«رجل يُدعى أوتو»: ماذا يبقى في الحياة بعد الفقد؟

November 9, 2022

فيلم «رجل يُدعى أوتو - A Man Called Otto» من الأفلام البسيطة والمباشرة، التي لا تقدم وعودًا كبيرةً، ولا تسعى للإبهار لا على مستوى القصة ولا الحبكة ولا الحوارات، ولا على مستوى التصوير ولا الإخراج ولا الموسيقى، ومع هذا كله فهو فيلم ممتع، يتأرجح بين الكوميديا والدراما، بفكرة واحدة بسيطة ومباشرة، ربما يراها كثيرون شائعة ومطروقة؛ تتمثل في حياة أوتو بعد وفاة زوجته -حبه الوحيد- بالسرطان، وتقاعده من وظيفته بعد عقود من العمل.

السؤال الذي يحاول الفيلم الإجابة عنه: كيف سيعيش أوتو الذي تجاوز الستين من العمر مع الفقد والوحدة والنكبات الكبرى التي عصفت بحياته؟ هذا ما يتناوله الفيلم -بعيدًا عن التنظيرات والفلسفات الكبرى- من خلال مفارقات بسيطة وحوارات عادية ومواقف يومية معتادة.  

الفيلم من بطولة توم هانكس الذي قام بدور أوتو، وسبق لهانكس أن فاز بجائزتَي أوسكار عن بطولة فيلم «فيلاديلفيا» وفيلم «فوريست غامب». وشاركته في الفيلم الممثلة المكسيكية ماريانا تريفينو، التي أضفت على الفيلم لمسة لطيفة من خلال أدائها الجميل والطابع الكوميدي الذي وسم تقاطعاتها مع هانكس خاصة في بدايات الفيلم وقيامها بدور ماريسول المهاجرة التي تريد أن تبدأ حياتها مع زوجها في المجمع الذي يسكن به أوتو. وساندتهما في بطولة الفيلم الممثلة الأمريكية راشيل كيلر بدور سونيا زوجة أوتو. لكن -بلا شك- استأثر هانكس ببطولة شبه مطلقة؛ إذ بدت أدوار الممثلين حوله أدوارًا مُسانِدة لا بطولة مشتركة، ويمكن أن نقول: إن نجاح الفيلم كان مرهونًا بهانكس، ولولا وجوده ربما لم يسمع أحدٌ بهذا الفيلم. 

أخرج الفيلم السويسري الألماني مارك فورستر، الذي سبق له أن أخرج أفلامًا ناجحة من أبرزها «العثور على أرض الخلود - Finding Neverland» وفيلم «حرب الزومبي العالمية - World War Z»، وقدم فوستر -من خلال هذا الفيلم- لقطات ومشاهد مباشرة وبسيطة تتناسب مع طبيعة الفيلم، بلا تكلف في التصوير، أو محاولة لإضافة استعراضية في الإخراج قد لا تتناسب مع طبيعة العمل. 

شخصية أوتو من الشخصيات التقليدية التي تجمع بين حدة الطباع، والطيبة، وصلافة الانطباع الأول؛ التي سرعان ما تتحول إلى مودة، وهذا نمط من الشخصيات الشائعة في الحياة اليومية، وهو أيضًا من الشخصيات كثيرة التناول في الأفلام، خاصة إذا أرادت إضفاء طابع كوميدي على موضوع درامي؛ لتُخفف حدته.

يبدأ الفيلم بمشهد أوتو متذمرًا في متجر كبير للأدوات، وهو يشتري حبلًا قصيرًا، يقيسه بشكل دقيق، ثم بعد برهة يشتكي أوتو من البائع في المتجر؛ بسبب خلاف على مبلغ لا يتجاوز 20 سنتًا، إلا أن المشهد يُظهر سمات الدقة والانضباط في شخصية أوتو. 

بعدها تتوالى الأحداث التي تبين دقة حياة أوتو وانضباطها؛ فهو يتعارك مع سائقي السيارات؛ لمخالفتهم سياسة الوقوف في المبنى الذي يسكنه، والذي يتمتع بقوانين خاصة أشرف بنفسه على وضعها بصفته مُمثلًا للساكنين في هذا المبنى. ثم يأتي مشهد تقاعده، والذي لم يكن خياره الأول، بل أُجبر عليه. وتتصاعد الأحداث في بداية الفيلم، ويتصاعد معها إبراز هوس أوتو بالدقة والانضباط؛ فهو يتصل بشركة الكهرباء لقطع الخدمة عن شقته، ثم يطلب فصل خدمات الهاتف، وفصل كافة الخدمات عن مقر سكنه، فنقع في حيرة من أمرنا متسائلين: ما قصة الحبل؟ 

يرغب أوتو في الانتحار؛ فهو لا يطيق الحياة بعد زوجته المتوفاة قبل ستة أشهر، لكنه يريد أن يفعل كل شيء بشروطه، فهو يجهز الحبل، ويربطه بدقة في السقف، ويفصل الخدمات عن شقته؛ فلا حاجة للإسراف في الكهرباء أو بقاء خدمة الهاتف بعد رحيله، ويقوم بترتيب الشقة، ثم المكان الذي يريد أن ينتحر فيه، فيضع أوراق الجرائد على أرضيات غرفة انتحاره؛ لكي لا تتسخ!

هذا الهوس بالدقة والانضباط لا ينعكس على محاولات أوتو المتعددة والمختلفة للانتحار، والتي يفشل فيها؛ فالسقف لم يحتمل ثقل أوتو، فأفلت الوتد المثبت للحبل، وسقط على الأرض حيًّا يتنفس. وعلى هذا المنوال تفشل كل محاولات انتحاره؛ هل هناك شيء في أعماق أوتو يجعل رغبته في الانتحار ناقصة دائمًا؟

يتناول الفيلم اليأس الذي يحيط بنا عند فقْد مَن نحب، والظلام الذي تكتسي به حياتنا بمغادرتهم، فلا يسعنا إلا التفكير باللحاق بهم بأي ثمن، لكن كما نرغب في الرحيل من أجل الآخرين، نرغب في البقاء لأجلهم أيضًا، فلا يوجد علاج لفكرة الانتحار أكثر فاعلية من التفكير فيمن حولك، فيمن يحبونك أو تحبهم.

وهنا مكمن جمال الفيلم في مباشرته وبساطة فكرته، فمَن انتشل أوتو من فكرة الانتحار لم يكن العائلة أو الأصدقاء، فهو وحيد تمامًا؛ فقد فقد كل شيءٍ برحيل زوجته. لكن مَن أخرج أوتو من دوائر اليأس -في النهاية- هم الغرباء المحيطون به، والمتطفلون على حياته، مستفزين دقته وانضباطه وطيبة قلبه؛ ليصبح أوتو جزءًا من حياتهم، فيحل مشكلاتهم، ويصلح شؤونهم المضطربة؛ وهنا -بشكل مفاجئ- يصبح الغرباء لا الأحباب طوق نجاة ودافع بقاء. 

ما تبدو صفات سلبية في أوتو -أعني الدقة والانضباط بشكل حاد يصل لترتيب المنزل، ووضع عوازل بلاستيكية على الأرضيات لكي لا تتلطخ بدماء انتحاره- هي بالضبط ما أنقذه، فهو لا يطيق أن يرى خللًا ولا يحاول إصلاحه. 

يمكن أن تدور عدة أسئلة حول تناول الفيلم لفكرة الانتحار؛ فالانتحار بعد موت (حبيب/ قريب) أو فقده فكرةٌ دارجةٌ، إلا أن السؤال الأهم: هل يمكن للآخرين أن يكونوا درعًا واقيةً من الأفكار الانتحارية؟

يجيب عن هذا السؤال بصورة مباشرة الفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم (1858– 1917) الذي كتب دراسة من الدراسات العلمية الهامة والمبكرة في نهاية القرن التاسع عشر حول الانتحار، والتي على الرغم من تقادمها إلا أنها تضمنت كثيرًا من الأفكار والملاحظات الصامدة حتى اليوم.

يرى دوركايم أن الانتحار واقعة اجتماعية تحدث لعدة أسباب منها الانتحار الأناني، والذي ينتشر في المجتمعات شديدة الاندماج؛ إذ يشعر فيها الأرامل -مثلًا– أنهم منعزلون عن مجتمعاتهم، ما يدفعهم إلى الانتحار، وهو الذي ينطبق على شخصية أوتو في هذا الفيلم؛ لكن ما معنى أن الانتحار واقعة اجتماعية؟ 

المقصود بالواقعة الاجتماعية أي فعل أو موقف يمارس على الفرد ضغوطات خارجية؛ فالانتحار -كما يراه دوركايم– نتيجة ضغوطات خارجية على الإنسان، ولا علاقة له بالعوامل الوراثية أو الأمراض النفسية، وتزداد إمكانية الانتحار عكسيًّا مع الاندماج في المجتمع؛ فكلما كان الفرد أكثر اندماجًا في مجتمعه/ عائلته، تقل إمكانية تعرضه للأفكار الانتحارية تحت وطأة الوقائع الاجتماعية. 

على الرغم من بساطة الفيلم ومباشرته، فإنه يجسد هذه الفكرة بصورة دقيقة؛ فأوتو تعرض لوقائع اجتماعية مؤذية تشكل ضغوطات كبيرة عليه (فقدان زوجته وتقاعده)، فشعر أنه منعزل (فقد الاندماج بمن حوله)، الأمر الذي أدى إلى سيطرة فكرة الانتحار عليه، إلا أن ما ينتشله من هذه الفكرة هو تطفل الآخرين على حياته، وضغطهم عليه للاندماج في المجتمع مجددًا. 

تبدو اليوم -وبعد مرور أكثر من قرن على دراسة دوركايم للانتحار- فكرتا الانتحار تحت وطأة الواقعة الاجتماعية والربط بين معدلات الانتحار والاندماج في المجتمع مقبولة بصورة كبيرة، إلا أن استبعاده للعوامل الوراثية والنفسية موضع مراجعة كبير؛ فالدراسات اليوم تحيل إلى القابليات الجينية (الوراثية) والاضطرابات الذهانية باعتبارها منتجة للأفكار الانتحارية ودافعة للانتحار. 

تبدو فكرة الانتحار من الأفكار المعقدة جدًّا والملتبسة في الحياة، ويبدو نقل هذا التعقيد إلى الأفلام السينمائية مهمة صعبة لا يجرؤ كثير من الكُتَّاب والمخرجين على خوضها، إلا أن فيلم «رجل يُدعى أوتو» -على الرغم من بساطته ومباشرته- استطاع أن يلامس موضوع الانتحار بشكل جيد، يصل إلى النداءات الرئيسة التي تُقال لليائسين في هذه الحياة: "هناك مَن يسعد بوجودك"، وكأن التفكير بالآخرين من حولنا يدعونا للتمسك بالحياة وإن نكأت جروحنا وتمادت في إغراقنا في آلامها.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى