«آخر سهرة في طريق ر»: مرثيةٌ ليليَّة

«يا أجمل الكون/ حبيبتي يا ساكنة وسط العيون»

فكرةُ مقاربة مفهوم الجسد بمفهوم المدينة ليس أمرًا جديدًا. إنَّه أمرٌ معروفٌ ومطروقٌ سياسيًّا وتاريخيًّا وتنظيميًّا. بطبيعة الحال، لا تتضمَّن زاويتنا هنا شيئًا من كلِّ هذا - وإن كانت الزاويا تتصل بطبيعتها بشكلٍ أو آخر - إنَّما زاويتنا الأساس هنا هي الزاوية الفنيَّة-الحيوية، فكما أنَّ الجسد يضجُّ بعملياتٍ حيويَّةٍ لا تتوقَّف للحظة، كذلك هي المدينة. وهي هنا "أجمل الكون": جدة.

في منتصف السبعينيات الميلاديَّة قرَّر شاعِرٌ مغمورٌ اسمه روبيرتو بولانيو وثلة من رفاقه الشعراء بإقامة مدرسةٍ أدبيَّةٍ جديدةٍ اصطلحوا على تسميتها بـ «ما دون الواقعية» (Infra-realism) في سبيل قطيعةٍ تامَّةٍ مع تيَّار أدب وأدباء الصف الأول من المثقفين آنذاك. أخذت هذه المدرسة وشعراؤها وقتهم حتى جاء وقتٌ قرَّر فيه بولانيو الاستفادة من هذه التجربة بطريقةٍ أخرى، فكتب الرواية. وفي حين جاء يؤرِّخُ لهذه المدرسة، قام باختراع اسمٍ أشدَّ التصاقًا بمعناها الحقيقي: «الواقعية الأحشائية» (Visceral-realism). يتَّضحُ من التسمية أنَّ هذه المدرسة لا تتوخَّى الواقعيَّة وحدها، بل ما في بطنها: بمعنى أنَّها لا تريد الكلام عن الطبقتين الوسطى والدنيا، إنما تريد ما «دون» ذلك. إنَّها تريد التكلُّم عن العائشين في أحشاء المدينة.

إنَّ ما يظهر من جسد المدينة في الإعلام المرئي والمقروء هو وجهها: أماكنها السياحيَّة، مكانتها الاقتصاديَّة، أحداثها المهمَّة، تطوُّرها العمراني .. وأحيانًا قد يظهر هذا الوجه في صفحة الحوادث. هذا مفهومٌ وطبيعي، وهو ما يأتي بنا إلى دور الفنِّ والأدب: إنَّهما يذهبان إلى بقيَّة الأعضاء. وخصوصًا تلك المهملة. وإذا ما كنَّا نهتمُّ بأجسادنا وصحتِنا في سبيل البقاء، فهو اهتمام، في الأصل، بخلايانا؛ غير أنَّ خلايا المدينة هم ناسُها، ومن هنا مكانة الأدباء والفنانين الحقيقيَّة: إنَّهم أطبَّاء الحالة الإنسانية، وعلى عاتقهم يكون بقاء المدينة. إن الفن، مهما مطَّطنا في مفاهيمه وقصَّرنا، يبقى ضربًا من التاريخ، بل لعله "أجملُ التاريخ" كما قال سعيد عقل: «أجملُ التاريخ كان غدًا». الفنُّ إذًا تاريخٌ مستقبلي. وفي حال افتراضي أنَّنا وافقنا على هذا المجرى الذي افترعتهُ، فسوف نصلُ إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ محمود صباغ كان نِعم الطبيب في عمله هذا، بل وزاد في التحدي باختياره أصعبَ - وأفضل في آن معًا - وقتٍ تعملُ فيه تلك الخلايا: الليل.

«ليلٌ كما لو أنَّه الليل كله»

في مستواه الأدنى، الليلُ مجرَّدُ وقتٍ من بين أوقات. غير أنَّه في مستواه الرمزي تجاوز ذلك بكثير. إننا لو تأمَّلنا في رمزيَّات المواقيت لما ضاهاه إلا الفجر والغروب، وكلاهما قطعتان منه؛ ولعلك تقول إنَّهما قطعتان من نقيضه: النهار. غير أنَّ القوة الرمزية للَّيل ترفض ذلك، مستعينةً بالشعراء والعشاق والسُّراق و«أبو معجب». جميع هؤلاء ليليُّون بالضرورة، مثلُهُم كمثل الذئب والخفاش. إن الليل ملكوتٌ لجميع هؤلاء، ومن الطبيعي أن أهالي كلَّ ملكوتٍ يتشاركون بعضًا من الطباع: فالعشاق والسراق يستترون بالليل، يتشاركون في فعل السرقة، كل بحسب حاجته. الليل بالنسبة لهم حامٍ وهو أيضًا حِمىً. وعند الشعراء وأهل الطرب (أبو معجب) تطوَّر التمثيل الرمزي للَّيل حتى صار المُنادَى: «يا ليل! يا ليل دانه!» وفي هذا أنسنة. إنَّ تطوّر العقل الإنساني الطبيعي وارتباطه باللغة الشعريَّة أفضى إلى أنسنة الأشياء، وهذا مبحثٌ طويلٌ نكتفي منه بالإشارة إلى أنَّ أنسنة الأشياء واقعةٌ في مستوى أدنى من أنسنة الليل، لأن الليل ليس "شيئًا" ومن الصعب «تشييؤهُ». الليل موقت والمواقيت مفاهيم، تقسيماتٌ مجرَّدةٌ لما هو أشدٌّ تجريدًا: أي الزمن. من هنا يكون الليل أرقى في الأنسنة: كالملائكة والصفات الإلهيَّة وما دار في هذا المدار. وكما أن المغني يصيح: «يا ليل!»، ففي جهة أخرى من الليل، يصيح مؤمنٌ يصلي «يا رحمة الله، يا عفوك ورضاك». الليل ليس حكرًا على "الذئاب" و"الخفافيش"، بل تهبط فيه الملائكة إلى السماء الدنيا. هذه أمور لا تُشيَّئ وإن أمكن استعمالها. بالنسبة للإنسان الأول، كان استعمال النار خطوةً كبرى في اتجاه الحضارة، خطوةٌ لا تقل عنها الخطوة التي خطاها الإنسان الحديث باستعمال الليل، أي بإدخال المصباح الكهربائي في الظلمة وكأنَّه استطاع أن يفرد قماشة النهار على جسد الليل، إلا أنه - الليل - ما زال يشف من وراء، وفي هذا مفارقةٌ مضحكة: بقدر جبروت الإنسان بقدر عجزه!

وبين الجبروت أو القدرة - بالأدق - والعجز يكون «العُجْب». ونحن مع «أبو معجب»، العالق بين القدرة أو الإحساس بها، والعجز. مشكلة العجب الرئيسة أنَّها تحجب عن نظر صاحبها المقاييس الصحيحة، فالإقدام يكون على الخطوة الخطأ والإحجام يكون عن القرار الصحيح. وكلَّما اختلطت الأمور وازداد العجز تلى ذلك تضخُّمٌ أكبر في العُجب، خصوصًا إذا ما كان «أبو معجب» مقرونًا بـ «سيلفر». من الطبيعي أن يصير السيفلر، والحال هذه، ذاهبًا في عين ذي العجب. الطبيعي أكثر أن يصاب الإنسان - عاشق الليل، سارق الفرص فيه، المنادي عليه «يا ليل دانه!»، والمستعمِل له في النهاية - بالعجب. ما من ملامةٍ على «أبو معجب» إذا ما أخذنا كلَّ هذا السياق الطويل إلى آخره: سنلفي أنَّنا في وقتٍ لم يعد الليل فيه مُستعملًا وحسب، إنما أهله أيضًا مستعملون.. وهذا ما لا يقبله أبو معجب.

تحكي قصَّة الفيلم عن فرقة سهراتٍ شعبيَّةٍ مكوَّنةٍ من أربعة أفراد: متعهد سهراتٍ هو «أبو معجب» (عبدالله البراق)؛ مطربةٌ شعبيَّةٌ هي «كولا» (مروة سالم)؛ مهندس صوتيات هو «سيلفر» (سامي حنفي)؛ وعازف عودٍ ضريرٌ هو «طرفي» (رضوان الجفري). ورحلتهم في سبيل تحقيق مبلغٍ ماليٍّ بعينه (خمسون ألفًا) عبر إقامة سهراتٍ طربيَّة. ولو أن الرحلة كانت في زمان أسبق من هذا لكان تحقيق الهدف أيسر ولاختلفت الرحلة برمتها تمام الاختلاف. في زمن «المواسم» و«العقود» و«الحوالات البنكيَّة»، لا فرصة لـ«السهرات» و«الكاش» الفوري. لكلِّ رحلةٍ قائدها، وفي الرحلات الكبيرة - كرحلتنا هذه رغم بساطتها - يتسلّح البطل بالذخيرة: وما من ذخيرة في حزام «أبو معجب»، وإن توفرت فبالكاد تتوفَّر لسويعاتٍ أو أقل وتُفقد. ثمَّة شحٌّ وصعوبةٌ لإيجاد «الكاش»... عفوًا، أقصد لإيجاد الذخيرة!

«ولو أنها نفس تموت جميعةً/ ولكنها نفس تسَاقَطُ أنفُسا»

يرفضُ أبو معجب الطريقة الحديثة والأكثر سهولةً في تحقيق مراده عبر "المواسم" فهو ابنٌ لمُلك تليد: كانت أمُّه المتوفاة «كاكا القمر» أكبر مطربةٍ شعبيَّةٍ في الزمان السابق، ولا يرى لنفسه مكانًا وتحقيقًا غير هذا المُلك البائد. ومقابل هذا الرفض يرفضه الزمان بقوانينه وأعرافه الحديثة. عندما يحاول أن يندمج ويستغل «إيفنتات» الطبقة العليا، ينتهي به الأمر إلى الفشل السريع. أدواته لا تتناسب مع هذا النوع من الحفلات إلا بوصفها مجرَّد ديكور. ومساعده سيلفر ينجرف مع التيار "الصغير". بينما «كولا» تبحث عن مصالحها، وهو - أبو معجب - لا يخرج هنا من دائرة اللوم بإهماله: لكنَّها من أعراض العجب في النهاية. في المحطة التالية من الرحلة، يحاول «أبو معجب» الاستفادة من «أبو سُراقة» وهو غني من الزمن القديم. غير أنَّ هذه المحطة كادت أن تودي بحيواتهم جميعًا: لقد جُن أغنياء زمان مقابل أغنياء اليوم. بعد عدَّة محطاتٍ ينتهي الحال بأبو معجب إلى التسليم بالأمر الواقع واستعادة ما كان من حظوةِ «الشيخ» بالذهاب إلى إحدى السهرات في أطراف «ر». وعلى الرغم من أنَّه يحقِّق ضعف المبلغ المطلوب (مئة ألف) إلا أنَّه يخرج خاسرًا. يخسر خيمة «الشيخ»، ويخسر كولا التي تنقلب إلى «صولا» ومعها طرفي، ولا يقبل الموتُ - معادل الليل رمزيًّا - إلا بأن يسلبه رفيق دربه سيلفر. في اللحظة الأخيرة نرى أبو معجب واقفًا أمام طلوع الشمس في نهاية الرحلة الليلية في شَبَهٍ بـ «امرئ القيس»: كلاهما «ملكان ضلّيلان»، وكلاهما «ذوَا قروح». لقد تقرّحت وتساقطت نفْسُ «أبو معجب» على طول الليل والرحلة أنفُسَا. بلى، يمكننا بلعبةٍ تأويليَّةٍ "مرحةٍ" أن نقول بأن «ر» من هذه الزاوية هي «الروم»؛ وكلاهما - امرؤ القيس وأبو معجب - خسرا في «آخر سهرة في طريق ر».

الكاميرا والقلم

لا يسعنا إلا القول، كما يقال في الكليشيه: الصورة تتحدَّث عن نفسها بخصوصِ الحديث عن الجماليَّات البصريَّة في العمل. لقد تمكن المخرج، بعد خبرةٍ طويلة، من الوصول إلى صورةٍ بقدر ما فيها من الجمال بقدر ما فيها من البساطة. ولعل هذا مبتغى كل فنان. والإخراج يعتمدُ على كثيرٍ من الأمور بجانب الصورة كما هو معلوم، ومن بينها اختيار طاقم التمثيل. وباختياره لعبدالله البراق ومروة سالم وسامي حنفي ورضوان الجفري، أثبت المخرج تمكُّنه من كافة أدواته على ما في هذه الاختيارات من مغامرة. بالمقابل فإنَّ الأربعة جميعهم لم يخيِّبوا المخرج ولا المشاهد، وذلك بأداءاتٍ أقلُّ ما يقال عنها إنَّها موفَّقة، بل ومميَّزةٌ بخصوص البطل، لافتةٌ بأوَّل ظهورٍ سينمائيٍّ للبطلة، وحضورٌ أخَّاذ للراحل الجميل عم حنفي، وآخرُ أضفى نكهةً مستحبَّةً لروح "الشلة" بأداء الجفري. وفي دورٍ صغيرٍ زمنًا وكبيرٍ أداءً ومعنى، خطفت الشيماء الطيب الأنظار وعمَّقت من حضورها، فكلَّما استطاع الممثل إثبات حضوره في زمنٍ ضيِّقٍ على الشاشة كلما عمَّق من وجوده كفنان. أما عن الظهور الشرفي، فقد تضمن العمل ظهورَين شرفيَّين: أحدهما بأداء المخرج الجميل خيري بشارة، وكم كان ظهورًا مبهجًا ومشعًّا، على العكس من الظهور الثاني الذي كان باهتًا إلى أبعد حد.

ما يزيد في منجز صباغ أنَّه هو الكاتب أيضًا، ولولا أن مسرحةَ بعض الحوارات زادت عن حدها ونفّرت المشاهد لكانت الكتابة مثالية، اللهم أن ضعفًا آخر أوهنَ النص وهو الجزء الخاص بـ"البصّاصة". برغم من أهميَّة وبراعَّة اختيارهم  للقصة، إلا أنَّ ظهورهم لم يكن الظهور الأفضل، لا أداءً ولا نصًّا، ولن تشفع لذلك بعض "الشقلبات" والسجع، فما لم يشعر المشاهد بالخوف الحقيقي على البطل من "الشرير" فإن وجود الشر فشل في إثبات نفسه؛ حتى ولو بإضافة مشهدٍ دموي. هذا ولا ننسى الإشادة بدور اختيار الأغاني في الفيلم والتي كانت بمثابة شموعٍ في ليل الرحلة الحالك. ولو وددنا اختصار كل هذا سنقول: «آخر سهرة في طريق ر» (2024) هو من كلاسيكيات السينما للأجيال اللاحقة.

المدنُ الثواني

لقد تحدثنا عن البطلين الأول (الليل) والثالث (أبو معجب). أجل، فأبو معجب ليس البطل الثاني، بل «جدة» المدينة هي البطل الثاني بعد الليل، وفي هذا قوَّة كتابية للفيلم، وكأنَّ بطل قصتنا هنا تمثيلٌ لحالة الإنسان بعمومه في ورطته الوجوديَّة بين حجري الرحى الكبيرين: الزمان والمكان. وهي - أي جدة - في مكانها الصحيح من حيث البطولة بالنسبة لوضعها التاريخي المعاصر. إن مفهوم المدن الثواني مفهومٌ حديث نسبيًّا، مفهومٌ يقول عن المدن الأكبر مكانةً والأعرق تاريخًا بوصفها مدنًا تقع في المرتبة الثانية، وذلك بفعل متغيِّراتٍ اقتصاديَّةٍ وسياسيَّة. ولنا أمثلة في الإسكندرية والقاهرة، إسطنبول وأنقرة، ريو دي جانيرو وبرازيليا، إلخ... إثرَ هذا تشعر هذه المدن - عبر أهلها - بشعور المظلومية تجاه «الزمن الذهبي». والحق أنَّ في هذا خليطٌ من الوهم والحقيقة (ليس المجال هنا مناسبًا لتمحيصه). المهم عندنا مع الفيلم أنَّ وطأة هذا الشعور تزداد أضعافًا إذا ما تزامن ذلك مع سرعةٍ كبيرةٍ في التغيُّرات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي تَخرُج قراراتها من «المدن الأوائل» على الدوام. إن «الجسد» يمرض إذا ما طال ركوده، فتجب عليه إذِّاك الرياضة؛ ومشقة الرياضة تختلف من «جسدٍ» إلى آخر، أو من «مدينةٍ» إلى أخرى، لكنَّها حركة التاريخ الطبيعيَّة والضروريَّة. 

لم يعد ثمَّة من «واقعيين أحشائيين»، حتى بولانيو نفسه تخلَّى عنها تدريجيًّا في نهاية مشواره الأدبي. لكنَّ ذورته الأدبيَّة ترجع إلى «الواقعية الأحشائية» بشكلٍ رئيس. وأكبر أعماله للمفارقة هي روايات وليست قصائد، ألا وهي: «نجمٌ بعيد» «التحريون المتوحشون» و«2666». وثلاثتها تستند إلى قصص وحكايات لشعراء وشراذم وصعاليك (ما الفرق؟) من أحشاء المدن - خصوصًا في المكسيك - بانحياز صريح إلى «المهمَّشين» بحسبِ التعبير الأذوَق. وهو ما نجده في اختيار محمود صباغ بالذهاب إلى «جماليَّات» الهامش في «باب شريف» و«باب مكة»، بوصفها أماكن وبناسها كذلك (الجالية الشرق آسيوية)، والأهم بمرافقة «نجم للصوتيات». في نهاية المطاف، لعل الكلام عما في أحشاء المدن سيستفز بعض الآراء؛ والأفضل أن نكون رائقين ونغني سويًّا:

يا نايم الليل الطويل
والدنيا من حولك سهر

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى