«عبر زجاج مظلم»: بحثا عن الإله في عالم لا يُحتمل ثقله

July 14, 2025

«لو كان هناك إلهٌ لكان عليه أن يتكلم، لكان عليه أن يمد يده ويلمسنا».

في كتابه «العلم المرح» يعلن نيتشه عبر شخصيَّة المجنون أن "الإله" قد مات، في إشارةٍ رمزيَّةٍ إلى انهيار القيم المطلقة والميتافيزيقا وغياب المعنى. ولا يُقصدُ المعنى الحرفي للموت هنا، بل تلاشي الإيمان بالإله بوصفه الضامن للمعنى والأخلاق، فالحضارة الحديثة وفقًا لنيتشه تخلَّت عن الدين لكنَّها لم تقدِّم بديلًا حقيقيًّا، والنتيجة فراغٌ قيميٌّ وغيابُ أساسٍ سامٍ للحقيقة، ممَّا ينتج قلقًا وجوديًّا عميقًا.

في فيلم «عبر زجاج مظلم» (Through a Glass Darkly - 1961) للمخرج السويدي إنغمار بيرغمان، سنلاحظُ تشابهًا بين مجنون نيتشه وكارين (هارييت أندرسون) التي تعاني من مرض الشيزوفرينيا، إلا أنَّ جنون كارين يبدو كقناعٍ يخفي قلقَها، بينما يتجلى القلقُ بصورةٍ أعمق في شخصيَّتَي الأب ديفيد (غونار بيورنستراند) والابن مينوس (لارس باسغورد). فقبل نهاية الفيلم، سيدورُ حوارٌ بين الأب والابن عن الإله: الكاتب البعيد كل البعد عن أولاده، الأناني الذي لا يفكر إلا في نجاحاته، يقابله الإبن المراهق الذي يتعرَّف على جسد المرأة من خلال المجلات، والذي يعاني من كبتٍ جنسيٍّ يتجلَّى من خلال مخاطبته لشقيقته قائلًا إنَّ ملابسها مثيرة، مع أنَّها ليست مثيرةً على الإطلاق.

يمثِّلُ ديفيد الحكمة التقليديَّة والبحث عن مفاهيم معلَّبة، إضافةً إلى معاناته من قلقٍ وجوديٍّ وتشتُّتٍ وغيابٍ للمعنى، وهو ما يتَّضح من خلال روايته لواقعة انتحاره التي فشلت. يلجأ ديفيد إلى الفن، أو بالأحرى يستعينُ به كوسيلةٍ للهروب من القلق الوجودي وعبثيَّة الحياة، وليس كأداةٍ لخلق المعنى أو للنجاة. عندما يدور الحوار ويسأله ابنه عن الإله، يرد ديفيد بأن الحب قد يكون هو الإله أو أن الإله هو الحب، ولكنه في حقيقة الأمر لا يقدم أي إجابة مقنعة. الابن، الذي يبحث عن الأمان والاطمئنان الأبوي، يريد أن يشعر بدفء الأبوة، لكن ديفيد الأب الأناني، البعيد عن أسرته، لا يستطيع تلبية هذا الاحتياج.

كارين بين اليأس والأمل الزائف 

تعدُّ كارين الشخصية المحورية في القصَّة، فهي التي تسأل وتجيب في الوقت نفسه، وتعاني لكنها لا ترى الحقيقة إلا من خلال نافذة معتمة. لا زوجها الطبيب مارتن (ماكس فون سيدو)، ولا والدها الكاتب، ولا حتَّى شقيقها المراهق يستطيعون إنقاذها. إنَّها حالةٌ من العجز التام، من العزلة الوجوديَّة والقلق. الجميع في هذا السياق يعانون من دوار الحرية.

كلُّ ما تراه كارين وما تسمعه هو عبارةٌ عن هلوسات. جميعُ الأصوات هي أصواتُ العجز والبحث عن المعنى، أصواتٌ لا يستطيع سواها أن يسمعها. لا الأب، ولا الأخ ولا الزوج، قادرون على ملامسة أشدِّ ما تختلجه نفسها، ولا على فهم القلق الذي تعاني منه، فهم أيضًا غير قادرين على الاعتراف بأمراضهم. إنَّ شخصيَّة كارين هي التمثيل الصارخ عن غياب المعنى، وفي ظلِّ العزلة الوجوديَّة يصبح الأمر أكثر صعوبة، لأنَّها ومع مرور الوقت تندمجُ أكثر فأكثر مع الأوهام، ممَّا يؤدِّي إلى جعل الحقيقة والوهم شيئًا واحدًا، وأي محاولةٍ لكسر أوهامها ستتكلَّل بالفشل. 

الأسرة كفضاءٍ للانهيار الوجودي 

تجسَّد موت الإله داخل الأسرة من خلال السلطة الأبويَّة الفارغة، إذ تبدو كلمات الأب ديفيد كذبًا خالصًا: إنَّ استغلاله لمرضِ ابنته كمادَّةٍ أدبيَّةٍ خامٍ يكشفُ عن أنانيَّة الأب، حتى وإن كان ذلك في سياق مرض ابنته. نلاحظ أيضًا أن كارين، التي كانت في فترة نقاهة، قد عاد إليها المرض مجددًا، والسبب في ذلك هو عدم وجود علاجٍ لهذا الوجود كما يقول صامويل بيكيت. إنَّ بحثَها عن الإله يعكس أزمة المعنى التي تعيشها. أمَّا مينوس المراهق، والذي يبحث عن إجابات، فيمثِّل الجيل الجديد في مواجهة الفراغ، ومارتن الطبيب العقلاني يمثِّل عجز العلم عن فهم الوجود.

في مشهدِ العشاء نجد الصمت الذي يخيم على الأسرة، صمتٌ مطبقٌ تتخلله قعقعةُ الملاعق وكأنَّهم لا يحبون بعضهم بعضًا، غرباء على مائدةٍ واحدة، هم فقط يتحمَّلون بعضهم...!

يمثِّلُ فيلم «عبر زجاجٍ مظلم» تجربةً إنسانيَّةً تتجاوز تساؤلات الوجود، لتغرق في أعماق الفراغ الوجودي الذي يشكِّلُ سمة العصر الحديث. وهكذا يشهد الفيلم على انحسار المعنى في عالم تتلاشى فيه الدلالات السماوية، ويغرق أبطاله في صمتٍ طويل، حيث يعجزون عن العثور على جوابٍ شافٍ لأسئلتهم الوجودية. كما أنَّ شخصياته، بوصفها عناصر متفرِّقةً داخل معادلةٍ مفكَّكة، تجسِّد مأساة البحث عن الحقيقة وسط انعدام التواصل وغياب اليقين.

مثلما يعكس أصداء الموت الرمزي للإله، ففيلم بيرغمان هو أيضًا صورةٌ حيَّةٌ لمحنة الإنسان المعاصر الذي يواجه عالمًا فاقدًا للمعنى، حيث يصبح السؤال عن الحب، عن الإيمان وعن الحقيقة، في طيّ الأوهام. وفي نهاية المطاف، تظل رحلة البحث عن الإله بلا إجابة، وتظل نافذة الحياة معتمةً، محشورةً في صمتٍ غير قابلٍ للكسر.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى