ماذا قد يحدث لو كان للإنسان حياتين، تتدفق كل منهما بموازاة الأخرى، واحدة ملموسة ومحدودة وأخرى شفافة وواسعة، يمتد بينهما خط غير مرئي ممثل في المشاعر والأحاسيس، فيلم «سعاد» لأيتن أمين يحكي عن مراهقة ما بين حياتها في الواقع والتواصل الاجتماعي، وعن أختها رباب، الحقيقة المؤكدة في حياتها، الشيء الوحيد الصادق.
تمتلك أيتن أمين أسلوب خاص بها ربما هو متأثر بأسلوب مخرجي موجة الواقعية الجديدة في الثمانينيات، وظهر ذلك في الأعمال التي سبقت «سعاد» قبل أن يتفجر الأمر تمامًا في هذا الفيلم، الكاميرا المحمولة المتحركة طوال الفيلم hand held، مع الاستعانة بمفردات الواقع المرئية والصوتية، وبث الروح في كل من المدينتين، الإسكندرية والزقازيق،وفهم عميق لتعقيدات الشخصيات التي نتعامل معها، وتسلسل متقن في التجسيد ما بين إرساء الرغبات والدوافع والمخاوف والأسرار، وفي ظني أن أهم ما يسمح للمخرجة بالوصول إلى أبعد حد ممكن لتطبيق أسلوبها هو توافقه التام مع مضمون الفيلم.
محمود عزت كاتب السيناريو بالمشاركة مع أيتن أمين، وهو ثاني عمل يجمعهما بعد فيلم إيتن الأول «فيلا 69» والذي شاركه في كتابته محمد الحاج، محمود عزت بجانب عمله في السينما هو أيضًا شاعر، يكتب شعراً بالفصحى وبالعامية، لست قارئاً جيداً للشعر ولكن أكثر ما يشدني فيه إيقاعه، في ظني يجب أن تقرأ الشعر بصوت مسموع كي تحدث نفسك من خلاله، بعد مشاهدتي للفيلم بأسابيع قرأت للشاعر ديوان «زمني وزمن غيري» كان بالفصحى، وحين قرأت قصيدته «لعبة ثلاثية » لم يسعني إلا أن أتخيل لقطات لسعاد، ربما لأن كل شيء متصل أم أنني فقط أردت أن أقحم سعاد في كل ما كنت أقرأه:
المراهقة كانت تشرد بعیدًا، مشیحة عنه.
تحرك العشب بأناملها
وتضّیق عينيها.
كنت أعرف بالضبط ما تفعله:
تتحكم في الضوء المنكسر على حدقتها لتلعب بإضاءة وألوان كل ما يحيط بها
تصنع غرًفا شفافة
تحمي فيها عنبة روحها اللامعة
من السأم والجفاف
كنت أعرف لأنني هربتُ هناك آلاف المرات
من عدة قباطنة.
بناء السيناريو من البداية يلتف حول دراسة شخصية سعاد، طبيعة علاقاتها بأصدقائها ووالديها وفي المقدمة أختها وواقعها الموازي، ويظهر خلال تلك التعاملات خلل في تصور سعاد عن نفسها وفي قدرتها على إدراك تلك الطبائع والتأقلم معها، صراع تقليدي متعلق ببحثها عن هويتها وكيف تريد أن يراها من حولها، ويظهر ذلك بجلاء من أول مشهد عن فتاة تمضي وقتها في حرارة المواصلات العامة تحكي قصصاً زائفة عن حياتها، تعاني من تشتت حانق في المناحي كلها، الحياة العاطفية والعائلية والاجتماعية.
نحن لسنا أمام محاولة واضحة لصياغة فكرة وشعور محدد، لكن هي أولوية للحكي المجرد وتجسيد الواقع واستعراضه لرؤيته ونستنبط من شاشة السينما ما تحاول قصة الأختين سعاد ورباب أن تخبرنا إياه عن أنفسنا وعما يحيط بنا، بحث في المشكلة قبل أن يكون هناك حلًا لها، التناول السينمائي للمشاكل ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية شيء معقد، ومحاولة إيجاد حبكة أو عقدة أو صراع بشكل ما غالبًا ما يضر بالطرح في سبيل ضبط الإيقاع وتطوير الشخصيات، لكن أكثر ما كان ذكيًا في سعاد هو التصميم المفاجئ للعقدة اأولًا والمناسب تمامًا للشكل المتبع في الطرح من البداية، ثانيا، أولوية الحكي والتجسيد.
خلال رحلتي المستمرة مع السينما كنت أبحث دائمًا عن أفلام المراهقة، اصطدم دائمًا بمراهقي هوليوود، واشاركهم تشتتهم وصراعاتهم الداخلية، لكني ابن السابعة عشر لم أكن أشتاق إلى فيلم أكثر من فيلم كـ «سعاد»، فيلمًا يحكي عني وعن أصدقائي ولو قليلًا، أدرك أن سعاد ورباب يختلفان عني كثيرًا، لكني لم أكد أتواصل مع شخصيات كما تواصلنا سويًا، أخيرا هناك سينما عنّا، عن جيل من المراهقين، سعاد ورباب، أوجدوا لأنفسهم حياة فوق الأخرى، وخلق التباين الحاد بين حياتهم الملموسة والموازية فجوة لا نفهمها، ربما لأننا محاطون من ناحية باختناق سياسي والأخرى بقمع اجتماعي مُحافظ، وكلاهما لا يتوافق مع تصوراتنا الحالمة عن الواقع والمستقبل، فلماذا نقبل بواقع مكبوت ما دام هناك خيال مواز ورحب يمكننا أن نقبع فيه للأبد، لدينا القدرة على تصميمه وتشكيله كما أردنا، أن نطير من مكان لآخر ونخوض تجربة تلو الأخرى من المحظورات في الشوارع والميادين والمواصلات العامة، فلما لا؟ وبالتأكيد هناك تداعيات لذلك،ربما لأن سعاد ورباب ليسوا أكثر من مراهقين حالمين، يبحثان عما ينتميان إليه بحق، ويبحثان عن أعين مختلفة يطالعان بها الحياة، يبحثان عن متنفس ليس ملوث، وعن خيال أسمى من ذلك.