لا يقتصر دور الممثِّل على تفسير نص السيناريو وتحويله إلى الشاشة، بل يجسِّده في الواقع ليصبح جزءًا منه منقلبًا إلى وسيطٍ مختلف، تاركًا وراءه أثرًا من نفسه ووجدانه. قد يكون النهج الذي سعى من خلاله دي نيرو إلى تحقيق هذا الهدف ارتجاليًا أحيانًا، لكنه لم ينطو على أيِّ عشوائيَّة. كان دي نيرو ممثِّلًا ينتمي إلى زمرةٍ خاصَّةٍ ونادرة، جمع بين القدرة على التقمُّص والتماهي مع شخصيَّاته في صورةٍ يتلاشى فيها الحدُّ الفاصل بين الممثِّل والشخصيَّة، وبين القدرة على التحوُّل في الأداء والتنقُّل بين شخصيَّاتٍ مختلفةٍ تمامًا، بالبراعة والمهارة ذاتها. كان مغامرًا من طرازٍ خاص، ينغمسُ في أدواره إلى أقصى حدٍّ منتهجًا أسلوب التمثيل المنهجي، تحيطه هالةً تشعُّ غموضًا ورهبةً وجرأةً وكثافة، فكان بالنسبة للمتأمِّلين في أدائه خليفةً لبراندو وجيمس دين، وهو لا يزال في بدايةِ الطريق.
لم تأت مسيرته اللاحقة لتؤكِّد تفرُّده، فقد كان الأمر حاسمًا منذ أفلامه الأولى مع سكورسيزي وكوبولا ومنذ أولى جوائز الأوسكار التي حظي بها، وإنَّما جاءت أعماله اللاحقة لترسِّخ وتؤسِّس لفنِّ التمثيل نفسه، مَنظورًا إليه من زاوية دي نيرو، هذا المعلم الكبير، الذي لم تنجح حتى أداءاته الضعيفة في أن تنقِص من وهجه، وكانت - بين أعماله المضيئة - أقرب إلى مساحةٍ للتجريب وكسرِ النمط، ومحاولةٍ للنظر والتعاطي مع المفاهيم السائدة حول التمثيل من زاويةٍ أخرى، فكان خروجه عن المألوف جرأةً تشهدُ له بوصفه أيقونةَ العصرِ الأكثر تأثيرًا.
١- صعود عملاق السينما: البدايات والاعتراف المبكر
في أمسيةٍ صيفيَّةٍ هادئة، كان دي نيرو منغمسًا في خيالاته، متتبِّعًا حركات وإيماءات ممثِّلين يؤدون أدوارًا أقرب إلى الأداءات المسرحيَّة على شاشة التلفاز، حينها خطرت في ذهنه فكرةً كانت كفيلةً بأن تحدِّد مصير حياته كلها، فأمام الأداءات التي بدت رديئةً في نظره، تساءل الفتى ذو السادسة عشرة من عمره عن ماذا لو كان هو مكان هؤلاء؟
بالعودة إلى الساحة التمثيليَّة التي عاصرها روبرت في بداياته أوائل الستينيات، نرى ظهورًا لنوع من المدارس في التمثيل التي أصبحت أشبه بتقليد، ولعبت دورًا مرجعيًّا بالنسبة لفناني العصر، فبرز "أستوديو الممثلين" بقيادة لي ستراسبرغ، الذي أسَّس لمقاربةٍ في الأداء عُرفت بالتمثيل المنهجي، وهي درجةٌ من التماهي مع الشخصيَّة يعيش فيها الممثل كما لو كان هو الشخصيَّة ذاتها، إذ تتلاشى الحدود بين التمثيل والواقع، ويستمر هذا التماهي خارج أوقات التمثيل ليتسيَّد الحياة نفسها، فنرى ممثِّلين يعرضون أنفسهم لظروفٍ معيَّنة وأحيانًا قاسية لفهم واستيعاب الألم الذي تحمله الشخصيَّة. لكنَّها مقاربةٌ تمَّ النظر إليها على أنَّها تنطوي على قدرٍ من المبالغة يمكن تفاديه لصالح تحقيق تمثيلٍ رفيعٍ نابعٍ من جوهر التمثيل نفسه. لذا ظهرت على النقيض منها مقاربةٌ أخرى كانت رائدَتها الأبرز ستيلا أدلر، وهي مدرسة تخرَّج منها نجومٌ كبار على غرار مارلون براندو. هذه المدرسةُ تقوم على فكرة أنَّ الممثِّل لا يتجسَّد في الشخصيَّة، وإنَّما يمثِّلها على خشبة المسرح أو السينما من خلال أفعال النص والسيناريو، وقدَّمت ستيلا أعمق وأدق القراءات للنصوص التي تحكمُ أداء الممثل. في هذه الفترة، ومثل كثيرٍ من الممثِّلين، مرَّ روبرت دي نيرو على هذه المدارس كلها، فكانت هذه المدارس التي تبدو على طرفي النقيض هي ما شكَّل الصقل والتكوين الأول في مسيرته الفنيَّة، فلم يسعَ إلى التمسُّك بواحدةٍ على حساب أخرى، إنَّما وجد في هذين القطبين المتناقضين مساحةً كبيرةً للتجريب والابتكار تجلَّت في أداءاته المسرحيَّة والسينمائيَّة اللاحقة.
متأثِّرًا بثلَّةٍ من الممثِّلين الكبار، أمثال مارلون براندو، جيمس دين ومونتغومري كليفت، انطلق روبرت دي نيرو المراهق، بعزمٍ وبشغفٍ كبيرين، في طريقٍ حافلٍ بالصعوبات التي لم يكن يتهيَّب خوضها من أجل احتراف التمثيل والأداء المسرحي والسينمائي على حدٍّ سواء. وما بين الخيال الذي أعلت ستيلا من قيمته أثناء عمليَّة قراءة النص المتبصِّرة لتجسيده على المسرح، وبين الانغماس في الدور والحدس الذي انطلق منه ستراسبرغ، كان دي نيرو يجدُ منطقًا وميلًا كبيرًا إلى النهج الأخير، لأنَّ التمثيل من هذا المنظور كان بالنسبة له يحدثُ دون تفكير، حيث كانت نصيحته للممثلين الشباب: «ليس لديك ما تخسره، لذا اجعل الأمر شخصيًا قدر الإمكان»، فعندَ كلِّ اختبار أداءٍ يواجه الممثِّل احتمال الرفض، حيث لا يحوزُ على شيءٍ سوى تفرُّده الخاص نفسه. وكما يقول دي نيرو: «فقط اتبع غرائزك حتى لو كنتَ تعلمُ أنَّك ستفشل، لأنَّك إذا لم تخاطر، فمن المحتمل أنَّك لن تترك أثرًا ولن تولِّد انطباعًا أبدًا».
وإذا كان المسرح هو أوَّل فضاءٍ خطَّ فيه روبرت أولى خطواته وتألَّق فيه، فإنَّ السينما كانت شغله الشاغل منذ البداية، ولم يكن يدَّخر جهدًا في اقتناص الفرص في إختبارات الأداء التي انتهت بظفرهِ بأدوارٍ سينمائيَّةٍ فتحت له بابًا واسعًا نحو السينما. وقد كان براين دي بالما من أوائل المخرجين الذين لمحوا في دي نيرو سمة الممثِّل المتمكِّن القادر على نقل التمثيل إلى مستوياتٍ عليا. ورغم أن أفلام بالما مثل «ترحيبات» (Greetings - 1968) و «مرحبًا أمِّي» (hi, mom! - 1970) التي مثل فيها دي نيرو لم تكن الأكثر نجاحًا، إلا أنَّها ألقت الضوء عليه بوصفه ممثِّلًا قادرًا على جذب الأنظار وإعطاء روح وزخم للشخصيَّات، حيث كان القاسم المشترك بين المقالات النقديَّة المتعدِّدة التي تناولت هذه الأفلام هو الإشارةُ إلى الأداء التمثيلي لدي نيرو والإشادة به، رغم تقييماتها المتباينة للأفلام.
عام 1972، كان روبرت دي نيرو وسكورسيزي على موعد مع لقاء سيكون اللقاء الأبرز الذي سيظلان مدينين له طوال حياتهما. وسيكون فيلم «شوارع متوسِّطة» (Mean Streets - 1973) - بوصفه أوَّل تعاونٍ لهما - ثمرةً لهذا اللقاء التاريخي. وقد حظي الفيلم بإشاداتٍ نقديَّةٍ واسعة، وكان أوَّل نجاحٍ نقديٍّ وتجاريٍّ في مسيرة سكورسيزي، وأحد أبرز الأداءات التي قدمها دي نيرو في مسيرته.
عرض فيلم «شوارع متوسِّطة» لأوَّل مرَّةٍ في مهرجان كان السينمائي، وقد قالت بولين كايل عن دي نيرو: «ممثِّلٌ استعراضيٌّ مدهش…هذا الشاب لا يمثِّل فقط، بل ينطلقُ إلى فضاءاتٍ متسامية»، وكانت له أصداء فنيَّة كبيرة، وهالةٌ من الجاذبيَّة جعلت كوبولا يمنح دورًا مهمًّا لدي نيرو في الجزء الثاني من رائعته «العرَّاب» (The Godfather 2 - 1974)، وبحسب ما يتذكَّره سكورسيزي الذي عرض أمامه الفيلم، كانت استجابة كوبولا فوريَّة: «ما إن رأى ما فعله دي نيرو بشخصيَّة جوني بوي حتى قال فورًا: "سأضعه في الجزء الثاني من العرَّاب"». وما أن تلقَّى روبرت دي نيرو هذا الدور الذي سيصبُح أحد أيقونات السينما الخالدة، حتى انطلق في أبحاثه من جديدٍ وسعى إلى فهم شخصيَّة فيتو كورليوني الشاب، من خلال دراسة أداء وشخصيَّة كورليوني "البالغ" التي أداها مارلون براندو في الجزء الأول.
لقد أدرك كوبولا أنَّه يكلف دي نيرو بمهمَّةٍ ضخمة، فقد صرَّح للصحافة قائلًا: «المهمَّة الملقاة على عاتق دي نيرو صعبةٌ جدًّا، إذ عليه أن يتحوَّل إلى شخصيَّةٍ مشهورةٍ جدًّا أداها أحد أشهر الممثِّلين في العالم قبله، ونال عليها تقديرًا هائلًا، وأن تكون لديه الجرأة لتأديتها في مرحلة الشباب، أن يستحضر الشخصيَّة من دون تقليدها، وفوق كلِّ ذلك، أن يؤديها كلها باللغة الصقليَّة التي لا يتحدَّثها». غير أنَّ دي نيرو قبِلَ التحدِّي وسعى إلى صقلِ الشخصية داخله بشغفٍ ودقَّةٍ وبراعةٍ هائلين، ابتداءًا من إيماءات الجسد وتعبيرات الوجه، وصولًا إلى السمات النفسيَّة والسلوكيَّة الأبرز وإتقان اللهجة الصقليَّة، فقد كان عليه أن يأخذ شخصيَّة كورليوني التي بُنيت مسبقًا، ويتنبأ بما يمكن أن يكون عليه شكلها قبل عقود. وبعد سنتين من حصول مارلون براندو على جائزة الأوسكار عن دوره في شخصيَّة فيتو كورليوني، يتوَّج دي نيرو بأوسكاره الأول عن أداء الشخصيَّة نفسها، وكان هذا حدثا من أندر الأحداث في تاريخ السينما، وهو أن يحظى ممثِّلان بنفس الجائزة عن أدائهما لنفسِ الشخصيَّة. وكان هذا التتويج هو المحطة الأهم في تاريخ دي نيرو التي ستسفر عن أعمال كثيرةٍ خالدةٍ تعيد رسمَ تاريخ السينما الأمريكيَّة.
٢- التقاء الأسطورتين : تحالفٌ شكَّل تاريخ السينما
إلى جانب الطفرة الفنيَّة في الأداء التي كانت تبرزُ كلَّ مرَّةٍ لدى دي نيرو، فإن سكورسيزي كان جزءًا من جيلٍ جديدٍ من السينمائيَّين الذين اقتحموا صناعة السينما في أواخر الستينيَّات وبداية السبعينيَّات. هؤلاء الذين درسوا في أولى المدارس السينمائيَّة ونهلوا من فيض وجماليَّات الأفلام التي دخلت بيوت الأميركيين عبر شاشات التلفزيون، فصقلوا مواهبهم على ضوءِ ما كان قبلهم. لكنَّهم سرعان ما تميَّزوا على الجيل الأول، فكسروا بجرأةٍ قواعد نظام الأستوديو التي كانت تحكم الصناعة، وأعادوا تعريف السينما وكتابة قواعدها بما يتناسبُ مع التغيُّرات الكبيرة التي كان يشهدها العصر، فخطوا فصلًا جديدًا في تاريخ السينما الأمريكيَّة.
لقد أسفر التعاون بين سكورسيزي ودي نيرو عن واحدٍ من أعظم الأفلام التي شكَّلت تاريخ السينما الأمريكيَّة، ورغم أنَّ تحديد فيلم على أنَّه عظيمٌ يتجاوز معيار حجم الإيرادات وعدد الجوائز، ليشمل البعد الفنيَّ والجماليَّ والتلقي النقدي والتأثير الكبير الذي أحدثه على السينما وإعادة تعريف التمثيل ومفهوم الأداء، فإن التعاون بينهما استطاع تحقيق جزءٍ كبيرٍ من هذه المعادلة الصعبة للنجاحِ الفنِّي والسينمائي.
كانت البداية مع فيلم «شوارع متوسِّطة»، الذي لعب فيه دي نيرو دور جوني بوي رجل المافيا المندفع، المتمرد، المقامر، الذي لا يعرف معنى للخوف، ويغوص من خلال سلوكه في عمليَّة تدميرٍ ذاتي. كان الفيلم أشبه بمفاجأةٍ غير متوقَّعة، وقد أحدث جلبةً في الأوساط النقديَّة، وبث حماسًا نادرًا لدى النقَّاد لاستكشافه. فقد صرَّحت بولين كايل في مراجعتها الشهيرة في مجلة The New Yorker: «هذا الفيلم أصليٌّ للغاية، لدرجة أنَّ المشاهد سيصابُ بقدرٍ كبيرٍ من الذهول»، أما بول زيمرمان فقد ذكر أنَّ «شخصيَّة جوني بوي، كما جسَّدها روبرت دي نيرو بجمالٍ في كلِّ اندفاعه التدميري، هي محاكاةٌ ساخرةٌ لرجل المافيا المتأنِّق». كما كان الفيلم محطَّةً حاسمةً في تاريخ دي نيرو وسكورسيزي حيث نقلهما من مرتبة الفنان "الواعد" إلى مرتبة "أبرز فناني الجيل" من الشباب، وأصبحت قدرة تجسيدِ شخصيَّات متناقضةٍ وقريبةٍ من الحقيقة علامةً فارقةً في توصيف أداء دي نيرو.
بعد ثلاث سنوات، يضرب لنا هذا التحالف بين دي نيرو وسكورسيزي موعدًا مع فيلمٍ سيتحوَّل إلى ظاهرةٍ سينمائيَّة، وأيقونةٍ فنيَّةٍ هي الأبرز خلال الألفيَّة الأولى. يقدم فيه دي نيرو أحد الشخصيات التي سيخلِّدها التاريخ، وسيتعرَّف الوسط السينمائي من خلالها على مفهومٍ مختلفٍ للتمثيل ومستوى نادرٍ سيقدِّم فيه دي نيرو أعظم تجسيد لـ "التمثيل المنهجي"، مقدمًا فصلًا جديدًا في فهم الأداء والتمثيل. جاء فيلم «سائق التاكسي» (Taxi Driver - 1976) بوصفه عبقريَّةً صافيةً تتكشَّف على الشاشة، محطِّمًا كلَّ الأرقام القياسيَّة عند عرضه في السينما، وتلقى إشادةً نقديَّةً كبيرةً حيث قال عنه الناقد جاك كرول: «من البداية حتى النهاية، ينتمي «سائق التاكسي» إلى روبرت دي نيرو، أكثر الممثِّلين الشباب تميُّزًا على الشاشة الأمريكيَّة. في جوهره، يدور الفيلم حول رقصةٍ باذخةٍ ومروِّعةٍ بين ترافيس والمدينة، ودي نيرو يمتلك تلك الجودة الحركيَّة التي تميِّز كبار ممثِّلي السينما، التي تتأرجحُ بين خفَّة جيمس كاجني وبطء براندو. إنَّه يضبط جسده كتمثالٍ متحرِّك». حصل الفيلم على السعفة الذهبية في مهرجان كان، ورُشِّح إلى أربع جوائز أوسكار.
توالت الأفلام التي جمعت بينهما ورسمت صورًا متفرِّدةً جمعت بين الإخراج الساحر والأداء المصقول بعناية، الذي تفرَّد به دي نيرو. انطلاقًا من فيلم «الثور الهائج» (Raging Bull - 1980)، الذي كان أحد أعظم أفلام الملاكمة، قدَّم فيه دي نيرو أجمل أداءاته التي كشفت عن فهمٍ عميقٍ لتعقيدات شخصيَّة جيك لاموتا وأبعادها النفسية، في صورةٍ أخرى من صور الأداء الساحر وصقل الشخصيَّة المبني على أسلوب التمثيل المنهجي، فنال عنه جائزة أوسكار ثانية، مرورا بفيلم «الأصدقاء الطيبون» (GoodFellas - 1990)، الذي يتناول حياة رجل العصابات هنري هيل، مقدِّمًا رؤيةً أسلوبيَّةً متفرِّدةً حول المافيا الإيطاليَّة، في صورةٍ نابضةٍ بحيويَّة الرجال المنشقين، بلغت مستوى فنيًّا كبيرًا في الأداء. إلى جانب «كازينو» (Casino - 1995) هذا التعاون الثامن بين سكورسيزي ودي نيرو، الذي اعتبر ملحمةً إجراميَّةً متفرِّدة، وصدر في توقيتٍ متزامنٍ مع فيلمٍ آخر لدي نيرو هو «حرارة» (Heat - 1995) من إخراج مايكل مان، فمثَّل هذا الحدثُ تجسيدًا قويًّا للزخم الباهر الذي ينطوي عليه أداء دي نيرو وعبقريَّته في بناء شخصيَّاتٍ مختلفةٍ وقويَّةٍ في وقتٍ متزامن.
يُختَتم هذا الخط المضيء من الأعمال المشتركة بينهما بكلٍّ من فيلم «الأيرلندي» (The Irishman - 2019) الذي حقَّق معادلةً ناجحةً جمعت بين الأداءِ الساحر لكلٍّ من دي نيرو وآل باتشينو والإخراج المتفرد لسكورسيزي، ليجعل منها قصَّةً بديعةً تنجح في رصدِ ما هو إنسانيٌّ في قلب عالم المافيا؛ إلى جانب فيلم «قتلة زهرة القمر» (Killers of the Flower Moon - 2023) وهو عاشرُ تعاونٍ يجمع بين الأسطورتين، حيث قدَّم دي نيرو فيها أكثر أداءاته نضجًا في سنِّه المتقدِّم.
استمرَّ التأثير المتبادل قائمًا بينهما خلال هذه العقود من العمل المشترك، رغمَ أنَّ فترة الثمانينيات شهدت نوعًا مختلفًا من التأثير العكسي، أي تأثير الممثِّل على المخرج، فقد رسَّخ دي نيرو نمط الممثِّل المؤلف في أدائه التمثيلي على المستوى الشكلي والموضوعي. ويمكننا أن نبصر بوضوح، خلال هذه المسيرة الحافلة، الرؤية الإبداعيَّة لروبرت دي نيرو من خلال اختياراته للأدوار، وبحثه المعمَّق في خلفيَّة الشخصيَّات التي يؤدِّيها، واستعداده لتغيير مظهره الجسدي بما يخدم الشخصيَّة، ومساهماته الارتجاليَّة في الحوارات، واستمراره في تجسيد شخصيَّاتٍ تعكسُ تأمُّلًا نقديًّا في البُنى الاجتماعيَّة للرجولة والذكورة وما تنطوي عليه من حساسيَّة وما تتطلَّبه من فهمٍ عميق.
٣- مسيرةٌ مشرقةٌ وسجلُّ جوائز مذهلٌ لممثِّلٍ عظيم
استطاع روبرت دي نيرو أن يقدِّم مسيرةً حافلةً تنوعت فيها أداءاته لتصبح أشبه بدرسٍ متكاملٍ في فنِّ التمثيل، يقدمه دي نيرو إلى جيلٍ من الممثِّلين يشهدون عصرًا سريع التحوُّل. وفي انغماسه وتماهيه مع أدواره، كانت تتكشَّف فلسفةً خاصَّةً صقلها دي نيرو طيلة مسيرته الحافلة، حيث يتحوَّل فيها الممثِّل إلى صانعٍ ومؤلِّفٍ إلى جانب المخرج ولا يقلُّ أهميَّةً عنه، من خلال أبحاثه المعمَّقة حول شخصيَّاته يقدِّم فهمًا وإحاطةً واسعةً تتجاوزُ النصَّ لتغوص في أعماق الشعور والإحساس والبعد النفسي. وعلى مدار عقودٍ ابتكر عددا من الشخصيَّات الأيقونيَّة التي تنطوي على حضورٍ قويٍّ وحيويَّةٍ وحِدَّةٍ كبيرة، تتأرجحُ بين التوهُّج الجذاب والعتمة المنفِّرة، أصبحت مرجعًا ومثالًا تنسج حوله المقاربات والتحليلات.
عبر مسيرةٍ شملت ما يزيد عن 95 فيلمًا، تلقَّى خلالها دي نيرو احتفاءًا نقديًّا متكرِّرًا وجوائزَ كثيرةً عكست حجم الإنجاز الكبير الذي طبع مسيرته. فحصل على الأوسكار عن أدائه الأيقوني في الجزء الثاني من فيلم «العراب» وأوسكار أخرى، إلى جانب جائزة غولدن غلوب عن دوره المتفرد في فيلم «الثور الهائج» الذي جسَّد من خلاله تفانيًا كبيرًا وتكريسًا عكس شغفًا استثنائيًا بالتمثيل. ومن الأسد الذهبي الفخري في مهرجان البندقيَّة وصولًا إلى السعفة الذهبيَّة الفخرية في كان 2025، يأتي هذا التتويج ليدلَّ على التزامٍ كبيرٍ وشغفٍ بالسينما، ونظرةٍ رؤيويَّةٍ شقَّت الطريق لأجيال بعده، أعاد من خلالها تعريف التمثيل في السينما ونقله إلى مستوى مختلف في الطرح والتناول.
يأتي مهرجان كان السينمائي في دورته الـ78 ليعيدنا إلى بدايات روبرت دي نيرو، وإلى تلك الأفلام التي قدَّم فيها أداءاتٍ أيقونيَّةً حضرت في هذا المهرجان قبل عقود. فقد ترشَّح فيلم «شوارع متوسِّطة» لنيل السعفة الذهبيَّة، وتبعه فيلم «سائق التاكسي» الذي فاز بها، في زمنٍ كان فيه دي نيرو يكشف للعالم، للمرَّة الأولى، عن وجهٍ آخر للممثل، وشكلٍ مختلفٍ للأداء التمثيلي، تجاوز من خلاله أساتذته ومُلهميه، ليبلغ أفقًا جديدًا لم يُستكشف بعد، تلوح فيه ملامح الاغتراب والضياع في أعين هذا النيويوركي الأصيل، وفي حركاته العفويَّة وإيماءاته لا نرى تمثيلًا ولا فعلًا مصطنعًا، وإنَّما ألمًا حقيقيًّا وروحًا معذَّبةً تعيشُ الضياع، وفهمًا عميقًا ينقله لنا عبر تجربةِ المشاهدة.
