لكل مهرجان سينمائي ثيمة تعبّر عن هويته ورؤيته الفنية، وقد تتبدّل هذه الثيمة من دورة لأخرى بحسب طبيعة البرمجة والتوجهات السينمائية العامة. وفي الدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي رُفع شعار «في حب السينما» بوصفه عنوانًا للدورة وهويتها المُعلَنة، لكنه لم يتحول إلى إطارٍ فعليٍّ يوجّه البرمجة كما حدث في دورات سابقة؛ فالدورةُ الثالثة قدّمت شعار «قصتك بمهرجانك»، الذي انعكس بوضوحٍ على اختيار الأفلام وبرنامج المواهب، بينما شعار الدورة الرابعة «للسينما بيت جديد» فقد تجذّر في انتقال المهرجان إلى "جدة، البلد" في مساحاته وتوجهاته البرمجية، لكن يبدو أن الدورة الخامسة لم تُفعّل ثيمتها بالقدر ذاته من الاتساق ولم تُعِر الشعارَ أي اهتمام.
وإذا كان شعار الدورة لم يترسّخ في برمجتها، فإن ما برز فعليًا داخل البرامج يكشف عن ثيمةٍ موازية؛ ففي قسم «السينما السعودية الجديدة»، المجموعة الأولى منه تحديدًا، برزت ثيمة الموت، وهو أمر غير مذكور كتوصيف للمجموعة. على إعتبار أن الموت مركزٌ تتفرع منه الكثير من الأسئلة سواء على مستوى البنية السردية أو الشخصيات التي تعيش داخل عوالمها مختنقةً بالغياب، يمكنُ الدخول إلى قراءة كل فيلم على حدى، ليس بهدف الحكم عليه بميزان الثيمة وحدها - التي استنتجها المشاهدون - بل لفهم كيف يتشكل صوت الفيلم داخل هذه البنية المشتركة.
«الهندول» واستمرارية الوجود
من خلال مشاهدتي لفيلم «الهندول»، الذي كُتب قبل عشر سنوات، وانطلقَ من فكرةٍ راودت مخرجه ممدوح سالم، وكتبها فاروق الشعيبي، فقد أصابتني الدهشة لعدم تذكري لأي عملٍ سعوديٍّ سابق تناول موضوعات الموت والفقد بطريقة غير تقليدية، بمعنى أني لم أر من قبل فيلمًا يدخل إلى المقبرة، أو يصوِّر مراسمَ الدفن والعزاء دون أن يحمل رسالةً توعويةً ونبرةً وعظية مباشرة أو تذكيرًا بعذاب القبر.
يتابع الفيلمُ الطفلَ علاء، الذي يجدُ نفسه تائهًا بعد دفن والده، فهو لا يغمره الحزن مثل والدته بقدر ما يواجه صدمةً وارتباكًا عميقين تجاهَ معنى الموت وما يترتّب عليه. هذا كله يدفعه للذهاب مرارًا إلى المقبرة، بحثًا عن إجابة أو تقفِّيًا لاحتمال عودة أبيه. وهناك يصادف سالم، النجار المُسّن الذي يعمل بالقرب من المقبرة، فتنشأ بينهما علاقة أب وابن، تساعده تدريجيًا على إدراك أن الموتَ جزءٌ طبيعيٌّ من دورة الحياة، وتتحوّل رحلته إلى حالة تأملية في ثنائية الحياة والموت، وفي معنى "البناء" عندما ينهدم وجود الأب.
والهندول هو السرير المُعلّق المُخصَّصُ للرضع، وفي بعض الأحيان يُطلَق على المهد الصغير المتأرجح. وفي الغالب نجد أن الارتباط الأول بأي فيلم يبدأ من عنوانه، أما في حالة «الهندول» فينتهي به.
في أحيان كثيرة، يُصوَّر الطفل كعنصرٍ هشٍ في الأفلام التي تُناقش فكرةَ الموت، ولكن «الهندول» يتعامل مع هشاشة علاء بوضوح، ويتركها مكشوفه دون حماية، كحقيقة يجب على المُشاهد رؤيتها كما تحدث في الواقع. يذهب الطفل مرارًا إلى القبر، حاملاً ألعابه منتظرًا… ويستمر في الانتظار. ويُعاد تقديم المشهد نفسه، لا كإصرارِ طفلٍ لا يفقه معنى الرحيل، بل كإعلانٍ صريحٍ لرفض الموت.
في المشاهد الأولى من الفيلم، نكتشفُ أن والدة علاء حامل، ولا أدعي امتلاك معرفة طبية، تمامًا كما أدعي فهم السينما، لكن حالتها تُظهر أنها في المرحلة النهائية من الحمل. وقد تردَّدت في خلفية العزاء تلاوةٌ لسورة يوسف، فنشأُ تجاورٌ بصري وسمعي. فهناك موتٌ يُوارَى في «مقبرة أمنا حواء» من جهة، وحياة تتكوَّن في الرحم من جهة أخرى. كما أن استدعاء سورة يوسف في العزاء لم يأت مصادفة، فالقصة في جوهرها تجسِّد الانفصال، وتتّجه تدريجيًا نحو الترميم والتجلّي رفقة العم سالم. وكذلك، فإننا نرى في النهاية علاءً وهو يكيد لأخيه الصغير بصنعه للنعش، على نحو يستدعي إلى الأذهان ما فعل إخوة سيدنا يوسف عليه السلام حينما ألقوه في البئر، فبِيع غريبًا، وفقد أباه لفترة.
ومع ظهور العم سالم، النجارُ المسن الذي فقد ابنه حمادة، فإن علاقةً أبويةً تبدأ في التشكل، إذ يجد في علاء مساحة للحنين وربما بقايا دور أبوي بداخله ومشاعر مكبوتة للأبوة لم تجد طريقها إلى الخارج. وفي المقابل، يجد علاء الذي فقد والده في العم سالم ظلًا لحزنه. وهذا ما جعل علاقتهما أشبه بجرحين يتقاطعان. وحين يقتربُ من علاء، يفتح له باب النجارة. في تشبيه آخر بقصة النبي زكريا عليه السلام، الذي كان نجارًا وكانت زوجته عاقرًا، أي كانت ذريتهما غائبة، ورزقه الله بعد دعائه بيحيى عليه السلام. أما العم سالم، فيعيشُ الجانبَ الآخر من الحكاية: لم يعد لديه ابن، لكنه يكتشف فرصة لممارسة الأبوة بشكل جديد مع طفل ليس من صلبه، مؤكدًا أن امتداد المشاعر الإنسانية لا يقتصر على النسب.
في نهاية الفيلم، يُولد أخو علاء الصغير، وهنا تُمرر قصة إعلان الحياة التي تضرب في صميم مفهوم الفقد: فعلاء الذي ظلّ مقيدًا تجاه الموت، تتشكل أمام عينيه حياة جديدة، لكنه يظل عالقًا وغير قادر على مغادرة دائرة الموت. ولعل الشاهد هنا، أنه بعد أن قرر ممارسة النجارة كهواية، فإن أول ما يفعله هو صنع نعش صغير كهدية لأخيه المولود الجديد، فيغضب منه العم سالم بطبيعة الحال، ويحضر له الهندول الهزّاز، نسخة تشبه النعش في الشكل لكنها تستبدل صمت الموت بحركة الحياة.
الموت كعدسة للإنسانية
عُرض كذلك فيلم «المشهد» للمخرجة لنا قمصاني، الذي يتعامل مع القصة بواقعية في "مشهد" يختزل ما يحدث في غزة، ويُوصِل المشاعرَ بصدق شديد؛ إلى حد تمكُّنه من قناتي الدمعية، ليس لأن الفيلم يستدر الدموع بل لتقديمه الحقيقة كما هي، وهذا ما يجعله أكثر إيلامًا. ففي موقع تصوير شخص عالق بين الأنقاض، تتلاشى الحوارات كلها تقريبًا، ولا يبقى في المشهد سوى صرخات الاستغاثة، وأصوات القنابل والطائرات، وبكاء الرضع. فيغدو الصوت لغة للتوتر والألم والإنسانية، حاملًا مشاعرَ كثيفةً تُنقل دفعة واحدة. إن عدم انجراف الفيلم وراء تقنيات سردية معقدة أو حوارات عميقة هو ما يمنحه ذلك التأثير العاطفي، فهو لم يقدّم إلا الواقع المُجرّد في أكثر صوره صدقًا وعريًا.
بعد انتهاء عرض الفيلم، تحدثت المخرجة لنا قمصاني عن صلة نسب تربط أسرتها بفلسطين، وهو الأمر الذي يمنح «المشهد» شعورًا شخصيًا يُساهم في إذكاء حساسيتها تجاه موضوعه. وقبل أن نستمع إلى صوتها الصادق قُطع حوارها لتبدأ الصالة عرضًا آخر. ولعل المقاطعة قد نجحت مع المنتجات، لكنها فشلت في الحوارات.
إلى جانب ذلك، نجد فيلم «مجهول» للمخرج إبراهيم البكيري، الذي يحكي قصة عمران، وهو شاب يعيش بلا جنسية في مدينة الطائف، يحاول تسوية ديون والده الراحل لكي يدفنه بكرامة. كما يسلّط الفيلم الضوءَ أيضًا على ثيمة الموت، والضغط الاجتماعي والاقتصادي على الأفراد الذين يعيشون على هامش المجتمع.
أما فيلم «دينامو السوق» للمخرج علي باقر العبدالله، فكان الوحيد في المجموعة الذي استطاع إضحاكَ الحاضرين بسبب عفوية بو وحيد، والفيلم يتابع يومًا من حياة شخص بعد التقاعد، حيث كرس نفسه للعمل في سوق الحراج، شخصيته المنفتحة وروحه المنبسطة جعلته يتعرض لمواقف طريفة. وبعد شهر واحد من عرض «دينامو السوق» في مهرجان أفلام السعودية، توفي بو وحيد (جاسم محمد السهيل) - رحمة الله عليه.
وهكذا، بدت هذه المجموعة من الأفلام متباينةً في مستوياتها لكنها متقاربة في هواجسها، وكأنها قد نجحت في التقاط لحظة انكسار تُركت معلقةً أمام المتفرج ليكمل هو معناها بطريقته الخاصة. ومن هذا الشعور المُشترك تولدت وحدةٌ حسيةٌ جعلت الأفلام تبدو أقرب مما هي عليه فعلًا.



