رائعة ريدلي سكوت «نابليون».. جزء من النص مفقود!

December 6, 2023

قدّم فيلم «نابليون»، أحدث أفلام المخرج ريدلي سكوت والسيناريست ديفيد سكاربا، بمدته البالغة ساعتين ونصف، تجربةً فريدةً في المشاهدة. وجاء مركزًا على ثلاثة محاور: فرنسا، الجيش، وجوزفين، وهي التي سنناقش توظيفاتها في السرد، بالإضافة إلى عرض لأسلوب المخرج، والموسيقى، والمظهر، والأزياء، والصورة السينمائية، ونختم بالمونتاج والألوان.

تتكون القصة من خطين سرديين: يحكي الخط الأول قصة صعود نابليون وتدرجه في المناصب حتى نهاية حكمه، ويحكي الخط الثاني تعرّفه إلى جوزفين، زوجته. وبين الخطّين تدور الأحداث، فتارة نكون في ميدان الجيش والسياسة التي ترمز لفرنسا، وتارة نكون مع جوزفين، حتى يلتقي الخطّان عندما تصبح قصة عدم حمل جوزفين مشكلة تهدد استقرار فرنسا وعرش نابليون.

في البدء «فرنسا». رأينا في بداية الفيلم كيف كانت فرنسا أثناء الثورة، وتحديدا يوم المقصلة، وشاهدنا الملكة ماري أنطوانيت تمشي وشعرها منتفش ومقصوص، شاحبة الوجه، وهي تسير نحو حتفها بين جموع الثوار الغاضبين الذين يقذفونها بالقاذورات، ويسبّونها في مشهد يذكرنا بمشهد «مشية العار» من مسلسل «صراع العروش» Game of Thrones. ومع إعدامها، يعرض لنا المخرج أغنية «سيكون الأمر على ما يرام» للمغنية الشعبية إديث بياف، وفي كلماتها شرح لأسباب الثورة. جعل هذا الشرح الرمزي المخرجَ في غنى عن تصوير مَشاهد تشرح لماذا قامت الثورة؛ إذ تقول بعض كلمات الأغنية:
«سيكون الأمر على ما يرام، سيكون الأمر على ما يرام.
الأرستقراطيون، سنشنقهم، لقد وعدونا منذ ثلاثمائة عام
أن يُعطَى لنا الخبز، لقد أقاموا حفلات لمدة ثلاثمائة عام.
ويحتفظون بالعاهرات، لقد سُحِقنا لمدة ثلاثمائة عام.
كفى من الأكاذيب والعبارات لا نريد الجوع بعد الآن».


وهكذا، بمشهد واحد، أبان الفيلم حال فرنسا قبل الثورة. وفي هذه اللحظات، يظهر نابليون (خواكين فينيكس) على نحو جانبي، غير قوي، في دلالة من المخرج على أنه الشخص القادم من البعيد. وهذا الأمر ساعده في التدرج للوصول إلى الحكم. ولتعزيز هذه النظرة، ربط المخرج ذلك بسعي نابليون وشقيقه لوسيان لتحقيق حلم والدتهما، وفي هذا إضافة للجانب العاطفي والأُسري، المحرك لنابليون منذ أول عشر دقائق.

فرنسا في الفيلم ظهرت بطبقتها الأرستقراطية والنبلاء ورجال الدين، فيما غاب حضور العمال وعامة الشعب في المَشاهد الحوارية على نحو واضح في الفيلم، فرأينا فرنسا المضطربة بعد الثورة، ورأينا فرنسا التي يتحكم بها الفاسدون أمثال روبسبير، وفرنسا التي يديرها المجلس الإداري، وفرنسا التي يديرها القنصل الأول. وكانت عظمة فرنسا في الصورة تكبر مع صعود نابليون في المناصب، فنرى مجلس النواب والتتويج بالقنصل الأول والتتويج بالإمبراطور. وفي كل مشهد كانت تزداد الأبهة والفخامة والحاشية، إلا أن مشهد التتويج الإمبراطوري كان له حضور طاغٍ أكثر من غيره، وفيه يأتي نابليون وجوزفين في عربة تجرّها الخيول ليصل إلى كاتدرائية «نوتردام دي باري» وسط حضور شخصيات أوروبية بارزة، ففرنسا الإمبراطورية لم تكن تريد أن تظهر بوصفها امتدادًا للملكية، لذلك اختلفت مراسم التتويج التي تمت بحضور البابا بيوس السابع، فحين أخذ نابليون التاج بيده دون أن يسلمه إياه البابا، كما جرت العادة، كان نابليون يرمز إلى أن هذه الإمبراطورية الفرنسية أتت بإرادة الشعب وبعيدًا عن تزكيات رجال الكنيسة أو بالوراثة غير المستحَقة، ولذلك فهو أهل لهذا التاج وفرنسا أهل لأن يحكمها. ويختم البابا تتويجه لنابليون بقوله: «ليثبتك الرب على عرشه»، وهو العرش الذي لم نره جالسًا عليه طوال الفيلم، بل رأيناه جالسًا على عرش قيصر روسيا، فأين كان عرش نابليون؟

فيما غادر الكاتدرائية والجوقة الموسيقية تغني، وفي فرنسا نابليون، شاهدنا كثرة الاحتفالات، وشاهدنا قصر «فرساي»، وغاب عن الفيلم الإشارة لقوس النصر، ولو من باب الأمر ببنائه، وغاب عن الفيلم أن نرى بوضوح وجلاء كيف كان حال فرنسا خلال العام الذي قضاه نابليون في منفاه، وكذلك كيف أصبحت بعد هزيمته في واترلو ونفيه الأخير إلى سانت هيلينا.

الجيش. هذا المحور يكاد يكون مخيّبًا لتوقعات كثيرين ممن أرادوا أن يشاهدوا عبقرية نابليون في التخطيط للمعارك وإدارتها، فلا نستطيع أن نأتي بفيلم لمدرب كرة القدم العبقري غوارديولا دون أن نأتي على عرض أفكاره وخططه مثلًا، وكيف يقلِب نتيجة المباراة عبر اهتمامه بتفاصيل صغيرة، فكان من الغريب تجاهل هذه المزايا التكتيكية والقيادية للرجل، بل إنه من الغريب أن المَشاهد التي استفاض فيها المخرج في التخطيط للمعركة قبل حدوثها هي لمعارك خسرها نابليون، ورأينا كيف أن الجيش ظهر في بداية الفيلم بأسلحة بالية في تولون، ثم تطور تحت قيادة نابليون وصعوده الصاروخي في السلطة. وشاهدنا معركة أوسترليتز، وفيها أبدع ريدلي سكوت في إظهار الجيوش وضخامتها، وكذلك ما تبع المعركة من سلام في الخيمة مع فرانسيس ملك النمسا. ومع هذه الانتصارات للجيش، كان يظهر نابليون بشكل بارد، ولم يبث الحماسة في صفوف جنوده قط، عكس ما دونته عنه كُتُب التاريخ. 

ومع توالي الغزو نحو الشرق، شاهدنا تململ جنود نابليون منه، وفي أحد المَشاهد نراه يقاسمهم قطعة خبز، ويحاول تحفيزهم حتى يصل إلى موسكو التي وجدها خاوية على عروشها فيقيم فيها أيامًا وليالي قبل أن يحرقها الروس. وهنا يصر على التوجه نحو سانت بطرسبرغ، ولكنه يواجه لأول مرة مقاوَمةً من رجاله ليعود إلى فرنسا ويواجه فشله. وعند عودته، نرى كيف يستنهض همة الفوج الخامس الذي احتضنه في مشهد قُدّم بطريقة بسيطة. 

وكان بإمكان المخرج وخواكين أن يتعملقا في هذا المشهد بحيث يخاطب نابليون عاطفة الجنود فيستميلهم بشكل أكثر منطقية، وليس لمجرد أنه مَلِكٌ يرغب بالعودة إلى الديار وما شأني بذلك كجندي، وهذا مأخذي على هذا المشهد. وانطلق بعدها نابليون للتحضير لمعركة واترلو التي ظهر فيها مشوش الذهن، وكان جيشه أسفل السهل فيما كان البريطانيون أعلاه، ما سمح لهم بالتفوق. وظهر تأثير القائد البريطاني حيث كان يوجّه جنوده فيما اكتفى نابليون بالوقوف تارة والانعزال في الخيمة تارة أخرى، حتى إن الخيّال الذي ذهب ليقدر الوقت المتبقي لوصول بلوخر كاد أن يتعثر عند وصوله وقال رسالته بتقطع، في حين كان نظيره البريطاني أسرع منه، وقال رسالته بسرعة واقتضاب. نابليون كان قد قال إن في الهزيمة كرامة، لذلك عندما انسحب من ميدان المعركة، عاد وقاتل، ولكنه في نهاية الأمر استسلم لبريطانيا، وفاوضهم على اللجوء إليهم، فهو فرّ منهم إليهم، ولكن قوبل طلبه بالرفض ليختم الجيش الفرنسي عهد الغزو الأوروبي ويبقى متمددًا في مستعمراته في إفريقيا.

جوزفين. كما قال نابليون: «إن في الهزيمة كرامة»، فقد أُثر عنه قوله: «لا كرامة في الحب والحرب». وفي محور حبه لجوزفين، يكاد يكون هذا المحور أكثر الخطوط تماسكًا. تلعب الرسائل المتبادلة بين نابليون وجوزفين دور صوت الراوي الممسك بسردية الفيلم، وتسهم هذه الرسائل بدورها في صناعة قفزات زمنية اتفق معها بعض الناس، واختلف معها بعضهم الآخر، فقد قرأ نابليون ست رسائل بصوته موجهة لجوزفين، فيما قرأت الأخيرة رسالتين بصوتها. ظهور جوزفين الأول يترافق مع مَشاهد نهاية عصر الإرهاب، فنشاهدها تخرج من السجن وسرعان ما تظهر في الحفلات، فهي كانت امرأة متعددة العلاقات. وفي حفل الناجين، يُعجب بها نابليون ليضيف جوزفين بوصفها محورًا ثالثًا مع فرنسا والجيش، ويكتمل مثلثه الماسي الذي يوجه حياته. وفي اللقاء الثاني، تتساءل جوزفين عن رؤية نابليون لها، وهل يمثّل انتماؤها للطبقة الأرستقراطية مشكلةً له، مع العلم أن نابليون كان والده نبيلًا كذلك، ولكن أقل نُبلًا منها. ولكن، كونه أحد حماة الثورة الفرنسية، قد تكون قناعاته الثورية تحول دون هذا الارتباط، وليس بسبب فارق الطبقات بينهما، بالإضافة إلى الفارق العمري الذي حاول الطرفان تجاوزه، فقد زوّد نابليون من عمره، وأنقصت هي من عمرها في لقائهما الأول حسب المصادر التاريخية. ونشاهد جوزفين في الفيلم بعد أن باحت له بأسرارها وعلاقاتها، وكشفت عن ساقيها، وباعدت بينهما، تقاربت المسافة بينهما هي ونابليون، الذي شاهد منها ما سيرغبه فيها دائمًا، وهذا ما كان.

نتيجة لهذا الحب، أصبح نابليون أسير زوجته، فلم يقو على تركها رغم خيانته لها، ليتفق الطرفان على أنهما لا شيء من دون الآخر، وتنشأ هذه الثنائية نحو تأسيس الإمبراطورية. ولذلك، اعترف نابليون بمغامراته ونزواته السابقة مع العشيقات، حتى يقفل هذا الباب بينهما، ويركّزا جهودهما للوصول إلى المُلك، وهذا ما كان. ولتأكيد فكرة الحكم الثنائي، رأينا كيف أن تتويج جوزفين بالتاج الإمبراطوري تم مع تتويج نابليون، في مخالفة للسائد في العهد الملكي، حين كانت الملكة تُتَوَّج بعد الانتهاء من تتويج الملك. ولأن المُلك يعني ضرورة وجود وريث، ظهرت المشكلات بين الزوجين. ورغم محاولة نابليون لنسْب ابنه غير الشرعي لجوزفين، فقد فشلت خطته ليُضطر إلى أن يطلقها. وهنا التقت خطوط القصتين، فطموح نابليون السياسي يقف أمامه زواجه بجوزفين، ولذا تم الفراق بينهما. ومَن ينظر إلى مشهد الزواج يجد الحضور فيه لا يتجاوزون الخمسة، منهم ابنة زوجته وشقيق نابليون، بينما في طلاقه، امتلأت القاعة بالحضور من علية القوم. وفيه قال نابليون إنه يطلب حل سنوات حياته، في حين قالت جوزفين: «زواجنا عائق أمام تقدُّم فرنسا». وهكذا غادرت جوزفين المشهد السياسي.


انتهى الحال بنابليون يطلب ود بنات العائلات الملكية، حتى تزوج الأرشيدوقة ماري لويز، ابنة ملك النمسا فرانسيس الأول، التي رُزقت بنابليون الثاني. ومنذ تلك اللحظة، بدأ نابليون بالتراجع والتقهقر في حروبه، وهو ما عبّر عنه في إحدى رسائله لجوزفين، وفيها يقول: «لقد فارقني الحظ السعيد منذ فارقتك، أنا نكرة من دونك». وكان انفتاح جوزفين على القيصر ألكساندر بعد طلاقها دليلاً على أنها كانت امرأة أرستقراطية تسعى لأن تحظى بالمكانة العالية دومًا، ولهذا لم تغلق الباب أمام ألكساندر. وفي الوقت نفسه، عندما علمت برغبة نابليون في العودة إلى فرنسا، أرسلت له تجديد الولاء، ودعته للعودة، ولكن كان الوقت قد فات، وحضرتها الوفاة. أظهر الفيلم كوميدية نابليون في بعض المَشاهد في قصته مع جوزفين، وكذلك أظهر كثيرًا من ضعفه، ولحظات القوة لنابليون كانت قبل تعرُّفه إليها، وعندما كانت علاقتهما مستقرة. وبمجرد أن بدأ نابليون غزواته لمصر، بدأ هيبوليت نزواته في القصر مع جوزفين. ومع تقدم أحداث الفيلم، بدا نابليون أكثر ضعفًا، غير أوقات قليلة في قصره، وفي بعض مَشاهد الحفلات. ولأننا نتحدث هنا عن عائلة نابليون، فالفيلم أغفل كذلك محاباة نابليون لإخوته في المناصب، حيث احتكروا السلطة، فيما ظهرت شقيقاته الثلاث في مشهد التتويج الملكي في الكاتدرائية، وهنّ يمسكن بأطراف عباءة جوزفين المخملية، وغابت عن مشهد التتويج أم نابليون لخلافه مع إخوته في ذلك اليوم.

الإخراج. مَشاهد الفيلم رسمها ريدلي سكوت بيده في ألواح الستوري بورد، فهو من القلائل الذين يجيدون الرسم، لذلك كانت لديه هذه المخيلة الرائعة للتكوينات التي ستظهر على الشاشة، واحتوى الإخراج على جماليات كثيرة، نذكر منها عرض تداول السلطة بين بول باراس ونابليون، ففي لقائهما الأول كان نابليون يجلس بظهر مشدود في حين كان باراس يرتخي بثقة كونه مَن يأمر. وعندما احتاج باراس إلى نابليون، كان نابليون يقف بثقة متكئًا بيده على الكرسي، فيما يقف باراس بتشتت، ليجلس نابليون بعد عودته من مصر بثقة، وهو يوبخ باراس وزملاءه في مجلس الحكومة، حتى ترك باراس العمل السياسي، وصعد نابليون إلى هرم السلطة. من الجماليات التي عرضها سكوت كذلك، مشهد عقد قران نابليون وجوزفين، حيث كان يوجد قلمان اثنان، وفيه وقّع كل واحد منهما بقلم للدلالة على قرارهما المشترك وموافقتهما عليه، في حين أنه في مشهد الطلاق ظهر قلم واحد، لأن القرار صدر من نابليون دون رضى جوزفين، ولذلك تناوب الاثنان على التوقيع بالقلم نفسه. وشاهدنا أيضًا نابليون وهو يتحدث مع مستشاره الدبلوماسي، فقد كانت لدى المستشار معرفة أكبر بالقيصر، ولأنه ذو معرفة، كان يجلس بثقة والكاميرا ثابتة، في حين أن نابليون كان يجهل ماهية القيصر، فنراه يقف ويغدو ويروح والكاميرا تتحرك معه كنايةً عن حيرته وقلة معلوماته. ومن الأفكار الرائعة لريدلي، أن خبر حمل الفتاة في القصر تم إخباره به في محفل عام، فقد أصبح شأنًا عامًا، وقبل ذلك رأيناه يشرب كأسين ويطلب الثالث، وعند دخوله الغرفة أطفأ ثلاث شمعات.

كذلك رأينا كيف يعزز المخرج من استخدام الكرسي في العلاقة بين نابليون وجوزفين، ففي غالب جلوسهما على الأريكة معًا يكون ذلك وقت الفضفضة، في حين أنه عندما يجلسان على كرسيين منفصلين تكون تلك محادثات مشحونة، وتعبر عنها أحيانًا المسافة بينهما كطاولات الطعام الطويلة المتباعدة. وشاهدنا أن الحديث عن مسألة إنجاب الوريث، عندما غدا شأنًا عامًا، كيف ناقشه نابليون في العشاء أمام أهله والمقربين منه. وبعد أن تم الطلاق، قدم ريدلي سكوت مشهد قدوم نابليون على جوزفين في مالميزون، حيث كانت تقف أمام البحيرة، وفي كادر الصورة يوجد بطة وحيدة تقف والأخرى تبتعد عنها، ومع وصول نابليون لجوزفين وتقديمه لابنه لها ظهرت في الخلفية البطتان بجوار بعضهما. وبينما كان نابليون في رحلة العودة من جزيرة إيلبا، رأينا جوزفين تنتظر عودته، وتقف أمام البحيرة، وفيها بط وحيد، حتى إذا قدم نابليون إلى منزلها للمرة الأخيرة، ظهرت عربته من الأمام، ولم تظهر البحيرة في المشهد، فقد انتهت رواية بطّوط وبطّوطة بوفاة جوزفين. ومن المشاهد العسكرية التي قدّم فيها سكوت اختلاف الرأي بالقول والفعل، عندما رأى نابليون أن يسير إلى سانت بطرسبرغ ولكن خالفه قادة جيشه، ففي هذه اللحظة، رأيناه يقف وحيدًا في صفٍ أمامهم، ويضع يده على أذنيه ليعبّر عن انزعاجه من رفضهم والحال الذي وصل إليه.

الموسيقى. قدّم الفيلم مجموعة من المقطوعات الأيقونية التي سيكون لها نصيب في جوائز الأوسكار بكل تأكيد. ولكن، ما استغربه الموزع الموسيقي مارتن فيبس، أن سكوت لم يتحدث معه عن الموسيقى بل عن خلفية نابليون ومن أين أتى، حيث يقول فيب: «سكوت أراد مني أن أفهم أن نابليون كان دخيلاً. لم يكن أرستقراطيًا مصقولاً مثل عديد من الضباط في الجيش، وأرادني أن أمثّل ذلك في الموسيقى». موسيقى الفيلم احتوت على 15 مقطوعة، جاء أغلبها بإيقاع متوسط السرعة، فيما كانت مقطوعتان منهم أسرع إيقاعًا من البقية على نحو ملحوظ. وفي نهاية الفيلم، عُرضت المقطوعات تباعًا ليتسنى للمشاهدين الاستمتاع بالعزف.

من اللافت أن الفيلم استخدم أغنية «خنازير الحرب»، وعاب بعض الناس ذلك على الفيلم الكلاسيكي، فكيف يأتي بأغنية حديثة ليسقطها على مَشاهد قديمة؟ وأرجع بعضهم ذلك لعدم وجود التاريخ لدى الأمريكان عمومًا وهوليوود خصوصًا. ولكن هذا قول لا أتفق معه، خصوصًا إذا ما علمنا أن المخرج مولع بالتاريخ وقصصه، إضافةً إلى أن كلمات الأغنية تصف جزءًا من واقع الحروب حيث تقول أجزاء من كلماتها: «احتشد الجنرالات في جماهيرهم»، لتضيف في بيت لاحق عبارة: «عقول شريرة تخطط للتدمير». فهل كان سكوت يعلن موقفه من نابليون على نحو غير مباشر؟ من يدري.. ومن الجدير ذكره أن في مشهد تتويج نابليون بتاج الإمبراطورية، وفي أثناء مغادرته، شاهدنا الجوقة تغني، ولكن صوتها كان مكتومًا، وبحسب الروايات فإنهم كانوا يقولون: «فليحفظ الرب إمبراطورنا نابليون». أما المخرج ريدلي سكوت فاختار أن يُسمعنا معزوفة «الخلق» للمؤلف الموسيقي جوزيف هايدن في المشهد بدلاً من «فليحفظ الرب إمبراطورنا نابليون». ولذلك سببٌ وجيه، فنابليون سبق له حضور العرض الأول لهايدن في باريس. ثم إن القوات الفرنسية عند غزوها النمسا أصابت عن طريق الخطأ منزل هايدن، فأمر نابليون بعض الجنود بحراسة ذلك المنزل، فيما قام أحد الجنود بغناء مطلع من معزوفة «الخلق»، ما جعل هايدن يتأثر ويعانق الجندي. وبالعودة إلى معزوفات مارتن فيبس، فكلها جديرة بالاستماع، وأعجبني منها «بيانو نابليون وجوزفين» و«السيدات في الانتظار» و«القنصل الأول» و«أوسترليتز كيري»، والتي توفرت للاستماع في المنصات الموسيقية.

الأزياء والمظهر. أنفق الفيلم على الأزياء بسخاء، حيث قاد هذا القسم جانتي ييتس وديفيد كروسمن، فتولت جانتي الأزياء المدنية، فيما اهتم ديفيد بالأزياء العسكرية، حيث صنع 4000 زي عسكري لمختلف القطاعات والجيوش. وبعدها، قام بمعالجة الأزياء لجعلها تبدو مستخدمة وليست جديدة، فيما واجهتهما مشكلة مع قبعة نابليون؛ بما أن خواكين نباتي، كان عليهما صنع قبعة لا تحتوي على أي مواد حيوانية ليقبل ارتداءها، وهو ما كان في نهاية المطاف. الفيلم حاول محاكاة حياة البذخ التي كانت تعيشها النخبة الحاكمة، ففي عهد الملكية، كان يُنظّر البعض بقوله: «ينبغي أن تكون الملابس علامة يتم من خلالها التمييز بين الدوقة والنبيل وبائع الكتب. فإذا تساوت ملابسهم، كيف سنميز الماركيزا من زوجة البقال، أو الكونتيسة من الطاهية؟» وعلى هذا المسار، واصلت النخب الحاكمة بذخها بعد الثورة، وإن كانت الأزياء اختلفت، وهذا ما تم مراعاته في الفيلم، فعلى سبيل المثال، رأينا جوزفين ترتدي ملابس أكثر تقدمًا وبخصر نحيف مرتفع، ومع مرور الوقت، تطور شكل اللباس حتى وصلنا إلى لقائها بالقيصر، وقد ارتدت فستانًا مكشوف الذراعين مع قطعة وشاح غير متصلة، وهي بذلك كانت تلعب دور الموجهة للأزياء، فجميع النساء تسعى لتقليدها. ولذلك، في الفيلم، لاحظنا اختفاء الفساتين الضخمة والمتعددة الطبقات التي امتاز بها العهد الملكي، وشاهدنا أيضًا مشهد جوزفين عندما كشفت عن ساقيها، حيث تم تصويره من بُعد، ولكن الفكرة وصلت. وعن هذا تقول مصممة الأزياء جانتي: «إن من سمات الأزياء في عهد الثورة التخفف من الملابس الداخلية، بل حتى عدم ارتدائها كما فعلت. وكذلك تختفي الكورسيهات التي كانت تسود في العصر الملكي، وكانت السيدة تأخذ من الوقت ساعة حتى تستعد للخروج». ومن المظاهر الباذخة التي ظهرت، المجوهرات في الفساتين، فكانت إضافتها تعبّر عن ثراء السيدة ومستواها الاجتماعي، قبل أن تختفي هذه العادة لتحل محلها الزهور المزخرفة على الفساتين.

كذلك شاهدنا القفازات التي ترتديها النسوة وكيف كانت بأحجام مختلفة، علمًا أنها في وقت نابليون بدأت تقصر حتى أصبحت تغطّي اليد فقط وبقماش رقيق. كذلك شاهدنا المراوح الورقية في يد بعض النسوة، وهذه لها آداب في الاستخدام بحسب مرتبة المرأة في المجتمع. وبناءً على هذا النمط المادي في مجتمع النخبة، ظهرت جوزفين بفساتين مختلفة، ولا أظنها كررت أحدها. ومن الأزياء اللافتة الزي الأحمر الذي ارتداه نابليون أثناء عرض فكرة الملكية عليه، حيث كان يرتدي سترة من المخمل الأحمر والحرير العاجي. كذلك زيه المشابه لأباطرة الرومان يوم التتويج بالملك، فقد وضع تاجًا من إكليل الغار على رأسه. ورأينا كذلك من المظاهر الرجال بالباروكة، وكذلك بعض السيدات، فيما ظهرت جوزفين في حفل الناجين الأول بمكياج قوي صارخ، وهي تضحك على ماري أنطوانيت. هذا المكياج اختفى سريعًا، لأحد أمرين: في ظني الأول أنها كانت سجينة في عهد الإرهاب ولم تدرك التغير الذي حدث للمجتمع، حيث أصابته موجة ارتدادية دفعته للتخفيف في مظاهره والعودة لأخف اللباس، ومنه لباس الرومان القديم، ومن المظاهر كذلك عدم استعمالهم للمكياج، فلما رأت التغيّر الذي حدث بعد الحفل الأول، لم تعد لاستخدامه بقوة. وشاهدنا أيضًا من الأزياء القبّعة الشيشانية، حيث ارتداها الجنود الروس في المعارك أثناء الشتاء، وكذلك القبعات من الطبقات للرجال والنساء، والقبعات مع الريش للنساء، وكذلك أغطية الرأس للنساء من الطبقة العاملة بأشكال مختلفة. ظهرت كذلك الأقنعة وحفلاتها حيث يتخفى جميع الحاضرين تحت القناع. وبناءً على ما تقدم، فالفيلم يمضي بقوة ليحصد ترشيحًا في جوائز الأوسكار لأفضل تصميم أزياء.

التصوير السينمائي. أخذ مدير التصوير داريوس ولسكي التقاطات ساحرة وجميلة للمجاميع في الحروب، ولا سيما في لقطاته الواسعة واللقطات العلوية من زاوية عين الطائر، ولكنه تميز بثبات لقطاته في الحرب، فكاميراته ديناميكية متحركة، ولكنها لا تهتز مهما حدث، واهتز ما حوله، وشاهدنا لقطات سقوط الجنود على الجليد في معركة أوسترليتز وخصوصًا حامل العلم، وكيف سقط حيث تركه وحيدًا، وأعطانا أملاً بنجاته ثم فاجأنا بلقطة المدفع، وهو يقذف قذيفة أصابت الجندي والجليد في مقتل وغالبًا ما يتم التصوير بأربع كاميرات، وعن ذلك يقول ريدلي سكوت: «عادةً ما يكون هناك أربع كاميرات، ولكن في بعض الأحيان تصل إلى 11، مما يتطلب عددًا أقل من المحاولات وأقل وقت بينها لإعادة التعيين. في الصباح، سأقول لمصور الأفلام المبدع، داريوس ولسكي: "أريد كاميرا هنا، وهنا وهنا وهنا. كم يستغرق إعدادها؟" سيقول: "40 دقيقة"، وسأبدأ التصوير في الساعة التاسعة صباحًا»، ويقول سكوت: «يستخدم المخرجون الآخرون كاميرا واحدة». هذا، وتميز ولسكي بعمقِ وثراءِ مَشاهده، فهي متعددة التفاصيل، وكل مشهد فيه لوحة تأسرك بجمال تفاصيلها، خصوصًا الملكية منها، وبدت غالب إضاءة مَشاهد الفيلم إضاءة معتمة ناعمة، وفي مشاهد الحفلات في الليل، وعلى أضواء الشموع، أضفت هذه الشموع شكلاً جماليًا في الخلفية حيث كانت تتلألأ من خلف الشخصيات في أثناء الحديث، فيما كانت معزولة وضبابية كلّيًا في أحيان أخرى كما كانت وقت الحديث عن التهديد الفرنسي للنمسا، واعتمد المصور على إضاءة رئيسة، وكذلك إضاءة خلفية للممثلين، فتارة تكون الإضاءة الخلفية الشمس وتارة تكون الشموع، وفي أحيان أخرى تكون النار، ومن المَشاهد التي تم تسليط الضوء فيها بشكل أعلى من الضوء المسلط على بقية المكان المَشاهد التي ظهر فيها عرش قيصر روسيا وكذلك مكان وقوف نابليون في الكاتدرائية وقت تتويجه، ورأينا لقطة لنابليون بسرعة بطيئة تتزامن مع أغنية «خنازير الحرب» في نهاية معركة أوسترليتز حيث كان فيها من القوة الشيء الكثير، وكذلك دخوله موسكو والمدينة خاوية، قام بتصويرها بشكل مهيب بلقطات سُفلية واسعة أظهرت الكرملين وكنائس موسكو فيما كانت اللقطات في البحر عادية، ولم تكن بمستوى المَشاهد الباهرة التي صوّرها ولسكي في سلسلة «قراصنة الكاريبي»، وبوجهٍ عام قدم الفيلم متعة بصرية قل نظيرها.

المونتاج والألوان. أتعاطف مع المونتير كلير سيمبسون، حيث إنه ربما يواجه لأول مرة فيلمًا بجزئين إذا ما أخذنا في الاعتبار أن نسخة المخرج تزيد عن النسخة السينمائية بساعة ونصف، وهي مدة فيلم طويل آخر. وبالتالي، كان عليه اختزال كثير من الأحداث والمَشاهد، مما سبّب ضعفًا في استمرارية القصة في المونتاج. وكانت هناك قفزات كبيرة، مثل تلك التي حدثت عند الانتقال لمشهد الحملة الفرنسية. ثم إنه بالرغم من أن ابنة جوزفين ظهرت في مشهد الطلاق، فإننا لم نشعر بوجودها سوى عند تبليغ نابليون بخبر وفاة والدتها، ولكن لم يتم التعريف بها. وأيضًا، ظهر ابنها في بزة عسكرية، ولكن لم يتم التعريف به، ولم نلاحظ وجوده.

فيما يتعلق بالتلوين، شاهدنا أن الفيلم اعتمد على الألوان الباردة إلى حد بعيد، خصوصًا في لقطاته الصباحية. وغلب على اللقطات المسائية الشاعرية تشبع في الألوان. وحدث هذا التشبع بوضوح في منزل جوزفين خلال زيارة القيصر لها ورقصهم في المساء على ضوء الشموع. وفيما يتعلق بالحروب، استخدم المخرج ألوانًا خاصة لكل بلد، فرأينا الدفء في الألوان في مشاهد الحملة الفرنسية، فيما كانت الألوان تميل إلى البرودة في معركة أوسترليتز. وفي روسيا، أصبحت الألوان غير مشبعة، بل واقتربت من درجات الأبيض والأسود في مشهد دخول موسكو قبل أن تتحول، حيث بلغ التشبع أقل مراحله، وغلب اللونان الأسود والبرتقالي على مشهد حريق موسكو.

التمثيل. يقول سكوت إنه أرسل لخواكين فينيكس المسودة الأولى من السيناريو، وبالتالي أشركه في الفيلم منذ وقت مبكر، فاستعدّ فينيكس له جيدًا. ولكن الذي لم يتقبله المشاهدون هو ظهور خواكين فينيكس الخمسيني كما هو، دون أن يؤدي قسم المكياج أو حتى المؤثرات والذكاء الاصطناعي دوره في جعله يبدو أصغر سنًا. وما زاد الطين بلة هو أن فانيسا كيربي، التي تؤدي دور جوزفين، يُفترض أن تظهر أكبر سنًا من نابليون حسب الوقائع والأحداث. ولكن لأنها تصغر فينيكس بقرابة 15 عامًا، فقد ظهرت أصغر منه سنًا، وهذا بدوره يشتت المُشاهد، ويفصله من الفعل ورد الفعل والغاية والنتيجة لكل مشهد حواري أو صراع خاضه الاثنان في الفيلم، ولا سيما أنه بعد مشاهدة الفيلم، نجد أن خواكين قدّم الدور جيدًا، ولكنه لم يقم بدور أيقوني مثل الجوكر. ولعل هذا يعود إلى التفسير الذي اختاره المخرج لنابليون، فهو يرى فيه شخصًا له جانب شخصي غير مروي بشكل كافٍ، ويرى في نابليون قائدًا ينام في المعركة، ويقتل بدم بارد، ويلقي النكات، فكسر بذلك الصورة النمطية المتخيلة عن القائد، وهو ما انعكس على أداء خواكين للدور.

نقطة آخر السطر. إخراج سكوت للفيلم تم على وجه مغاير للمتوقَّع منه من محبي الأفلام الملحمية والحربية، وهو الأمر الذي تفهّمه مصمم الإنتاج في الفيلم، آرثر ماكس، حيث قال في لقاء صحفي: «لا نريد أن نقدم وثائقيًا عن تاريخ حملات نابليون العسكرية»، وشدّد: «التي كانت عشرات. لذا اخترنا الحروب الرئيسة، وحاولنا التركيز أكثر على قصته، صعوده، رحلته من الغموض إلى أن يصبح -عمليًا- الشخص الأكثر شهرة في العالم، وعلاقته العاصفة مع زوجته جوزفين. هذا جعل السرد أكثر ثراء»، فيما قال نجم الفيلم خواكين فينيكس أنّ مَن أراد أن يتعلم عن نابليون فليقرأ الكتب، وكأنه بطريقة أخرى يقول إننا نقدّم فيلمًا مستوحىً من قصة حقيقية، وتم تعديل بعض الأحداث لأغراض درامية، وهو الأمر الذي صبّ على المخرج اللعنات، فالرجل عرض رسائل نابليون وليس قيادته وإن لم ترق الرسائل للبونابرتيين إن جازت العبارة، فريدلي سكوت ركّز على منطقة الضعف البشري، وهنا زالت قوة نابليون. ولهذا تعامل بعض الجمهور مع المخرج بالمَثَل القائل: «إن لم تستطع أن تسبّ صاحب الرسالة فسُبّ ساعي البريد». وبناءً على ذلك يمكن أن نقول إنه في فيلم نابليون هناك رسائل لم تصل بعد من ساعي البريد، وننتظرها في نسخة Apple TV+. ومَن قرأ تصريح سكوت بأنه اطّلع على نسخة سيناريو ستانلي كوبريك لفيلم «نابليون» الذي كان ينوي إخراجه، وفهم رده بأنه لا يريد أن يُخرج فيلمًا عن حياة نابليون من الألف إلى الياء، يدرك أن سكوت أراد طرق أبواب لم يتحدث عنها كثيرون في الوقت الذي يصدرّون فيه صورة الإمبراطور التاريخي، فإن سكوت في نهاية الفيلم يعرض لنا عدد الضحايا في أثناء حكمه، وفي حروبه، ويترك الحكم للمُشاهد في نظرته لنابليون بونابرت.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى