«راس براس».. خلطة خيالية غابت عنها المحليّة ولم تغِب

October 11, 2023

إن التحدي الذي ستواجهه الأفلام السعودية في السنوات القليلة المقبلة هو السؤال الذي سيتكرر — وهو سؤال مشروع — عن حكايات الشارع السعودي، وعن مدى كون هذه الأفلام مرآة له، وهو ذات السؤال الذي طرأ على بالي بمجرد انتهائي من مشاهدة فيلم «راس براس» الذي عُرض منذ 3 أغسطس الماضي عبر منصة البث المرئي "نتفليكس".

طرحتُ السؤال ذاته الذي يتكرر عادة بعد مشاهدة أغلب الأفلام العربية: ما الذي ينقصنا لكتابة حبكة سينمائية مختلفة تشبه حكاياتنا؟ لكنه سؤال مطّاط، ذلك أن الظروف على مختلف درجاتها — اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا — تختلف بين بلد وآخر. وهنا، نظرًا لحداثة الصناعة في السعودية، فإننا سنرتكز على هذه الذريعة لبعض الوقت، قبل أن تنضج التجربة ككل وترتفع بالتالي أصوات المطالبات بأعمال أكثر إتقانًا، بالرغم من وجود كوادر ناضجةٍ ومؤسّسةٍ معرفيًا وسينمائيًا، إلا أن الآداب والفنون — والسينما على وجه التحديد — لا تعتمد على مواهب وَوعي الأفراد، بقدر ما تتولّد عن تكامل بين مختلف مراحل العملية الإبداعية، بدءًا من الأفكار والكتابة، فالعملية الإنتاجية، وانتهاءً بالعرض، ثم التسويق والتوزيع، وضمان وصول الفيلم السعودي إلى أبعد مدى. 

قدّم «راس براس» حكاية بسيطة، ثيمة تجارية مستَهلكة لا دهشة فيها ولا جديد، وربما هرَستها عشرات الأفلام قبل ذلك وكرّرتها، جمعت بين الكوميديا والأكشن، لكنها نسخة سعودية جيدة، تأثّرت بما سبقها وخرجَت بشكل آخر، ممتعٍ ومسلّ. يُحسب لها هذا، ويضمن وصول العمل إلى أكبر شريحة من الجمهور، إلى جانب أنه في هذه الخفّة الدرامية خروج عن الإطار السينمائي الذي انتهجته بعض الأفلام السعودية الحديثة باللجوء إلى الغموض والرمز، واستهداف المهرجانات والنخب، وهو اختلاف محمودٌ يضيف ولا ينقص. السينما صناعة، ومعيار نجاحها الإنتاجي هو شباك التذاكر، وعدد المشاهدات، لا المشاركة في المهرجانات وإرضاء النقاد والمنظّرين فحسب. 

لا بد من الإشارة إلى صانِعَي الفيلم، عبدالعزيز المزيني كاتبًا، ومالك نجر مخرجًا، وكلاهما يستندان إلى سيرة مهمة من العمل الإبداعي، بل وربما نذهب أبعد بالقول إنهما ضمن كوكبة من مؤسّسي الأعمال الإبداعية البصرية في السعودية عبر البرنامج اليوتيوبي الشهير "مسامير"، الذي تطوّر بمرور الوقت عبر العديد من الأعمال الكرتونية، وصولاً إلى الفيلم الذي بُث أيضًا عبر منصة "نتفليكس"، وفي صالات السينما، الأمر الذي يمنحهما مشروعية المغامرة بإنتاج فيلم روائي طويل. 

ولا يمكن — عند الحديث عن الفيلم — تجاهل مرحلة إنتاج الأفلام الكرتونية لصانعي العمل، فهما بنفسهما لا يزالان حبيسَي تلك المرحلة، وأصرا — رغم غرائبية الفيلم واختلافه — على إظهار أبطال "مسامير" في أحد مشاهد «راس براس» رغم انتفاء الحاجة إلى ذلك، بل والاستعانة بالكرتون في العديد من اللقطات التي تسرد حكاية "ولد الديمن"، وتاريخ "بذيخة"، إضافة إلى استخدام الكرتون في بعض مشاهد الضرب والعراك، وسرد نهاية الفيلم.

المحلّية مفتاح نجاح مضمون، ورهان لا يخسر أبدًا مع الجميع، وبالرغم من دوران القصة في فلك مُتَخيّل، وغياب قصة سعودية واقعية، فإن الروح المحلّية لا تغيب عن الفيلم، ليس باللهجات فحسب، ولا بتقديم المكان حيث تظهر الرياض، وإنما بتفاصيل الشخوص، وهويتها، واقتناص ملامحها، حيث نالت الشخصيات نصيبًا واضحًا من الاشتغال والمبالغة في البناء، التي بدت أمرًا تفرضه أجواء المكان وسوداويته.

حسنات عدّة تضمنّها الفيلم: اشتغالٌ بصريٌ أقل ما يقال عنه إنه متقَن، مواقع الفيلم، حي بذيخة الفانتازي، الألوان الداكنة، وتنقّل الكاميرا بين الوجوه، بالتوازي مع موسيقى تصويرية مناسبة لروح الفيلم وغرابة عوالمه. ولعلّ المكان يشكّل أحد أبرز ملامح العمل، فهناك اهتمام واضحٌ بالتفاصيل، واستثمارٌ جليّ للإمكانات الإنتاجية التي توافرت له، تجسّدت في بناء العوالم السفلية، الشوارع المعتمة والإضاءات الفقيرة التي تعكس ديستوبيا الفيلم حيث يغيب القانون، والشر هو السيّد المطلق، والسكان الهامشيون محكومون بقبضة عصابة دموية تُمعن في الفساد والخراب.

ربّما علينا — بانحياز — امتداحُ عبدالعزيز الشهري، والثناء على موهبته وقدراته التمثيلية التي قدّمها في الفيلم، فهو كوميديان عفويّ، لا يتكلّف الإضحاك ولا يبتذل الطُرفة، وصاحب حضور محبّب ومتمكّن. هذا بالإضافة إلى الفنان الموهوب محمد القس، الذي أضاف الكثير إلى العمل بشخصيته وإتقانه، لكنّ ثمة تساؤلًا حول خروجه من دائرة الدور الضيق الذي يحيط به، إذ أنه خاض الدور ذاته — أو دار في مساحته — عبر أعمال أخرى، مثل ظهوره القصير والممتاز في فيلم «الهامور»، والدور الذي أدّاه ببراعة في مسلسل «موضوع عائلي» بجزئيه، وإن اختلف هذا الدور تحديدًا باتساع مساحة الكوميديا فيه، لكنه يتحرّك في قالب مكرّر، ربما عليه الهرب منه، وعدم الاستجابة — دائمًا — لما يطلبه السوق. 

ليس هناك عمل كامل دائمًا، وفي صناعة حديثة لا تزال تُطبخ على مهل، فإن الفيلم جيد، وإن اعترته بعض الأمور التي كان ممكنًا اجتنابها؛ الحكاية بدأت ببطء واستمرّت كذلك، قبل أن تتسارع في الثلث الأخير من العمل، وكأن صانعِيه أرادوا مفاجأة الجمهور بالإيقاع السريع وربط الحكايات جنبًا إلى جنب. ليس هذا سيئًا بالطبع، لكنّه أدخل بعض الرتابة على بداية الفيلم فاستغرق وقتًا طويلًا لبدء ربط الأحداث ببعضها ومحاولة بناء حبكة لم تُفلح. 

هذا بالإضافة إلى قصة الحب الهامشية، التي تظهر وكأنها خيطٌ أساسي في بداية الفيلم، قبل أن تتوارى وتظهر على خجل بين الأحداث، لتعود في النهاية ضمن الأحداث المتسارعة وبشكل عشوائي، دون أن تضيف بصمة أو تؤثر في الحكاية. أضف إلى ذلك الظهور العادي للمخرج "مالك نجر" ممثلاً، والذي يبدو أنه وجد فرصة لاختبار نفسه أمام الكاميرا، بدلاً من الاكتفاء بإدارتها.

يمكن القول إن «راس براس» خطوة جيدة في طريق السينما السعودية، وإذا نظرنا للصورة الأكبر، فإن التنوّع ضروري، والتباين في الأفكار والعوالم التي يقدمها صنّاعها احتياجٌ فعليّ وليس ترفًا ذهنيًا أو فذلكة. لا يمكن أن نتوقع شكلاً واحدًا للمنتَج السينمائي، كما أننا لن ننتظر فيلمًا خاليًا من أثر السينما العالمية والتأثر بروادها، بل الاستفادة القصوى من هذا التأثير، بصناعة قصص سعودية مختلفة تحمل روحها الخاصة، مهما اختلفت طريقة تقديمها.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى