حين تَفتتحُ فيلمك بلقب «أعلى فيلم مبيعًا في تاريخ شبَّاك التذاكر السعودي»، متجاوزًا 900 ألف تذكرة، فأنتَ لا تعرضُ فيلمًا فحسب، بل تعرضُ وعدًا لصناعةٍ بأكملها، وتجعلُ كلَّ مشهدٍ تحت عدسةٍ فاحصةٍ لا تغفلُ عن شبَّاك التذاكر ولا عن جماليَّات الفيلم.
يدخلُ فيلم «الزرفة» (2025)، ثاني أفلام «أفلام الشميسي» بعد «سطّار، عودة المخمّس الأسطوري» (2022)، الساحة بروحِ الواثق من السوق، راغبًا في تكرار المعادلة، لا بصفته تجربةً سينمائيَّةً منفردة، بل كمنتجٍ يختبر السوق الذي وُعِد بأن السينما ستكون جزءًا من يومه، كما أُريد لها أن تكون جزءًا من رؤية 2030.
الحكاية
يحكي «الزرفة» حكاية ثلاثة شبَّانٍ يعملون في مطعمٍ تابع لـ«الهنهوني القابضة»، قبل أن يجدوا أنفسهم في مهمَّةٍ لسرقةِ قطعةٍ أثريَّةٍ من متحف رئيسهم الثري، في حبكةٍ تجمع بين الكوميديا والحركة، تكسوها طبقاتٌ من النقد الاجتماعيِّ الخفيف، لكن ضمن قالبٍ تجاريٍّ لا يُخفي نواياه.
التموضع في السوق
تاريخيًّا، جاهد صنَّاع الأفلام السعوديُّون من أجل الحريَّة التنفيذيَّة، وبعد أن صارت السينما جزءًا من المشهدِ الرسمي، وجدنا أنفسنا أمام أعمالٍ "مثل الزرف"، تسعى لحجز مكانٍ لها في السوق عبر ترفيهٍ يُباع ويُشترى، في مشهدٍ لا يخلو من الدهشة: كيف صار النقاش حول «كم باع الفيلم؟» سابقًا على سؤال «عمَّ يتحدَّث الفيلم؟».
أداء الممثِّلين
جاء «روبرت نيبر» في ظهورٍ خاصٍّ كأنَّه محلُّ انتقامٍ ثقافي، إذ بدا مشهد شربه حليب النياق بجديَّةٍ مفرطةٍ كصفعةٍ مرحةٍ على وجه هوليوود وصورها النمطيَّة عن الصحراء، وإن لم يخلُ في الوقت نفسه من كونه جزءًا من استراتيجيَّة التسويق بصدمة الثقافة. كما شاهدنا في الفيلم تواجد شخصيَّات ممثِّلين حقيقيَّة مثل «أحمد أمين»، «محمد الدوخي» ضمن تجارب أداء «فيلم الهنهوني» داخل الفيلم، غير أنَّ عدم تواجد اسمٍ محدَّدٍ له كشخصيَّةٍ داخل الفيلم يضعنا في موقفٍ من الحيرة حيال موقعه الدراميِّ الحقيقي.
وعلى الجانب الآخر، ظل «محمد شايف» (في دور معن) حبيسَ شخصيَّةٍ نمطيَّة، مسطَّحةٍ ومصمَّمةٍ لتلائم الضحك السريع على منصات التواصل الاجتماعي، عاجزةً عن التمدُّد نحو عمق الشخصيَّة الدرامي الذي يُنتظَر من بطل في قلب الحكاية. ثمَّ يأتي «أبو ربيعة» ليقدِّم نفسه كما عرفه الجمهور، دون محاولة لتجاوز المألوف، فيما حافظ «أحمد كعبي» (في دور حمد) على هالة «الساطي» التي اعتادها محبوه، بينما قدّم «حامد الشراري» (في دور سند) كعادته كوميديا مبنيَّة على اللامتوقع، تؤدِّي وظيفتها اللحظيَّة دون أثرٍ طويل المدى، وناسب تواجد علاقة عاطفيَّة بينه وبين «أضواء بدر» (في دور الجوهرة).
من بين هؤلاء جميعًا، كان «خالد عبد العزيز» (في دور أبو حامد) استثناءً محسوبًا، إذ قدَّم أداءً يخلطُ المأساة بالكوميديا، حيث يُربكك بمشهدِ خشوعه لأداء الصلاة وبعد لحظةٍ يتحدَّث بالإنكليزية؛ ليذكِّرك بأدائه الرشيق في «أحلام العصر» (2024)، ويثبت قدرته على تحريك الطبقات الداخليَّة للشخصية وسط عالم سريع الإيقاع.
أداء الفيلم
لا يحمل «الزرفة» هويَّة بصريَّة جديدة بقدر ما يواصل أسلوب «تلفاز ١١» المعتاد في إيقاعه البصري وسرعة انتقالاته، بما يجعله منتجًا متقنًا للسوق أكثر من كونه مغامرةً بصريَّةً تُخاطرُ لتقديم قفزةٍ جماليَّة، وهو أمرٌ لا يُعاب عليه طالما أنَّ الفيلم يحدِّد موقعه بصدقٍ ضمن معادلة الترفيه التجاري. وعلى الصعيد السمعي، أتى الفيلم متقنًا في إدارة إيقاع مَشاهده دون تكلُّف، حيث جاءت العناصر الصوتيَّةُ خادمةً للإيقاع الترفيهي المطلوب دون افتعالٍ مبالغٍ فيه، فيما حافظت الموسيقى على مستواها الرفيع عبر توقيع «مايك وفابيان كورتزر»، اللذين قدَّما توليفةً موسيقيَّةً متناغمةً مع مزاجِ الجمهور المستهدف، مواصلين بذلك سلسلة تعاوناتهم الناجحة مع تلفاز ١١ منذ «مندوب الليل» (2023)، في توازنٍ يُظهر فهم الفريق لأهميَّة توحيد التجربة السمعيَّة والبصريَّة ضمن هويَّةٍ إنتاجيَّةٍ واضحة.
التموضع التجاري: الحقيقة التي لا نحب الاعتراف بها
ما مشكلة الفيلم إذًا؟ «الزرفة» ليس فيلمًا فحسب، بل أداةً بيعيَّةٍ ضخمة؛ بدءًا من الرعايات الظاهرة، مرورًا بالوجوه المؤثِّرة التي تُستدعى بعناية، إلى لقطات الرعاية التي تدخل إلى الشاشة بلا حياء. وهذا مفهوم، بل وضروري أحيانًا.
إنَّ وجود أفلامٍ تجاريَّةٍ من هذا النوع، مهما اختلفنا، ضرورةٌ لصناعة السينما الناشئة، فالقاعات المزدحمة، والأرقام المبشِّرة، تمنحُ السوق أملًا استثماريًّا وتنويعًا يختبرُ الذائقة العامَّة، ويمنح الصنَّاع الشجعان فرصةَ المضي في تجارب أكثر تجريبيَّة.
كما أنَّ «أفلام الشميسي» لم تخفِ نواياها، إذ تقول: «نسوي لك أفلام يا أحلى متذوق، مو للنقاد». وهذا الصدق في إعلان الهدف هو ما يجعل «الزرفة» يقف على الضفَّة المقابلة من أعمال مثل «أحلام العصر» أو «أغنية الغراب» (2022) أو حتى «هجَّان» (2024)، في اختبار معلن: ما الذي يريده السوق؟ وما الذي نريده من السوق؟
إلى متى؟
مع مشهد النهاية في «الزرفة»، ومع الأغنية الساخرة التي يغنِّيها مسجونٌ داخل السجن، بينما تتوزَّع أحكام السجن بشكلٍ وعظيٍّ بعد نهايةٍ سعيدة، يخرجُ المشاهد الواعي أو حتى صانع الأفلام من القاعة حاملًا سؤالًا لم يعد سهلًا: إذا نجح هذا الفيلم وكسر حاجز المبيعات، إلى متى سنظلُّ نصنع مثل هذه الأفلام؟ هل «الزرفة» محطَّةٌ مؤقَّتة نختبرُ بها شهيَّة السوق، أم أنَّه وصفةٌ ذهبيَّةٌ ستبقى تُعاد حتى تُستهلك؟ وهل تستطيع صناعة السينما السعوديَّة، وسط حماس السوق، أن توازِن بين إرضاء الجماهير وتجريب أفقها الإبداعي، دون أن تتحوَّل إلى نسخةٍ تجاريَّةٍ باهتةٍ من نفسها؟
يبقى «الزرفة» فيلمًا مهمًّا في سياقه، لا لأنَّه الأكثر جمالًا أو الأكثر إبداعًا، بل لأنَّه يمثِّل سؤالًا حيًّا: إلى أين تمضي بنا صناعة السينما السعوديَّة؟ وهنا أقول: الفيلم الجيَّد ينجح، والفيلم التجاري "يبيع"، لكنَّ الصناعة الحقيقيَّة تأتي بأفلامٍ تخترقُ روح المشاهد قبل أن تخترق جيبه. ولعل «الزرفة» يصبح، بوعيه أو دون وعيه، جزءًا من هذه الصناعة، بما يطرحه من سؤالٍ لا بد أن يُسأل مرَّةً بعد مرة: إلى متى سيستمرُّ هذا النموذج؟