أرواح صامتة: النعي الروحي لروسيا

September 27, 2023

تميزت السينما الروسية المعاصرة بلغة بصرية أكثر مما هي سردية، ونشاهد ذلك بوضوح في مسيرة المخرج أليكسي فيدروشينكو شديدة الخصوصية والتميز، ليس لتفضيله السرد البصري وحسب، بل بسبب شغفه المستمر، حدّ المغامرة بسمعته السينمائية، في تجريب أساليبَ وأنواع جديدة في أفلامه، والتي دومًا ما تهيمن عليها التقاليد الشعبية، وافتتان دائم بالجماعات المنبوذة التي تتمسك بثقافتها على الرغم من كونها محاصرة، بالتركيز على دور هذه الثقافة التي تمكنت بطريقة ما من أن تظل فرقة مستقلّة – ثقافيًا ودينيًا – لعدة قرون من أجل إعادة (إنتاج) الذاكرة الثقافية والدينية.


في مجموع أفلام أليكسي فيدرتشينكو، يكاد يكون من المستحيل فصل الجانب الروحي عن السياسي في هذه اللغة التصويرية في النقد؛ كما هو الحال في اتحاد الجنس بالموت في فيلم "أرواح صامتة" (Silent Souls). تميل جميع هذه العناصر، في مجموع أفلامه، كما في داخل الفيلم الواحد، إلى مساندة بعضها بعضًا، وتكوين نظام متماسك من المعاني.

يرافق أيست (إيغور سيرجيف) – المصور الفوتوغرافي، وابن الشاعر الذي تُوفي «من شدة الحزن» بعد موت زوجته، مانعًا نفسه من الانتحار في النهر لأن "المريان" لا يؤمنون بالموت قبل الأوان – صديقَه وزميله في العمل ميرون (يوري تسوريلو) الذي تلقى خبر موت زوجته "تانيا". المريان، سكان غرب وسط روسيا، الذين ترجع أصولهم إلى فنلندا، يأتي في تقاليدهم أنه عندما تموت الزوجة، يطلب الزوج من أقرب أصدقائه الانضمام إليه في تشييعها. ينضم إليهما في الرحلة عصفوران صغيران تتوضح دلالتهما لاحقًا. ومن ثَمّ يتوجهان إلى مدينة لم يعد يتذكرها أحد، لإقامة مراسم حرق المتوفاة حديثًا ودفنها في البحر، فالماء يجرف الحزن بعيدًا، ويشرح صوت الراوي خصوصية الماء لدى شعب المريان: «الماء هو حلم كل شخص من المريان. الغرق يعني أن تختنق من الفرح والحنان والشوق». ولكن أحدًا لا يُغرق نفسه، فالبحر يختار أشخاصه بنفسه؛ الماء هو القاضي الأعظم.


تغمر الذكرى الزوج المفجوع عبر ممارسة تُسمى "الدخان"، حيث يتحدث بأكثر الطرائق الجنسية، من أجل تحويل الحزن إلى رقة، لنكتشف أن أيست صديقه بدوره هو أيضًا كان يحب تانيا، كما أن ميرون كان يعلم بذلك. تتيح هذه الرحلة، والحوار المعدوم بين الرجلين، اجتياح ذكريات ومشاعر وتأملات طويلة في الحب والفقدان والروح والحنين والتقاليد الشعبية، وتخدم الأغاني الشعبية المشاهد الصامتة التي تكون أكثر بلاغة من حوارات الأبطال.


إن فيلم "أرواح صامتة" هو قصيدة طويلة وحزينة في رثاء الفرد – "تانيا" – وروسيا المعاصرة، ففي أحد المشاهد، يستذكر فيدروشينكو مقولة بصوت الراوي نفسه: «قرأت منذ فترة طويلة أن الأمة تظل حية طالما تتذكر لغتها وتحافظ على تقاليدها». هذه الطقوس هي آخر ما يربط المريان بالحياة، حيث يقوم الفيلم على فكرة أن الفناء ليس إلا عبورًا مؤقتًا، وتحفظ هذه التقاليد المصير الفردي والمصير الجماعي على حدّ سواء. «إذا كان على ثقافة ما أن تنقرض فلندعها تنقرض إذن»، يقول أيست؛ فكل شيء قابل للزوال ما عدا الحب الذي لا يعرف الموت.

في طريق العودة، أثناء سيرهما بالسيارة على الجسر، يسأل صديقُه الطيورَ في القفص: «أيها الطائران، ما الخلود؟ هل تسمعانني؟» ويرد الآخر بأنهما يسمعان، فيشعر فجأة بالحزن والنقاء، وينتبه إلى أن الحزن لم يكن يضغط عليه، بل كان يلفّه مثل أم. لقد تطهّرت روحه، وبما أن الطائرين الحبيسين في القفص استعارة عن روحيهما، يتحرر الطائران – ميرون وأيست – من القفص، فتنحرف السيارة من أعلى الجسر إلى النهر – نهر مدينة نيا، مدينة البدايات – في المكان نفسه الذي نثرا فيه رفات تانيا حيث ستلتقي الأرواح.


منذ مطلع الألفية الجديدة، سيطر السحر والخرافة والأساطير على الحياة الاجتماعية والسياسية وكذلك على الإنتاج الثقافي الروسي. ومن جهة أخرى، أتاحت شبكة الإنترنت الروسية "رونيت" (Runet) التي لها شبكاتها الاجتماعية الخاصة بها، إضافة إلى عدد من محركات البحث ومواقع التدوين ومجموعة واسعة من التطبيقات، مرجعًا مهمًا للنقاش النقدي والإنتاج الثقافي والأيديولوجي البديل، بحيث لم يعد الخطاب مقيدًا عن طريق الحدود الجغرافية والسياسية كواحدة من السمات المميزة في الألفية الجديدة. يجد آلان باديو في استقصائه الفلسفي "ما الذي تفكر فيه القصيدة"، حقبة "بوتين" بوصفها لحظة انفصال وتمزق، على غرار التطورات المتعرجة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية الروسية.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، استفاد رواد الأعمال من البيع المتفشي للأصول المملوكة للدولة مثل معدات الأفلام والاستوديوهات ومخزون الأفلام، وتحررت صناعة الأفلام من الهيمنة المركزية للدولة. ومن جهة أخرى، أرخَت السلطة قبضتها على الإنتاج وأطُر التوزيع، فبحلول أواخر التسعينيات، «كان من الشائع أن تمتلك شركة أفلام وبنكًا ومصنع سباغيتي، وهو ما يعني عادةً أنهم استخدموا استوديو الأفلام الخاص بهم ليس لصنع سباغيتي، ولكن لغسل الأموال»، وفقا للناقد الروسي فلاد ستروكوف في كتابه "عن السينما الروسية المعاصرة" (Contemporary Russian Cinema: Symbols of a New Era). انعسكت هذه التحولات السياسية على السينما الروسية المعاصرة، التي تميزت بظهور جيل جديد من المخرجين الروس الأكثر تحررًا من الإملاءات السياسية للحكومة؛ حيث عكست أعمالهم سخطًا واضحًا على روسيا المعاصرة، بموت الدولة ونعي الروح وصراع الجيل الجديد. وأمام تهشيم صورة الدولة الإيجابية، اتجهت السلطة في العقد الأول من الألفية الثالثة إلى الترويج لنفسها في أفلام «الكوميديا الوطنية والكوميديا الرومانسية التي يحركها الحنين إلى الماضي»، بحسب فلاد ستروكوف. 

أظهر العديد من مخرجي الألفية الجديدة في روسيا تأثرًا واضحًا بأفلام أندريه تاركوفسكي، الفيلسوف الذي سكنت جميع أفلامه ثيمة الجذور: ارتباطات بمنزل العائلة، الطفولة، الوطن، العالم. ففي كتابه "النحت في الزمن"، يكشف عمق أزمة الإنسان في روسيا، ويحلل أسباب ومظاهر انحدار الروح، لكنه في أفلامه يذهب إلى معالجة هذه الإشكالات بتقديم الحب كمنقذ لأبطاله من جفاف العلاقات الإنسانية والروحية. ففي مشاهد فيلم "STALKER"، البطل يكابد لحظات من اليأس حين يتزعزع إيمانه…لكن في كل مرة يصل إلى إدراك متجدد لمهمته: أن يخدم أولئك الذين فقدوا آمالاهم وأوهامهم. ونجد في فيلم "Solaris" أفرادًا ضائعين في الكون؛ المنقذ الوحيد لهم يكمن في الأحلام، في فرصة التعرف على جذورهم الخاصة، لكن تلك الروابط قد أصبحت غير حقيقية بالنسبة إليهم، كما قدَّم فيلم "The Sacrifice"، وهو الفيلم المعني أساسًا بالحب حتى التضحية؛ ومثال آخر في فيلم "Mirror"، حيث نجد البطل رجلًا ضعيفًا، أنانيًا، غير قادر على أن يحب حتى أولئك الأقرب والأعز إلى نفسه، الذين لا يتطلعون إلى شيء مقابل الحب، ولهذا السبب يشعر بعذاب النفس في أيامه الأخيرة، حيث يدرك أنه لا يملك أي وسيلة لإيفاء الدَين الذي يدين به للحياة، فنجده يدحض دومًا بالحب التوكيد الفظ والمتبلد بأنه ليس ثمة أمل للعالم.

يظهر تأثير هذا الاتجاه الروحي في فيلمي أندريه زفياغنسيف "Loveless" و "The Return"، كما في فيلم "Me Too" لأليكسي بالابانوف، بالإضافة إلى عديد من المخرجين الجدد الذين ظلوا مخلصين لمنحى أستاذهم تاركوفسكي. ولكن عوضًا عن التنديد بالتقدم المادي وانحدار الروح، حملت أفلام السينمائيين الجدد طابعًا اجتماعيًا وسياسًا أكثر حِدة، إذ تعكس الصراعاتُ الداخلية في أعمالهم اضطراباتٍ خارجية، ففي الموت الروحي يكمن الاحتضار الاجتماعي والسياسي. حتى الأفلام التي تتجنب الإشارة إلى هذه العلاقة الوثيقة بالرمز أو الاستعارة أو المباشرة، تنتهي باغتراب الإنسان عن نفسه، فنجد عودة بالابانوف الجريئة في استجوابه السينمائي الصادم في فيلم "Cargo 200"، وتجربة بوريس كليبنيكوف في فيلم "A Long and Happy Life"، وزفياغنسيف في "Leviathan" وأليكسي فيدرتشينكو في "Angel of Revolution" و"Celestial Wives of the Meadow Mari"، وفيلمنا هذا عن الأرواح الصامتة.

يسمح النعي الروحي، في السينما الروسية، للعواطف بالتعبير عن نفسها في الاضطرابات الاجتماعية والأزمات الفردية. وتخضع هذه العواطف لعدد من التساؤلات التي تؤمّن لها التعبير الجمالي وتُكسبها طابعًا طقسيًا. وربما لهذا السبب يستخدم راوي فيلم "أرواح صامتة" تقنية الصوت في الخلفية، حيث تُروى المشاعر عبر صوت داخلي، لأن الأثر الذي يتركه الموت على شكل فجيعة في هذه الأرواح الصامتة يمنع الراوي من الحوار، بحيث أنه إذا تكلم سنجده يريد شيئًا آخر غير ما يقول، لأن الألم أبكم، والفقد يُخرس جميع الأعضاء، ولكن تبقى هذه اللغة عاجزة عن التسمية، والتواصل، وهكذا نشعر بوطأة موت الروح.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى