتى تانطالوس لم يتمكَّن من الفرارِ من الموت. دائمًا ما كانت الثمار على الأغصان بعيدةً عن متناوله، وكلَّما انحنى ليشرب من النهر، تراجع الماء بعيدًا. لهذا السبب نقولُ مثل هذه الأشياء اليوم». هذه الإشارة تكشفُ عن إحساس جيلز بالعجز والحرمان، مشيرةً إلى استحالة تحقيق رغباته، تمامًا كما هو حال تانطالوس الذي حُكم عليه بالعذاب الأبدي في الأسطورة الإغريقيَّة، حيث تظلُ مصادرُ الحياة والرغبة قريبةً منه، لكنَّها عصيَّةٌ على المنال. بهذه الكلمات يستحضرُ جيلز أسطورة تانطالوس بوصفها تجسيدًا لهذه النزعة، حيثُ يظل المرء مسكونًا بالسعي وراء ما يفلتُ منه باستمرار.
كما يَدمُج ديل تورو في «شكل الماء» بين فكرتي البعث والخلود، وهي مفاهيمُ متجذِّرة في العديد من المعتقدات الدينيَّة والأسطوريَّة، حيث لا يكون الموت نهاية، بل حلقةٌ في دورة الوجود المستمرَّة. يتجلى ذلك في مصير إليسا، التي يُعثر عليها طفلةً قرب البحر، كما يُذكر في الحوار ما بين زيلدا والعميل ستريكلاند، ثمَّ تكتمل رحلتها في المشهد الختامي عندما تتحوَّل إلى كائنٍ برمائيٍّ وتُبعَث من جديدٍ تحت الماء، في عودةٍ إلى أصلها الأول. بهذا تتماهى رحلتها مع التصوُّرات الدينيَّة والأسطوريَّة التي تربطُ الفناء بالتجدُّد، حيث يُنظَر إلى الحياة والموت كجزءٍ من سلسلةٍ لا تنتهي من التحوُّلات.

يختتمُ ديل تورو فيلمه كما بدأه، بإيقاعٍ شاعريٍّ وسريالي، حيث يعود صوت جيلز ليغلقَ المشهد الأخير بهالةٍ شعريَّةٍ بصريَّة:

«لو أخبرتكم عن الأمر، ماذا عساي أقول؟ هل كنت سأقول إنهما عاشا بسعادة إلى الأبد؟ أؤمن بذلك. هل أقول إنهما كانا في حالة حبٍّ وبقيا كذلك؟ أؤمن بذلك. لكن عندما أفكِّرُ فيها، عندما أفكر في إليسا، فإنَّ الشيءَ الوحيدَ الذي يتبادر إلى ذهني هي قصيدة، هُمِسَت من قِبَل شخصٍ وقع في الحبِّ منذ مئات السنوات: 

عاجزٌ أنا عن إدراك شكلك، تحيطيني من كلِّ الجهات،
وجودُك يملأ عيني بحبِّك، ويخضعُ قلبي، فأنتِ في كلِّ مكان».

بهذه الخاتمة الشعرية، يؤكد «شكل الماء» جوهره الأسطوري، حيث يتحوَّل الحب إلى قوَّةٍ غير ملموسةٍ تتجاوز الزمن والمادَّة، متغلغلةً في الوجود ذاته. إنَّه ليس مجرَّد قصَّةٍ عن عشقٍ محظور، بل تأمُّلٌ في الآخر المهمَّش، في السلطة التي تفرض تصنيفاتها، وفي الحدود التي تفصل بين العوالم، سواء كانت عوالم البشر أم تلك التي تتجاوزهم. 

وكعادته، لا يروي ديل تورو حكاية حبٍّ فحسب، بل يخلقُ أسطورةً حديثةً تنبض بالرمزيَّة، وتكشف عن الصراعات العميقة التي تحكم العلاقات الإنسانيَّة. بين الأسطورة والخيال والسرياليَّة، ينسجُ رؤيةً سينمائيَّةً تحتفي بالمهمَّشين، أولئك الذين يقفون خارج حدود المقبول، ليجعلَ منهم أبطالًا لحكايته. بهذا لا يكون الفيلم مجرَّد سردٍ بصريٍّ أخَّاذ، بل تجربةٌ سينمائيَّةٌ متفرِّدةٌ تعكس عبقريَّة ديل تورو وقدرته على تحويل الخيال إلى مرآةٍ للواقع، عاكسًا فكرة تقبُّل الآخر.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى