يستلهم فيلم «أشباح غويا- Goya's Ghosts» الحقبة التاريخية المظلمة والمتقلبة التي عاشها الفنان الإسباني الأبرز فرانسيسكو غويا، وروح أعماله التي تسلط الضوء على «الجانب المظلم من التنوير»، وهذا عنوان كتاب لم يُترجم للكاتب البلغاري/الفرنسي تزفيتان تودوروف، يتناول فيه حياة غويا وأعماله التي تمثل كل ما يحاول التنوير الأوربِّي إخفاءه من طغيان وفظائع في حق البشرية تحت شعارات الإنسانية.
لا يتطرق الفيلم إلى حياة غويا، ولا يتحدث عن أعماله، ولا يتناول بعمق شخصيته ورؤيته للفن والحياة والبشر؛ فالقصة وشخصياتها وحبكتها متخيلة، إلا أنها تستلهم تلك الروح الشيطانية والشريرة للبشر التي جسدها غويا في لوحاته، كما تتناول الحقبة التي عاشها غويا ودارت رحاها في محاكم التفتيش الكاثوليكية سيئة الصيت، مرورًا بالثورة الفرنسية والحروب النابليونية، وما أعقبهما من مجازر وتصفيات، وليس انتهاءً بتأرجح أوربَّا بين تنوير يرفع شعارات "الحرية-المساواة- الإخاء" ولا يلبي متطلباتها، وكنيسة ترفع اسم الرب لتفتك بخصومها، فينتصر هؤلاء تارة، ويجردهم أولئك من سلطتهم تارة أخرى، بينما تدور الرحى على المساكين!
الفيلم من إخراج التشيكي الأمريكي ميلوس فورمان، الفائز بجائزتَي أوسكار عن فيلميه «أماديوس» الذي يتناول حياة الموسيقار موزارت، وفيلم «أحدهم طار فوق عش الوقواق» عن الجنون وعوالمه. أما كاتب الفيلم فهو الفرنسي جان كلود كاريير. وقام بالبطولة الممثل خافيير بارديم في دور رجل الدين لورينزو، كما قامت ناتالي بورتمان بدور الفتاة إينيس، أما دور غويا فقد أداه الممثل السويدي ستيلان سكارسجارد.
يبدأ الفيلم بنقاش مطول يترأسه المحقق العام لمحاكم التفتيش الكنسيّة حول لوحات غويا التي تصور الساحرات والشياطين، وترسم أرواحًا شريرة للبشر؛ اللوحات التي انتشرت في إسبانيا وأوربَّا، وباتت في متناول الجميع، ويُنظر إليها باعتبارها تمجيدًا للشيطان ورفضًا للكنيسة، يقول أحد رجال الدين في هذا النقاش: "تعرف ماذا سترى أمك عندما تنظر إلى سقف الكنيسة التي تزينها رسومات غويا؟ سترى الملائكة على هيئة عاهرات"، فغويا هنا عابث ومهرطق، ولكنه في الوقت نفسه صديق الملك والملكة، ومؤمن لم يواجه أحدًا قط.
في هذا النقاش تبرز شخصية لورينزو، الذي يرى أن لوحات غويا لا تهدد سلطة الكنيسة وليست ضد الدين، وإنما تصور الشيطان وتشكلاته، وبعد حديثه عن غويا باعتباره موضوعًا ليس ذا شأن، يطلب لورينزو العودة إلى الأساليب القديمة لمحاكم التفتيش، ويقترح أن يترأس حقبة جديدة من ملاحقة المهرطقين واليهود وغيرهم من الخارجين عن السلطة الكنسية بصورة صارمة، الاقتراح الذي يوافق عليه المحقق العام لمحاكم التفتيش.
تبرز من هذه اللحظة شخصية لورينزو الدموي المهووس بالسلطة؛ فاعتراضه على الكنيسة يتعلق بتساهلها مع المهرطقين، وأنها لم تُعاقب -خلال السنوات الماضية- إلا عددًا قليلًا منهم لا يتجاوز أصابع اليدين، ويمكن تسجيلُ ملاحظة صغيرة هنا، وهي أن هذا الدور للممثل خافيير بارديم لم يكن أفضل أدواره؛ فأداؤه في هذا الفيلم غير مقنع أبدًا، فقد بدا مصطنعًا ومتكلفًا وجامدًا.
يبدو أن لورينزو معجب بغويا، فيذهب ويزوره في مرسمه، ويطلب من غويا أن يرسمه، وهناك يلتقي الفتاة الجميلة إينيس، والتي ستكون حكايتها الخيط الرفيع الذي تُبنى عليه حبكة الفيلم حتى النهاية.
يبرز النصف الأول من الفيلم شخصية لورينزو، وجوانب سطحية من حياة غويا تركز على علاقته بالملك والملكة، ورسمه لوحات البورتريه للشخصيات القادرة على تحمل تكاليف عمله، لكن الموضوع الأهم الذي يتناوله هذا الجزء هو قسوة وجرائم محاكم التفتيش، التي سرعان ما يعتقل القائمون عليها الفتاةَ الجميلة والمنحدرة من أسرة غنية إينيس بتهمة تجنبها أكل لحم الخنزير، ما يعزز الشكوك حول الأصول اليهودية لوالدها التاجر الثري، وهذا جزء من ملاحقات محاكم التفتيش لليهود والبروتستانت في تلك الحقبة.
تحت التعذيب تعترف إينيس مرغمة بجذورها اليهودية، وتحت وطأة اليأس والخوف يُهرع والدها إلى غويا طالبًا منه مخاطبة لورينزو بشأن ابنته، الأمر الذي يقوم به غويا بعد تردد. وهنا يأتي مشهد رئيس من مشاهد الفيلم، عندما يحل غويا ولورينزو ضيوفًا على والد إينيس، والذي -بعد حوار طويل- يقلب الطاولة على لورينزو، فيقوم بربطه وتعذيبه، مجبرًا إياه على توقيع ورقة يعترف فيها رجل الدين الرزين أنه قرد؛ ليثبت بطبيعة الحال أن كل اعتراف ممكن تحت وطأة التعذيب، إلا أن محاولات والد إينيس لتخليص ابنته من محاكم التفتيش تنتهي بالفشل على الرغم من انتزاعه هذا الاعتراف الأخرق من لورينزو.
بعد هذه الحادثة يصبح لورينزو محط سخرية واتهام من محاكم التفتيش الكنسية، فيتآمر عليه خصومه، ويجردونه من مكانته، فيهرب إلى باريس قبيل الثورة الفرنسية، ويصبح هناك من أشد المؤمنين بقيمها ومقربًا من قادتها؛ فهو يبحث عن السلطة والقوة أينما حل، وإن تناقضت اعتقاداته وأفكاره، وبعد مرور 15 سنة قضاها لورينزو في بلاد الأنوار، يعود لورينزو إلى إسبانيا على رأس الجيوش النابليونية فاتحًا؛ لينتقم من الكنيسة ورجالاتها.
يأخذ الفيلم منحى آخرَ ركيكًا بعد هذه النقطة، فبعد منتصف الفيلم تقريبًا وعودة لورينزو المؤمن بقيم التنوير إلى إسبانيا والتنكيل بكل مَن فيها؛ تخرج إينيس من سجون محاكم التفتيش، فاقدةً جمالها وعقلها، وتبحث عن ابنتها التي لا نعلم -في هذه اللحظة- هل كانت حقيقية أو متخيلة، لتبدأ رحلة البحث عن الفتاة اللغز، التي تدَّعي والدتها إينيس أنها ابنة لورينزو التي وضعتها في السجن.
كان هذا الانتقال السريع من محاكم التفتيش إلى الثورة الفرنسية ضعيفًا من الناحية الدرامية، وسبّب خللًا في الخط الزمني للفيلم وتصاعد أحداثه، حتى أننا لا نعلم شيئًا عن غويا الذي تنحَّى جانبًا، وأصبح هو أيضًا شبحًا أصمَّ لا يغادر مرسمه؛ إلا أن هذا الانتقال يعزز الفكرة الرئيسة للفيلم التي تتناول التاريخ الأوربِّي ودمويته وتقلباته، والشرور التي يرتكبها البشر سواء باسم الدين أو قيم التنوير.
فالبشر هم البشر.. سواء كانوا قادة متدينين في محاكم التفتيش الكنسية، أو ملاحدة معتنقين لقيم [الحرية- المساواة- الإخاء] الفرنسية.. البشر قتلة، وأشرار، ولا يترددون في تعذيب خصومهم والفتك بكل ما يقف في طريق سلطتهم، النقطة التي يعيها غويا تمامًا سواء في تجنبه الصدام مع أي سلطة، أو رسمه الساحرات والشياطين والأشباح الشريرة التي تختفي خلف الوجوه البريئة للبشر.. هل هي وجوه بريئة؟!
يقدم الفيلم تصويرًا جميلًا لتلك الحقبة الزمنية التي تغطي الفترة الممتدة بين منتصف القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وأعني جميلًا من ناحية الأزياء والبيوت والأثاث ووسائل النقل والأدوات المستخدمة في الحياة اليومية. أما غير ذلك؛ فكل ما يقدمه الفيلم مفزع ومرعب عن الحياة في هذه الحقبة الدموية المتأرجحة.
إن ما ينقص الفيلم هو العمق في الشخصيات والحوارات؛ فهو يتناول حقبة تاريخية مهمة، وشخصية لها وزنها في السياق الأوربِّي، ومع هذا لا تبدو الشخصيات مقنعة، كما أن الحوارات كانت عادية في مجملها، وشاهدنا أداءً للممثلين أقل من المتوسط.
من المقبول ألا يكون هدفُ الفيلم تقديم شخصية غويا أو سيرته الذاتية، إلا أنه أخفق أيضًا في إبراز لوحات ورسومات غويا التي تعبّر عن الحقبة التاريخية التي يتناولها؛ فباستثناء الحوار الافتتاحي للفيلم، لم تظهر رسومات غويا إلا في آخره بصورة عشوائية، فلم يتم توظيف تراث غُويا الكبير بصورة تتناسب مع القصة والرؤية التي حاول الفيلم تقديمها للمرحلة المتأرجحة من التاريخ الأوربِّي بين فقدان الكنيسة سطوتها وصعود قيم التنوير الإنسانية.