«آخر سهرة في طريق ر»: سكَّةٌ طويلةٌ والبراري قِفار

في «آخر سهرة في طريق ر» (2024)، لا نجدُ أنفسنا أمامَ فيلمٍ تقليديٍّ يسرد حكايةً ذات بدايةٍ ونهاية، بل أمام مرآةٍ تعكسُ كيان شريحةٍ كادحةٍ مضطربة لم تملك في يوم من الأيام صوتًا مسموعًا. يتَّخذُ الفيلم، وهو العمل الأحدث للمخرج السعودي محمود صباغ، من فرقةٍ موسيقيَّةٍ شعبيَّةٍ مهزوزةٍ محورًا لحكايةٍ عن التآكل البطيء للهوية، وعن هشاشة الإنسان العادي في مواجهة التغيُّرات المفروضة عليه، والتي كثيرًا ما يتلبَّسها وهم التقدُّم. في زمنٍ تشهد فيه السينما السعوديَّة تحوُّلاتٍ لافتة، يطلُّ علينا المخرج صباغ ليقدِّم تجربةً سينمائيَّةً استثنائيَّةً تمزج بين الواقعيَّة الجريئة والحس الإنساني العميق. ودون أن يكتفي بقصِّ قصَّةٍ معيَّنة، يفتحُ الفيلم نافذةً واسعةً على زوايا المجتمع التي غالبًا ما تُركن في الظل، ويُقدمها بصدقٍ لا يخلو من الألم، وبسخريةٍ لا تخفي مرارته.

تدور أحداث الفيلم عن محاولاتِ فرقةٍ شعبيَّةٍ مواكبةَ استمراريَّة ممارسةِ نشاطهم الغنائي مع تقدُّم المشهد الموسيقيِّ في المملكة، حيث ترافقُ الكاميرا فرقةً شعبيَّةً متخصِّصةً في إحياء السهرات الخاصة يتنقَّل أبطالها من حفلة إلى أخرى، وهذا التنقُّل لا يأتي رغبةً في الغناء فحسب، فأولويَّة أفراد هذه الفرقة هي البقاء والإستمراريَّة. تمثِّل هذه الفرقة شريحةً من الأشخاص الذين يعيشون على هامش الضوء، يتصارعون مع تغيُّراتٍ اجتماعيَّةٍ متسارعة، يحاولون فيها النجاة باسم الفنِّ الذي باسمه أيضًا يُنسون. لا يروّج «آخر سهرة في طريق ر» للماضي ولا يهاجم الحاضر، لكنه يُعرِّي التناقضات ويضعها أمام المُشاهد دون تزييف، وهذا ما يُشعرُ الأخير شعور الجالسِ في المقعد الخلفيِّ لسيَّارةٍ تنقل هؤلاء البشر من ليلةٍ لأخرى، محمَّلين بالأحلام، بالندم والقلق من أن تكون هذه السهرة هي الأخيرة.

الفرقة كرمز طبقي

تشكّل هذه الفرقة التي ترافقنا على مدار الفيلم صورةً مصغَّرةً لمجتمعٍ سعوديٍّ عائدٍ إلى ما قبل فترة الانفتاح السريع، مجتمعٌ ما يزالُ عالقًا بين حنينٍ غامضٍ لما قبل النفط الثقافي، وبين حاضرٍ يتعاملُ مع الإنسان كمجرَّد مؤدٍّ وظيفيٍّ استعراضيٍّ داخل آلة ترفيهٍ ضخمة. هذا وتقدَّمُ شخصيَّة «أبو معجب»، التي جسدها عبدالله البراق بأداءٍ داخليٍّ شديد الهدوءِ والجديَّة، على أنَّها امتدادٌ لجيلٍ رأى في الفنِّ الشعبي وظيفةً اجتماعيَّةً وجدانيَّةً لا تصبو إلى الماديَّات. إنَّه صوتٌ مبحوحٌ خرج من المقاهي والأزقة، يحمل صداه ولا يجدُ من يصغي له. إنَّه رجلٌ يعي تمامًا أنَّه منقرض، لكنَّه لا يغادر خشبة المسرح. أما فيما يتعلَّقُ بشخصيَّة «كولا»، فقد تجلَّى تجسيدها من قِبل مروة سالم كاستعارةٍ جريئةٍ للمرأة المهمَّشة التي تتعلم استغلال الهامش نفسَه كسلاح، حتى وإن كان ذلك ضد ذاتها. لم يكن حضورها استعراضيًّا، فقد كان مشبعًا بالتعب: تعبُ أن تكون امرأةً وفنَّانةً ومقاوِمةً في آنٍ واحد.

الخطاب المضمر، و الجرأة في الطرح

بعيدًا عن السطح الظاهر من حفلاتٍ ومقاطع موسيقيَّة، يُخفي الفيلم خطابًا فلسفيًّا متماسكًا حول الانهيار الداخلي للفرد العادي في مواجهة موجات التجديد: تظهرُ شخصيات غارقةً في المخدِّرات، في العلاقات العابرة وحتى محاولات الانتحار، وهذا لا يعودُ إلى هشاشةٍ في كينونتها أو سوءٍ في الأخلاقيَّات، بل تكمنُ المعضلة ببساطةٍ في إفراغها من المعنى. وهكذا فإنَّ هؤلاء الذين نراهم هم أشخاصٌ بلا مستقبلٍ واضح، بلا مرجعيَّةٍ أخلاقيَّةٍ ثابتةٍ وبلا ذاكرةٍ مدعومةٍ من المجتمع، ولم يأتِ عملُ المخرج قاصدًا إدانتهم لأنَّه يقدِّمهم بصورتهم الحقيقيَّة، وهو ما يسمو بالمصداقيَّة إلى الدرجات الأعلى. يُستنتجُ من ذلك أنَّ العملَ لم يأتِ محمَّلًا برسالةٍ وعظيَّةٍ ولم يسعَ إلى تنميقِ صورةِ أيِّ أحد، فهو مرآةٌ مشروخةٌ لمجتمعٍ يعيش انقسامه دون أن يعترف بذلك. 

ختام السهرة

لا يبحثُ فيلم «آخر سهرة في طريق ر» عن مدريحٍ وإطراء وليست الغاية منه هي نيل رضى أحدٍ ما، بل ويذهبُ بعيدًا بعدم طلبِ شيٍ من المشاهد سوى الإصغاء جيدًا، والفهم ببطءٍ والشعور بصدق. إنَّهُ عمل يذكِّرنا بأنَّ السينما موقفٌ قبل أن تكون صورة.

لئن كانت هذه السهرة هي «الأخيرة»، فما تحمله بداخلها يمثِّلُ صرخةً أولى: في وقتٍ نحتاج فيه إلى سينما تقول شيئًا حقيقيًّا بعيدًا عن الزينة والسرد المسطَّح، يأتي هذا الفيلم كدليل على أن السينما السعودية بدأت تنضج، وتُخاطر، وتكتب بلغتها الخاصة. وأكثرُ ما يُشاد به هو جرأته في الطرح، وقدرة «محمود صباغ» على نقل مشاعر المهمَّشين إلى الشاشة دون خذلانٍ أو استغلالٍ لهم. إنَّه فيلمٌ عن الإنسان حين يُترَك وحده في أقصى الهامش، في آخر سهرةٍ على طريقٍ لا أحد يعرفُ نهايته.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى