لحظة رؤيته لفيلم «بايسان - Paisan (1946)» أصابته حمى السينما ووقع في حب صناعة الأفلام، ليقرر منذ تلك اللحظة أن يسخر حياته لتجسيد قصص الإنسانية البسيطة والمعقدة على حد سواء، في إطار يعكس روح الواقع وعمق الشعر. كان هذا الفيلم هو الشرارة التي دفعته نحو اكتشاف عالم السينما الواقعية، وبدأ منذ تلك اللحظة في مزج تجربته الشخصية وبيئته الريفية مع أساليب السرد البصري المختلفة، ليقدم لنا أفلاماً تحمل طابعاً فريداً يمزج بين البساطة الخالصة والواقعية المؤثرة. ومنذ ذلك الحين، أصبح صوتاً مختلفاً في عالم السينما، يروي قصصه الخاصة بلغة بصرية تجرد الواقع من زخارفه، لتصل إلى جوهر الروح الإنسانية.
«إرمانو أولمي »، المخرج الإيطالي اللامع والذي على الرغم من عدم اعتباره جزءً من «موجة الواقعية الجديدة»، إلا أن بعض من النقاد صنفوه كأحد روادها. تلك الموجة التي تمثّل العصر الذهبي للسينما الإيطالية، والتي تأثرت وأثرت بشكل عميق بالتغيرات الاجتماعية-الثقافية والسياسية التي شهدتها إيطاليا في تلك الفترة. الواقعية الجديدة نشأت كاستجابة للأوضاع المجتمعية، حيث تناولت حياة الفقراء والطبقات الكادحة في سرد بسيط وغير متكلف. ومع أنها وُلدت من رحم الأزمة الاقتصادية والسياسية بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها كانت انعكاساً لنضج الوعي الفني والاجتماعي لدى كتابها ومخرجيها.
من بين أهم رواد الواقعية الجديدة نجد «فيتوريو دي سيكا»، «روبيرتو روسيليني»، و«جوزيبي دي سانتيس». هؤلاء المخرجين وغيرهم، قادوا حركة التحول في السينما الإيطالية وصنعوا هذه الموجة، مظهرين أن السرد الواقعي يمكن أن يكون أداة قوية في تصوير قضايا الإنسان اليومية. لكن الحديث هنا يركز على مخرج متميز مثل «إرمانو أولمي»، الذي على الرغم من تصنيفه كأحد مخرجي هذه الموجة المتأخرين، إلا أنه دائماً ما رفض هذه التصنيفات.
رفض الانتماء وابتكاره أسلوبه الخاص
ولد أولمي في بيئة ريفية كادحة، وتأثر بشكل عميق بتلك الحياة، مما انعكس بشكل جلي في أعماله. كانت قصصه تغوص بروح الريف البسيطة والمليئة بالصعوبات، معبّرة عن واقع الطبقات الكادحة وتفاصيل الحياة اليومية التي عاشها بنفسه. وقد شكلت تلك التجربة أساساً لرؤيته السينمائية، إذ استطاع عبر أفلامه أن يلتقط جمال البساطة ومعاناة الكفاح، ويغلفها بطبقة روحانية رقيقة نابعة من تمسكّه بعقيدته الكاثوليكية طوال حياته. ولكونه كان يرى الدين والإيمان من منظور الحب، كان يسعى جاهداً لجعل أعماله تدور حول القيم الإنسانية التي تنشأ في ظلال الحب، مثل التضحية والتعاطف والبحث عن معنى أعمق للحياة.
يمكن القول بشكل أوضح أن أولمي كان مهتماً بتقديم الإنسان في مواجهة التساؤلات الوجودية الكبرى بشكل مستمر، وغالباً ما تضمنت هذه التساؤلات عناصر دينية-روحانية، حتى وإن لم تكن واضحة بشكل صريح.
ليخلق من هذا عالماً شاعرياً حقيقياً يعكس تجربة إنسانية نقية، ينضح بالصدق والتعاطف مع شخصياته.
وكما ذكرت سابقًا، فقد بدأ عشق أولمي للسينما عندما شاهد فيلم «بايسان - Paisan (1946)» للمخرج «روبيرتو روسيليني»، وهو الفيلم الذي أشعل فيه الشغف الكبير تجاه السينما، وجعل من الفن السينمائي جزءً لا يتجزأ من حياته. دفعت هذه التجربة أولمي للعمل لفترة طويلة في مجال الأفلام الوثائقية، حيث أنتج سلسلة من الأفلام القصيرة لصالح إحدى الشركات، وهو ما منحه فرصة لصقل مهاراته الفنية في مراحل مبكرة. استمر في هذا المسار حتى إنتاجه لأول فيلم روائي طويل له «الزمن الثابت - Time Stood Still (1959)». هذا الفيلم؛ الذي كان مغلفا بروح الواقعية الجديدة، أظهر تأثره الواضح بالموجة التي ركزت على الحياة البسيطة والشخصيات اليومية، لكنه أيضاً كشف عن بداية ظهور صوته السينمائي الفريد. ورغم تبنيه لعناصر مختلفة من الواقعية الجديدة كتوثيقه للمعاناة والقضايا البسيطة للفرد، إلا أن أولمي كانت لديه موهبة استثنائية في إبراز الجانب الشعري حتى في أدق تفاصيل الحياة اليومية، مما جعل أفلامه تتسم بجمال خفي وعمق فكري رغم بساطتها الظاهرية.
وبالمقارنة مع مخرجي الواقعية الجديدة الآخرين، وبينما كانت الواقعية الإيطالية الجديدة غارقة في السياسة والدراما الاجتماعية، اختار أولمي أن يصور الجوانب الروحية والإنسانية. ولم يكن يستخدم السينما كأداة سياسية بشكل مباشر وصدامي، رغم تأثره بلا شك بالبيئة السياسية والاجتماعية الغير مستقرة في ذلك الوقت. بدلاً من ذلك، كان يميل إلى تقديم رؤى شاملة للإنسان، تتجاوز القضايا المحلية الظاهرة لتشمل تجربة إنسانية عالمية يتشاركها الجميع. ورغم كونه ذا ميول سياسية ودينية، إلا أن أعماله كانت خالية تقريباً من النقد السياسي المباشر، باستثناءات بسيطة حيث تجلت القضايا السياسية من منظور إنساني أكثر من كونها انتقادات صارخة للنظام.
على سبيل المثال، فيلمه الأشهر «شجرة القباقيب الخشبية - The Tree of Wooden Clogs (1978)»، الذي حاز على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، كان تجسيداً رائعاً لهذه الفلسفة. الفيلم لا يروي فقط قصة الفلاحين الإيطاليين في نهاية القرن التاسع عشر، بل يتعمق في حياة هؤلاء البشر البسطاء وعلاقتهم بالطبيعة والمجتمع المحيط بهم. بأسلوبه الواقعي الهادئ، يقدّم أولمي تأملاً وجودياً حول دورة الحياة، والعمل الشاق، والصراع من أجل البقاء. من خلال شخصياته التي ترتبط بالطبيعة والأرض بشكل عضوي، ويسرد أولمي قصة ذات أبعاد إنسانية عالمية تتجاوز حدود الزمان والمكان. هذا الفيلم، بأسلوبه الشعري والبسيط، يُبرز قدرة أولمي على استخراج المعاني الكبيرة من القصص الصغيرة، ويؤكد التزامه بنقل تجارب البشر اليومية بجماليات خاصة تجعل حتى أبسط اللحظات ذات عمق فلسفي وفكري.
إلى جانب قدرته على سرد القصص الواقعية ببراعة، يمتلك أولمي في سرديته عنصراً مميزاً يتمثل في خلق جو حنيني خاص بين شخصياته وقصصهم والمحيط الذي يعيشون فيه. هذا العنصر الحنين يتجلى في تفاعلات الشخصيات مع بيئتهم، حيث يشعر المشاهد بأن هناك رابطاً عاطفياً عميقاً يربطهم بأماكنهم، بشوارعهم، بالأرض التي يعملون عليها، وحتى بالتقاليد التي يحيونها. هذه القدرة الفريدة على إعادة الحياة للمحيط وتحويله إلى جزء من السرد القصصي تميز أعمال أولمي وتجعلها أقرب إلى لوحة فنية نابضة بالحياة، إذ يغمر المشاهد بعلاقة حسية وروحية تربط الشخصيات بالمكان والزمان، وكأن تلك العلاقة الحميمية تعكس الحنين المستمر إلى جذورهم وهويتهم.
سيرة ذاتية خفية
يقول المؤرخ والناقد الشهير «ديفيد تومسون» في كتابه «قاموس التأريخ الجديد للسينما - The New Biographical Dictionary of Film»: "إن فيلم «الخطببان - I Fidanzati (1963)» -ظاهرياً- سرد محايد، ولكننا ندرك فجأة أنه ذاتي للغاية لدرجة أنه يكاد يكون هلوسة، وإن موضوع أولمي الحقيقي هو الحالة الذهنية التي تتجلى بطريقة رؤية الواقع غير الدرامي".
في كثير من أعماله، يمكننا أن نرى ما قاله «ديفيد تومسون» بوضوح حيث أن هنالك سيرة ذاتية خفية، تتجلى في الشخصيات والقصص التي يرويها. أولمي، الذي وُلد ونشأ في بيئة ريفية كادحة، يعكس بشكل غير مباشر تجاربه الشخصية وتحدياته من خلال منظور شخصياته التي غالباً ما تكون بسيطة وتكافح لتحقيق أحلامها في وجه ظروف قاسية. سواء كان ذلك الفتى الذي يكافح للانتقال إلى المدينة بحثاً عن حياة أفضل أو العائلة الريفية التي تصارع من أجل البقاء في مجتمع يتغير بسرعة، نجد أن هذه القصص تتحدث عن أولمي نفسه بطريقة غير مباشرة. إن السيرة الذاتية الخفية في أعماله هي بمثابة مرآة لحياته وأفكاره وتجاربه، مما يمنح أفلامه طبقة إضافية من العمق والتعاطف، ويجعلها أعمالاً بلمحة شخصيّة أكثر صدقاً.
أولمي في لقاءه في مهرجان لوكارنو السينمائي1 سنة 2004، قدم رؤيته العميقة للحياة من خلال تقسيمه لتجربة الفرد إلى ثلاث مراحل زمنية، حيث يرى أن الإنسان يعيش حياة مترابطة عبر ما يشبه دورات متعاقبة من الفهم والتفاعل والمراقبة. في المرحلة الأولى، وهي مرحلة الطفولة، يبدأ الفرد باكتشاف العالم من حوله، في محاولة لفهمه والتعاطي مع تفاصيله. هذه المرحلة تُعد بمثابة الانفتاح الأول على الوجود، حيث يكون المرء في حالة من التعلم الدائم، يمتص كل ما يراه ويسمعه كما لو كان يختبره للمرة الأولى. مع التقدم في العمر، يدخل الإنسان عمر الشباب، وهي المرحلة التي يتفاعل فيها الفرد مع الحياة بشكل مباشر، ويخوض فيها تجاربه بكل قوة. هنا وكما قال أولمي يصبح الإنسان بطل قصته الخاصة، يواجه التحديات، يتخذ القرارات، ويؤدي دوراً نشطاً في صياغة واقعه. إنها المرحلة التي يواجه فيها الفرد الحياة بجرأة، ويتعامل مع معطياتها وصراعاتها. لكن مع مرور الزمن، يصل الإنسان إلى ما وصفه أولمي بعمر المراقبة، وهو عمر يحمل في طياته أبعاداً فلسفيّة وتأمليّة عميقة. في هذه المرحلة، يصبح الفرد مراقباً للحياة من الخارج، حيث يجد نفسه غير مشارك بقدر ما هو متأمل ومحلل. ما يراه في هذه المرحلة ليس جديداً، بل يبدو له كما لو أنه شاهد كل شيء من قبل، رغم أنه قد يشهد تفاصيل جديدة للمرة الأولى. يشبّه أولمي هذه الحالة بالوقوف على سكة الطريق ومراقبة المشاهد التي تتكرر أمام عينيك، لتصبح مألوفة بشكل غريب بالرغم من حداثتها. هذه الفلسفة التي طرحها أولمي تعكس رؤيته للعالم كبناء متكرر يتأمل فيه الفرد، ويسعى لفهمه حتى يصل إلى مرحلة من التكرار والتأمل الهادئ. هذا المنظور لم يكن مجرد فكرة فلسفية في حديثه، بل هو أيضاً انعكاس واضح لطريقة تقديمه للقصص والشخصيات في أفلامه، حيث يُظهر البساطة بوصفها جوهراً لواقع الحياة اليومية، ويحول تلك اللحظات المتكررة والمألوفة إلى تجارب غنية بالمعنى، ما يجعل أعماله تأملية وشاعرية بامتياز وأشبه بكونها سردٌ لسيرة ذاتية.
ونرى في شخصيات أفلامه، بغض النظر عن بساطتها الظاهرة، إلا أنها تشع بروح إنسانية، وكأنها تمثل أجزاء من ذاته في مراحل عمرية وأوضاع مختلفة. أولمي يستخدم السينما كأداة للتأمل في حياته، يروي من خلالها قصصه ويعكس بها أفكاره وفلسفته عن الإنسان والمجتمع. لهذا السبب، يمكن اعتبار أفلامه أعمالاً تُمزج فيها السيرة الذاتية بشكل غير مباشر، حيث تتداخل حياته الشخصية مع حياة الشخصيات التي يروي قصصها، مما يضيف بعداً خاصاً وجواً من الحنين العاطفي والواقعي.
عبثية كافكاوية في أروقة البيروقراطية
في معظم أعمال الكاتب الشهير «فرانز كافكا» نرى أن الصراع الدائم هو النظام مقابل الإنسانية. في روايته الأشهر «الإنمساخ»، نرى تجلي هذا الصراع من خلال شخصية بطله «غريغور سامسا»، الذي يواجه الضغوطات الاجتماعية والعائلية التي تحيط به. تتناول الرواية قضايا العزلة والاغتراب، حيث يظل غريغور متمسكاً بجوانب إنسانيته رغم التحول الجسدي الذي ألمّ به، محاولاً الحفاظ على علاقته بأسرته. غير أن النظام الذي يحيط به، ممثلاً في عائلته والمجتمع، يعمق شعوره بالانفصال والعزلة. تسلط الرواية الضوء على كيفية تآكل إنسانية الأفراد بفعل النظام الاجتماعي، الذي يمزق الروابط الأسرية، مما يطرح تساؤلات حول الأخلاق والقيم في مجتمعاتنا اليوم. في النهاية، يجسد غريغور معاناة من يكافحون ضد قيود المجتمع في سعيهم للقبول والاعتراف.
روح كافكا تحوم في معظم أعمال أولمي، خصوصاً في فيلمه الأجمل في نظري «الوظيفة - Il Posto (1961 )». في هذا الفيلم، نجد دومينيكو اليافع مضطراً للغوص في وحل البيروقراطية، مجبراً على التخلي عن جميع طموحاته قبل حتى أن يحاول السعي وراءها. حتى في علاقته القصيرة بالشابة أنطونيا والتي تمنحه لحظات من الأمل، يفقدها بسرعة، وكأن لعنة البيروقراطية ألقت بظلالها عليه. دومينيكو لم يفقد فقط أحلامه الكبرى مثل الدراسة والحب، بل حتى أموراً صغيرة وسخيفة كأدواته الدراسية التي نراها تأخذ رمزية بقايا الطموح الكبير المتبقي لديه. يسعى أولمي من خلال تسلسل الأحداث إلى تصوير الحالة الاجتماعية السائدة في تلك الحقبة، وهي حالة لا تزال قائمة في العديد من الأماكن حول العالم حتى يومنا هذا.
يمتاز الفيلم بطبقات متعددة، أولاها طبقة هشة تظهره كفيلم بسيط ينتقد الحالة المجتمعية القاسية في تلك الفترة وكيف آلت إليه أحوال الشباب. وتعلو هذه الطبقة طبقة أخرى أكثر سماكة وقتامة، متأثرة بوضوح بروح كافكا. في مشهد المقهى -على سبيل المثال- نرى بوضوح هذه الطبقة عندما تتجلى الحوارات الصامتة ويتم تبادل النظرات بين دومينيكو وأنطونيا، وتظهر شخصية دومينيكو وهي تتشكل بشكل مشابه لتبلور شخصيات كافكا. ومن ثم يعيش دومينيكو تجربة قصيرة في الحلم، لكن سرعان ما يعود إلى عالم الشتات والعدم، تماماً كما في رحلات كافكا.
في فيلمه الأول «الزمن الثابت - Time Stood Still (1959)»، يظهر تأثير كافكا أيضاً، وإن كان بشكل أكثر خفوتاً. كون الفيلم يمثل تجربة توثيقية إلى حد كبير، ولم يكن لأولمي بعد الرؤية الفنية الشاملة التي طورها لاحقًا، ولم يتحرر تماماً من قيود موجة الواقعية وأسلوبها الوثائقي.
نصل بعد ذلك إلى الطبقة الثالثة، وهي الطبقة الشعرية. هذه الطبقة هي الأرقُّ والأقل وضوحاً، إذ أن الشعر في السينما عنصر غير مادي يصعب خلقه بإرادة محضة. الشعر في الأفلام يُستخلص من التفاصيل والعناصر الخارجية، على عكس المشاعر التي تنبع من الداخل. أولمي نجح في تهيئة العناصر التي تثير الشعر، مما أضفى على الفيلم طابعاً فنياً رقيقاً ومتفرداً.
في النهاية، يمكن وصف «الوظيفة - Il Posto (1961 )» بأنه فيلم يبدأ بفقدان الأحلام وينتهي بفقدان الأمل. كما قال كافكا في رسائله إلى ميلينا: "كان عليكِ أن تأتي قبل أن تموت الكلمات في فمي، قبل أن يُغلق قلبي أبوابه، قبل أن أُعيد يديّ إلى جيبي بدلاً من أن تعانق الفراغ، قبل أن أكفّ عن التمتمة باسمك كأنها تعويذة. لكنكِ تأخرتِ كثيراً". هذه الكلمات تجسد حالة دومينيكو في نهاية الفيلم بشكل مثالي.
وبلا شك فيلم «الوظيفة - Il Posto (1961 )» يمثل أقرب تعبير عن الشخصية الفنية لأولمي. ورغم أن حياة المخرج كانت أكثر إشراقاً مقارنة بمسيرة دومينيكو، إلا أن الفيلم انتهى بنبرة قاتمة. هنا يبرز التساؤل: هل كان أولمي ينوي إكمال قصة دومينيكو في أعماله اللاحقة، أم أنه ترك الأمر للمشاهد ليصوغ بنفسه النهاية الأنسب لبطل الفيلم؟ أم أن النهاية المفتوحة كانت هي ما أراده بالفعل، تعبيراً عن رؤيته الفنية؟
أولمي بين الحياة اليومية والتأمل الوجودي
عند امتزاج الروتين اليومي بالمنظور الروحي في سينما أولمي، يصبح العمل أكثر من مجرد سرد لحكاية، بل يتحول إلى نوع من الطقوس، أشبه بقدّاس ديني يُستدعى من خلال التفاصيل اليومية. هذا ما نراه بشكل جلي في فيلمه الأشهر «شجرة القباقيب الخشبية - The Tree of Wooden Clogs (1978)»، حيث نسج لنا أولمي ملحمة فلاحية مبنية على رواية تدور أحداثها في ريف إقليم لومبارديا شمال إيطاليا في أواخر القرن التاسع عشر. هذه الملحمة لم تكن مجرد استعراض لحياة الفلاحين البسطاء في تلك الحقبة، بل كانت إعادة صناعة بحبٍ فطري للحياة اليومية، ومواقف الناس المتواضعين. أولمي لم يكتفِ بعرض تلك الحياة من الخارج، بل غاص في أعماقها، ملتقطًا تفاصيل الروتين البسيط الذي يشكّل محور حياة هؤلاء الناس. ما يميز الفيلم هو القدرة على دمج هذا الروتين اليومي مع بعد الروحي، حيث تتناغم الحياة المادية مع التأملات الروحية، ليمتد الفيلم إلى ما هو أبعد من السرد المعتاد.
الفيلم الذي يستغرق حوالي ثلاث ساعات ليس مجرد رحلة زمنية في حياة الفلاحين، بل كما قال الناقد «ديفيد تومسون» وصفاً الفيلم بكونه: "بانوراما دينية عميقة"، حيث أن الروتين اليومي في الفيلم لا يُستنزف في تفاصيله المادية، بل يتحوّل إلى طقس وجودي.
هذا المزج بين الروتين العادي والروحانية يجعلنا وكأننا نرى في العمل لمسات من لوحات الفنان الهولندي «بيتر بروخل الأصغر» التي تحتفي بالتفاصيل اليومية، إلى جانب تأثير واضح من تيار الواقعية الجديدة، الذي يميل إلى تصوير الحياة كما هي بدون تجميل أو تزييف. هنا تتجلى عبقرية أولمي في تقديم الحياة بصدق شديد، ولكن دون فقدان البعد الجمالي أو الفلسفي. فهو يقدّم شخصياته لا كمجرد عمّال أو فلاحين، بل ككائنات إنسانية تعيش تحت وطأة ظروف اقتصادية قاسية، ولكن في نفس الوقت، تجد طريقها إلى الروحانية من خلال أعمالها اليومية.
الحياة الروتينية التي يعرضها لنا أولمي في هذا الفيلم ليست حياة فارغة أو بائسة، بل تحمل في طياتها جوانب فلسفيّة تأملية، حيث العمل يتحول إلى طقس عبادي، والواقع اليومي إلى مكان لاكتشاف الروح والجمال. كما أن الفيلم لا يقدم فقط سرداً لحياة الفلاحين البسطاء، بل يعكس صورة كاملة لمجتمع متكامل، يكافح ويعيش معاً، ويجد الجمال والطمأنينة في أبسط الأمور. هنا تظهر براعة أولمي في خلق هذا المزيج من الواقعية والروحانية، حيث يبدو الفيلم في النهاية كنوع من التأمل في الحياة والوجود، يدعو المشاهد للتفكر في طبيعة الحياة اليومية التي نعيشها ومدى ارتباطها بالمعنى الأعمق للوجود.
العزلة الجغرافية وتآكل العلاقات
في أعماق التجربة الإنسانية، تتجلى العلاقات العاطفية كمساحات تتراوح بين القرب والبعد، بين الحميمية والاغتراب. الحب، ذلك الشعور الذي يبدو في ظاهره بسيطاً، يتعرض لتحديات لا تنبع فقط من الأزمات الظاهرة، بل من المسافات النفسية والجغرافية التي تفرضها الحياة. في كل علاقة، هناك بُعدٌ خفي يختبر فيه الأفراد صبرهم وشوقهم، مساحات فارغة تُملأ بالانتظار والتأمل، وتظل التساؤلات قائمة: هل يمكن للمسافة أن تعمق العلاقة وتكشف عن جوهرها؟ أم أنها تدفعها إلى الهاوية حيث تنفصل الأرواح تدريجياً دون دراية؟
فيلم «الخطببان - I Fidanzati (1963)» لأولمي يلتقط هذا الصراع الخفي بعمق وشاعرية، عبر علاقة بين شاب وفتاة مخطوبين يفصل بينهما المكان والظرف الحياتي. تبدأ القصة عندما يبعث الشاب للعمل في مصنع بعيد عن مدينته، وتصبح المسافة بينه وبين خطيبته امتحاناً حقيقياً للعلاقة. هنا، لا يعالج أولمي المسافة المكانية فحسب، بل يقدم استكشافاً وجودياً للبعد النفسي الذي تفرضه الحياة الحديثة، حيث يصبح الروتين والعمل قوى قاهرة تساهم في تآكل العلاقات الإنسانية. من خلال أسلوبه المتفرد في التركيز على التفاصيل الدقيقة، يرسم أولمي لوحة مليئة بالتأملات حول الوحدة والشوق، ويظهر الفيلم كتحليل عميق للعلاقات العاطفية في مواجهة الروتين والمسافة.
لا يعتمد الفيلم على الدراما الصاخبة أو الأحداث الكبرى، بل على الإيقاع الهادئ واللقطات الطويلة التي تتيح للمشاهدين فرصة التأمل والشعور بالفراغ الذي ينمو بين الشخصيتين. المسافة بين الحبيبين ليست مجرد بعد جغرافي، بل تصبح رمزاً للعزلة النفسية والعاطفية التي تتغلغل ببطء في العلاقة. الشاب، الذي يجد نفسه في بيئة عمل جديدة، يواجه تحولاً داخلياً حين يبدأ في النظر إلى حياته وعلاقته من منظور مختلف. الروتين الذي يلتهم أيامه في المصنع يشبه الجدار غير المرئي الذي ينمو بينه وبين خطيبته. هنا، يعكس أولمي تأثير الحياة الحديثة والعمل على الروابط الإنسانية، ويطرح تساؤلات حول كيفية استمرار العلاقات في مواجهة الضغوط والمسافة التي تخلق تفصل الجسد والعاطفة.
عبر اللقطات الهادئة والبطيئة، يحاكي الفيلم إحساس الفراغ الذي يشعر به كل من الحبيبَين، وكيف يتحول الشوق إلى اختبار للحب؛ هل يتجاوز الشوق حدود الجغرافيا أم يصبح حملاً ثقيلاً يكشف عن ضعف العلاقة؟ وفي النهاية، يظهر فيلم «الخطببان - I Fidanzati (1963)» كرحلة شعرية في قلب العلاقات البشرية، حيث يُبرز الفيلم أن المسافة هي اختبارٌ لقوة الحب أو ضعفه. المسافة هنا ليست مجرد عائق، بل مرآة تعكس حقيقة ما يكمُن داخل القلوب. وفي ظل هذه التأملات، يتركنا أولمي أمام تساؤل فلسفي عميق: هل يمكن للحب أن ينجو من اختبار المسافة والزمن، أم أن الروابط الإنسانية دائماً محكومة بالانهيار تحت وطأة الظروف الحياتية؟
العيون لدى أولمي
عند مشاهدتي الأولى لأولمي قلت في داخلي ولنفسي، لن أجد مخرجاً يهتم بالتواصل مع أذهان متابعيه من خلال عيون شخصياته كما يفعل إرمانو أولمي. في عيون أبطاله تتجلى أفكار متشابكة وكثيفة، ذكريات محملة بالآلام والأفراح، وحياة كاملة تتكشف دون حاجة إلى كلمات.
و هذا لكونه مخرجاً يثق في قوة النظرات وقدرتها على نقل مشاعرَ لا تستطيع الحوارات التعبير عنها، فنرى في تلك العيون عالماً من التجارب الإنسانية والخيبات والانتصارات. أولمي يجيد جعل أعين شخصياته مرآة للواقع الداخلي، ويأخذنا في رحلة صامتة ومؤثرة من خلال تلك اللقطات التي تتحدث أكثر من أي حوار.
في عالم السينما، يتم توظيف اللقطة بشكل رئيسي لتقديم القصة. غالباً ما يتناسى المشاهد أهمية تعبيرات الوجه وحركات اليد في نقل الرسائل العميقة. لغة العينين على وجه الخصوص تمثل نافذة إلى الروح، وهي الأداة التي يجيد إرمانو أولمي استخدامها بشكل خاص في أعماله. ربما يمكننا مقارنتها بأفلام القدير «إنغمار بيرغمان» التي تشتهر بتعبيرات الوجوه التي تنقل مشاعر الصراع الداخلي، أو حتى لقطات الأيدي الشهيرة عند «روبير بريسون» والتي تحمل في طياتها كل معاني القوة والضعف. في أعمال هؤلاء المخرجين، لا تقتصر لغة الجسد على الحركات فقط، بل تصبح تمثّلاً للعلاقات بين الشخصيات والأحداث التي تحيط بهم.
إرمانو أولمي، على غرار بيرغمان، يمتلك قدرة استثنائية على تجسيد الأفكار والمشاعر التي تقبع في أعماق شخصياته من خلال عيونهم. هذه العيون تصبح مرآة لماضيهم، لآمالهم المحطمة، ولحظات الفقدان والبحث المستمر عن المعنى. وإذا نظرنا إلى أفلامٍ مثل «أسطورة السكير المقدس - The Legend of the Holy Drinker (1988)»، فإن لغة العيون تصبح العنصر الرئيسي الذي يشير إلى الصراع الداخلي لشخصية البطل أندرياس، الذي يحاول أن يجد الخلاص بينما يواجه انهيار قيمه القديمة وتعكس عذاباته الروحية، وتملؤها الأسئلة التي لا تجد لها إجابة. والأعين في هذا الفيلم ليست مجرد أداة خفية، بل هي وسيلة للتعبير عن شعور الشخص بالضياع أو الإيمان، وتتداخل مع مشاهد أندرياس وهو يطلب الخلاص.
بجانب هذا، نجد في الفيلم تمثيلاً صريحا لرؤية أولمي المميزة للعلاقة بين الإيمان والإنسانية، وهي سمة تتكرر في العديد من أفلامه. هذا الصراع بين الماضي والحاضر، بين القيم القديمة والحديثة، يتجلى بوضوح في أندرياس، الذي يتصارع مع إرثه الشخصي وما فقده من قيم ومعتقدات. أولمي، عبر استخدامه للحركات البطيئة ولحظات التأمل الطويلة، يجعلنا نشعر بثقل الزمن والقرارات التي تلاحق الشخصية، مما يضفي على العمل طابعاً فلسفياً عميقاً.
ومن خلال هذه اللغة السينمائية المعقدة والمركبة، يُظهر لنا أولمي كيف يمكن للأفلام أن تتجاوز حدود القصة المعتادة، لتصبح تأملات في الحياة والموت، في الإيمان والضياع، وكيف أن لغة السينما يمكن أن تكون وسيلة لفهم النفس البشرية بأبعادها الكامنة.
إرمانو أولمي مخرج الظلال وصانع التأملات الخالدة
في رأيي الشخصي، أعتقد أن إرمانو أولمي المخرج الكاتب والمحرر أيضاً، رغم كونه قد لا يتمتع بشهرة العديد من أقرانه، لكنه كان بالتأكيد مخرجاً متفرداً ومميزاً استطاع صناعة لغة سينمائية خاصة به، لغة ولدت في الظلال وبقيت محفورة في ذاكرة من تجول في دهاليز عوالمه.
صَنع من الحياة العادية تحفاً سينمائية تتناول أسئلة الإنسان الكبرى، مقدماً أعمالاً تظل قريبة من الروح، تتأمل في الصراعات الأبدية بين النظام والإنسانية، الإيمان والشوق، الفرد والمجتمع. أعمال تحمل عبق الماضي وتساؤلات المستقبل، حيث يعيش المشاهد في ظل تأملات لا تنتهي.
كل مشهد في أفلامه كان ينضح بحساسية فريدة، ومع هذا الابتعاد عن المباشرة، كان أولمي ينقل المعاني الأعمق ببراعة مذهلة. استطاع أن يحوّل الصمت إلى حديث متواصل بينه وبين جمهوره.
ربما لم يكن إرمانو أولمي نجماً في سماء السينما المكتظة، لكن في الظلال التي عاش وعمل فيها، صنع أسلوباً سينمائياً خالداً في قلب الفن السابع، ألهم أجيالاً عديدة من محبي السينما وصناعها.