رواية، لوحة، فيلم

October 5, 2023

تبرز في لوحة «The Souvenir» للرسام الفرنسي جان هونوري فراغونارد ملامح فتاة يافعة تحفر حرفًا على جذع شجرة أُخذ عمدًا من اسم عشيقها، تحت مرأى كلب الفتاة الشابة وتَرقُّبه، رفيقها الوحيد في خلوتها مع الطبيعة. إن أردت أن تُطيل النظر إلى هذه اللوحة رغبةً في الوصول إلى أدق تعبير يليق بها، فسوف تتراكض من فمك -دون عناء- صفاتٌ تنتمي إلى الحب الصادق والشاعرية العذبة. إيحاءٌ فاضحٌ يسهُل التقاطه عند التأمل في معالمها. بيد أننا إذا أردنا العودة بالزمن إلى الوراء لوجدنا أن المحفز الأول لفراغونارد لنسج تلك القطعة كان شخصيةً خياليةً ابتُكرت ملامحها عبر مخيلة جان جاك روسو. فقد كانت جولي شابةً حُرمت من الزواج بأول حب لها؛ بسبب اختلاف الطبقات بين كلا الطرفين. بيد أنها لم تقاوم ذلك الرفض، واستسلمت بعدها للزواج من رجل آخر يفوقُها غنى؛ لتنسى معه لحظات التلهف إلى مَن ظنت أنها متعلقة به. غير أن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد، إذ كانت تلك البداية لعلاقة مختلفة بين الاثنين، انعطفت نحو منحى آخر عن طريق التراسل. وظلت تراسل عشيقها السابق قبيل زواجها، ليُعاد تقديمه إلى حياتها عن طريق الزوج المطمئن. وصار الحب بينهما محرمًا غير مشروع، انتُزعت منه صبغة الرومانسية الجذابة. عباراتٌ كهذه قد تمحو جمالية اللوحة وتنتزع منها هيئتها المقدرة لها. ومع ذلك استمرت اللوحة في ترك أثرها داخل كل مَن يغطس في قسماتها متناسيًا -لبرهةٍ- أخلاقية تلك العلاقة.

في الثمانينات، في أحد تلك الأعوام العشرة المتشابهة إلى حد كبير، قدم أنتوني نسخة مصغرة من لوحة فراغونارد وبطلتها جولي، لمحبوبته جولي المتعلقة بها، والتي ظلت تسترسل في حديث متواتر عنها في لحظات الخلوة بينهما. أحدث هذا الفعل أثرًا كبيرًا في حياة جولي العاطفية، مشعلًا فتيلًا لم تفطن إلى لهيبه نتيجة لصغر سنها وقلة خبرتها العاطفية. أرادت التمسك بتلك الشعلة مهما كلف الأمر. كانت حياتها في ظل والديها مرسومة بدقة. عائلة تنتمي إلى طبقة أرستقراطية وإن عُدت منتمية إلى زمن مضى، توفر للفتاة اليافعة كافة متطلباتها، حياة قد حيكت تفاصيلها بعناية. ومع ذلك، أرادت الانفصال عن تلك القيود والتحليق نحو عالم مناقض. فكرت في دراسة السينما كأقرب مخرج، ليبرز أمامها أنتوني كمنعطف في حياتها يصوغ -رفقتها- ملامحَ قصة حب شائكة تطرح عدة تساؤلات عن مشروعية تلك العلاقة.

مَن هو؟

أحبت جولي شخصًا غامضًا، ما برح يتخفَّى معظم الوقت داخلَ أمكنة وأزمنة مختلفة. ولو لا ظُهوره المتقطع داخل الشقة بين الحين والآخر، لجزمت أنه من صُنع خيالها. لم تكن تعرف هويته حقا، عدا معرفتها لاسمه طبعًا، لكن كل ما كان يتعلق بنوع وطبيعة عمله والأجساد المختلفة التي يقضي معها جلَّ لحظاته إلى أن ينقضي الوقت وتحين ساعة لقائه بها، كانت أمورًا مبهمةً بالنسبة لها. تصورت أنه يعمل في وزارة الخارجية، أو هكذا صرح بالأمر. بدأت في رسم تخيلات عن شخصيته، فهي في النهاية مخرجةُ أفلام ومهمتها الأساسية خلق الشخصيات تلو الأخرى. آمنت في قرارة نفسها بانتمائه إلى جهاز الاستخبارات، وأنه عميل مزدوج لبريطانيا -البلد الأم- وإحدى الدول الشيوعية. فما من تفسير آخر لكل ذلك الالتباس تجاه هويته سوى هذه الخلاصة. 

