يبني جييرمو ديل تورو عوالم غير مألوفة بشخصياته وأماكنه وقوانينه؛ عوالم الجنيّات والوحوش والأشباح. وليست الأشباحُ في سينماه كما تُصوّر في أفلام الرعب، حيث لا تختار ضحاياها عشوائيًا كما عوّدتنا هوليوود في رحلات تخييم الفتيان والفتيات في الجزر النائية؛ بل هي نفسها ضحيّة، فتختار وحشها الإنساني، إذا جاز أن نقول ذلك، فكثيرًا ما عانت أشباحُه من ظلمٍ إنسانيّ حوّلها إلى صورتها النهائيّة والمرعبة كشبح.
إلى جانب أشباحه، نجد دومًا أبطاله -باستثناء أفلام الخيال العلمي- من الأطفال الأبرياء الذين زُجّ بهم في عالم الكبار، أو فتيات شابات بريئات ما زلن يحتفظن بطفولتهن. فتحمل شخصيات أبطاله ملمحًا شديد الوضوح يسمح بتكوين تصوُّرٍ سريعٍ لدى المشاهد عند الاعتداء عليها بوصفه اعتداءً على النقاء الإنساني.
في فيلم «العمود الفقري للشيطان» (The Devil’s Backbone 2001)، يصل طفل جديد اسمه "كارلوس" إلى الميتم في فترة الحرب الأسبانية. تمر أحداث درامية تُمهِّد للكشف عن جريمة مدفونة وألم مخبوء. فيتعرّف على حكاية الطفل "سانتي" الذي قُتل في دار الأيتام، وبعد أن يكشف له شبح سانتي عن نفسه في عدة أشكال، يخبره الطفل الجديد، الذي لا يزال يجهل موت والده في الحرب ضد فرانكو، أنه يود مساعدته. فيتشكَّل نوع من التآلف، ويحذِّرُه الشبح من الموت القادم. ولئن كان سانتي هو شبح الفيلم، فإن "خاثينتو" هو إلى حد كبير الوحش البشري الخاص به. في فيلم «متاهة بان» (Pan’s Labyrinth 2006)، نجد طفلة في عالم مليء بالعنف والكراهية، تنجر عبر متاهة إلى عالم الجنيات، إلى إله الحقول، الذي يُخبرها أنها الأميرة الضائعة لمملكة العالم السفلي، وأنه بعد ثلاثة اختبارات، سيتسنى لها العودة إلى هناك. فتنخرط في عالم الجنيات في الأسفل، وفي عالم أكثر قساوة في الأعلى؛ رجالٍ ببزاتٍ عسكريّة يقتلون الثوار بلا شفقة، وزوج أم " كابتن فيدال" يجرّها مع أمها الحامل عبر الغابات. سبق أن استعار ديل تورو مرحلة الطفولة في أفلامه الأولى؛ فعندما كان "فيديريكو لوبي" ينزلق إلى الجحيم في فيلم «كرونوس» (Cronos 1993)، كانت حفيدته الصغيرة تُذكِّره بالخير وترمز إلى النقاء الإنساني.
يتحول الشبح في فيلم «القمة القرمزية» (Crimson Peak 2015) من كونه إشارة إلى أخطاء الماضي إلى كونه منقذًا؛ إذ تتلقى "إديث كوشينج" رسائلَ تفضح حقيقة مقتل الأم التي تحولت إلى شبح، بسبب السم المُعدّ في كاسات الشاي؛ فقد كانت الأم-الشبح تُحذّرها من السم، ومن الوحوش البشرية في المنزل. يكرس ديل تورو الأم كاستعارة عن أخطاء الماضي. وعندما يمتنع الزوج عن قتل إديث، ويخبر أخته أنه قد حان الوقت للتغيير، تنال منه أخته جرّاء مشاعره الإنسانية، فيعود كشبح؛ من أجل أن ينقذ زوجته من الوحش البشري.
يتعمَّد ديل تورو التلاعبَ في أنماط السينما التقليدية، فيعيدُ صياغة مفهوم الشبح، لا بوصفه قاتلا بل ضحية، بحيث يبدو أقل رعبًا أمام الوحوش البشرية. ويتمادى في تقديسه حد أن يصيرَ الشبحُ هو المنقذ.
في الفيلم الذي نال الأوسكار « شكل الماء» (The shape of water 2017) ليس هناك أشباحٌ على منوال الأفلام السابقة، حيث تغيب بعض عناصر خلطته السحرية المحببة إليه في صناعة أفلامه المتأثرة بتربيته الكاثوليكية الصارمة. مع ذلك، نجد مخلوقًا خالدًا في فترة الحرب الباردة خلال ستينات القرن الماضي، يتم تقييده داخل مختبر حكومي سري تابع للحكومة الأمريكية، وتأمل السلطات الأمريكية، بقيادة "الكولونيل ستريكلاند"، في تشريحه لأغراض بحثية، واستخدامه في مجال غزو الفضاء في سباقها مع روسيا. وبالرغم من أن الفيلم يجنح إلى السوريالي أكثر مما هو إلى الرعب، إلا أن المرأة "إليزا" تجد نفسها في صراع مباشر مع السلطة؛ من أجل تحرير هذا المخلوق البرمائي في محاكاة مقاربة من الجميلة والوحش.
لا ينطلق الرعب في أفلام دِيل تورو من أرضيات متحررة من وطأة الحرب بما تُخلِّف من إرثٍ فظيع، حيث تكتسب أفلامه المستمدة من التراث المحلي أهمية ثقافية لا تزال قائمة إلى اليوم، فنجد اتصالا شبه تام في معظم أفلامه بين الرعب والحرب. يسرد في فيلم «العمود الفقري للشيطان» حكاية الأطفال الذين فقدوا آباءهم في الحرب الأهلية الإسبانية. وهو ينذرنا بها من خلال مشهد القنبلة التي لم تنفجر قرب دار الأيتام كمدخل إلى حكاية تدور حول مبنى جميع أفراده يرمزون بشكل أو آخر إلى إسبانيا التي مزقتها الحرب. إسبانيا المنقسمة بين فاشية الجيش والكنيسة من جهة، والديمقراطيين من الاشتراكيين واليساريين من جهة أخرى. ويعود في فيلم «متاهة بان» مجددا بأحداث متصلة بالحرب، عن بطش جيش فرانكو، بعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية، والقمع المتزايد في الأربعينيات.
لا يكتفي دِيل تورو بجعل الحرب مادةً للكشف التاريخي عن فظاعات الحروب المحلية أو العالمية؛ بل يستعين بها للحفر في الأعماق الداخلية للإنسان، والخوض في مسائل أخلاقية: ما الإنسان؟ ما الشبح؟ ما الوحش؟ فنجد حروبًا متخلية، في أفلام الخيال العلمي لديه، تتناولُ مسائلَ الخير والشر وما يجعل من الإنسان إنسانًا. في فيلم «فتى الجحيم» (Hellboy 2004)، يصبح هانك - الضخم، القبيح والمخيف - بطلًا خارقًا يحمي البشرية من قوى شريرة بعد وقوعه في يد البروفيسور "بروم". وفي المقابل، يتعرض للاستغلال من عملاء الحكومة المسؤولين عنه فيبقونه مُختبئًا وبعيدًا عن الأنظار، وحين يخرج إلى الناس ينعتونه بالقبح ويسخرون منه. وفي الجزء الثاني منه (Hellboy II: The Golden Army 2008)، يتم تذكير هانك دومًا بأنه ليس بشريًا ولن يقدر أبدًا أن ينتمي إليهم، وأن منْ يحميهم لا يهتمون لأمره، وأن قدره هو جلب الخراب والظلام إلى الأرض، ومع هذا، يختار أن يكون إنسانًا، فالإنسانية صفة تُكتسب أخلاقيًا ولا تُورّث بيولوجيًا. فنجد إجابة أخرى في فيلم «كرونوس»، من خلال "فيديريكو لوبي" الذي اختار الخلودَ مقابل أن يبيع روحه للشيطان؛ فلم يستطع أن يبقى إنسانا بالرغم من إنسانيته؛ في حين تخلى هانك عن كل شيء، بما فيها وحشيته، كي يكون إنسانا. وبهذا حسم دِيل تورو الصراع بين الخير والشر والمأزق الإنساني على نحو واضح.