تساءلت مرارًا عن حقيقة مشاعرها تجاهه: أهو الحب فعلًا، أم مجرد افتتان بالغموض الذي يرمي بها - في كل مرة تفتح حديثا معه - في عالم من الأوهام المتجددة، جاذبًا إياها ناحية اكتشافات جديدة في كل مرة. لم تكن تسأله كثيرًا عمَّا يجري في حياته أو ماذا يفعل خلالها، بل ظلَّت مستمعة لما يود هو إخبارها عنه. وكأنها بهذه الطريقة كانت تساهم في الإبقاء على هويته خفية، أو ربما راقَ لها ما بدر منه من سحر الغموض. أم لعلَّها اكتفت بالمتعة في وجود رفيقٍ بجانبها، ليس الوقت كله، وإنما عند الحاجة فقط، في هنيهات تُوائِمُ مزاجها خلال أيام متفرقة من الشهر. الغريب أنه رغم اختفائه من المشهد ظل يطل بكامل أناقته داخل أحلام يقظتها، وفي أغلب أوقات صحوتها. أصبح أشبه بمرضٍ متفشٍ بعدوانيةٍ داخلَ جسدها يصعب استئصاله. أرادت صرف تلك الغشاوة من التعلق والهوس بإنتاج عمل ملموس. ركزت على جعله بطلًا لقصة فيلم يكون من صنعها. رسمته بطريقة تلائم تخيلاتها عنه، على الرغم من حقيقة وجوده.. أو ربما احتجابه. 

يغدق أنتوني عليها رسائلَ محمَّلة بالاعترافات العاطفية ودعواتِ الانخراط في الاهتمامات ذاتها التي تتشبَّث جولي بها في سبيل إيجاد معنى لحياتها. هي لا تُحاول معرفةَ مغامراته العاطفية إلا إذا عرج على ذكر إحداهن أمامها، وإن بدا لها أنها اختلاقات من وحي خياله يغذي بها قريحته القصصية مثل روائي يحاول ملء صفحات كتابه الرومانسي.

علاقتها به لم تكن طبيعية. وإن تأملناها عن قرب واتخذنا موقع المراقب لتصرفاتها معه، وتصرفاته معها ستبرزُ لنا بوضوح معالمُ اضطهادٍ مشرَّعٍ من قِبلها تجاه كيانها، نوعٌ من أنواع تدمير الذات غير المرحب به. فعندما تكون في معيته، يكون هو المسيطر على كافة أفعالها وبنات أفكارها. وإن أرادت لفكرة أن تبرز داخل دماغها سرعان ما يعبث عشيقها ببُنودها جاعلًا إياها متوائمة مع ما تقتضيه خبرته، لتدرك بعدها صواب قراراته وعدم نضوج تفكيرها. كما أنه يستحضر دائمًا عيوبها عند الحديث معها، فلا تدري أهو تذكيرٌ لها منه بنقصها أم محاولة شريفة للضغط عليها من أجل أن تبدع أكثر، فهي في النهاية تنتمي إلى مجال إبداعي مثله تماما. 

حب بشع

يطل الحب في فيلم «الذكرى - The Souvenir 2019» بصورته البشعة، حين يتمادى في إلغاء هوية المحب ليأنس بقرب الآخر، في خوفٍ مُستشرٍ من احتمالية اختفائه. وقد بدا ذلك جليًّا في شخصية أنتوني وفي طبيعة عمله الذي يقتضي تلاشيه لأوقات طويلة، ليعود بعدها بشكل مفاجئ فارضًا وجوده على حياة جولي التي ظنت أنها تجاوزته. حاولت أن تتخطاه مرارًا حين تجلت لها مساوئ شخصيته، إلا أن ذلك لم يعد كافيًا لوضع حد للعلاقة. حتى ذكرياتها معه ولم تسلم من التلاعب، تلاعب كان يتفنن فيه لغرض إضفاء تأكيدٍ على وجوبِ إكمال تلك العلاقة السامة، وإيهامِها بأنها علاقة ناجحة جدا.

كانت رحلتها إلى البندقية مثالًا واضحًا على تناقض الواقع مع الخيال. يخبرها في إحدى تعقيباتهِ: "لست متأكدًا هل الصدق دائمًا يكفي"، كأنَّه يبرِّر لنفسه عدم صدقه الدائم معها، من خلال التقليل من شأن الصدقِ ذاته. ثم يردف قائلًا: "يستخدم الناس هذه الكلمة كأنها غاية في حد ذاتها، بإمكاننا جميعًا أن نكون صادقين وأن نكون أصليين، ولكن من أجل ماذا كل هذا؟". 

ظلت جولي هائمة، تائهة، تتعقب أثرَ خطواته وظلال أفعاله حتى بعد أن اختفى في سكون محير. لقد لوَّث عقلها بما لا تقوى على تحمله. افتقدته على الرغم من محاولاتها الدائمة لتعداد مساوئه. ورغم أنها سعت إلى ملء ذلك الفراغ الذي أيقنت أنه يهبها الطمأنينة والراحة المرجوة، إلا أن ما وجدته بعد ذلك كان ضياعًا أقوى من تلك الطرق الضالة، التي لا تزال تحاول الخلاص منها. لعلها لعنة لا سبيل إلى الفكاك منها، معنونة بعبارة (الحب الأول)، في تشابه غير مقصود مع جولي في رواية روسو، وبطلة لوحة The Souvenir وما يتعلق بقصتها من غموض أخلاقي يشكك في سلامة ذلك الحب.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى