«نسعى إلى الكمالِ، وبالطبع لا وجود له! وهذه حقيقة يصعُب عليّ قبولها» الشيف جوليان سلويك
في سياق مُركَّب يجذِب الطُهاة والذوَّاقة جاء فيلم «قائمة الطعام» (The Menu - 2022) عن طاهٍ شهير مهووس وناقم. يستقبل ضُيوفه بطريقةٍ مُربكة؛ ليحتجِزهم ويقدِّم لهم قائمة طعامٍ مختارة بعناية، في كل لُقمة منها قطعةٌ من الجحيم.
هذا ما تُشاهِده في الفيديو الدعائي للفيلم، فتظنه واعدًا في أبرز تصنيفاته (الإثارة والرعب النفسي). مما هو متعارف عليه أنه، في أي فيلم إثارة، يقع على عاتق المُخرج أن يحافظ على وتيرة التشويق، وألا تنهار الإثارة بين يديه، غير أنه، في اللحظة التي يتصاعد فيها اهتمامك، تراها تنهار عند انعطاف الأحداث نحو منحَاها الجادِّ.
عند مُناقشة الفِيلم يمكن أن يحتار المُشاهد فيما قد يقول! وفي محاولةٍ للمناقشة يُمكننا أن نقول: إن المُخرج رغِب في صناعة رمزيات مُتداخلةٍ وعميقة، وإن لم تكن بذلك العمق أو التأثير، إلّا أنه حاول قول شيءٍ.
عن الفن والنقد:
عندما يتفكَّك الفن بِفعل الرأسمالية والحداثة، ويعاد تَركيبه بطريقةٍ متكلِّفة تُقصي الفن نفسه، وتنزع عنه المعنى والخلود، ليغدو محيرًا مستعصيًا على العامة، فيما يبقى الفنان والناقد متباهِيين به مدَّعيين تمكُّنهما الدائم المزعوم من فهمِه والاستمتاع به، وبالأخصِّ عندما يكون الفن في صورته النخبوية! لِيقع الفنان إثر ذلك في المأزق ويفقدُ نفسه، فيجعله هذا مهووسًا بالكمال الذي لن يصل به، في نهاية المطاف، إلى غاية الفن الأسمى. في زاويةٍ أخرى، قد يقف المُعجب في موقف المُبالغة المبتذل عند تعاطيه مع الفنان وفنه مغترًا باطِّلاعه ومعرفته، وقراءته للفن.
عن التوتر الطبقي والرأسمالية:
بين مَن يُعطي وَمن يأخُذ، بدأ المخرج محاولته في تكوين مشاهِد حادة يهاجم فيها الرأسمالية على نحوٍ متكلَّف بل ودعائي للرأسمالية في الوقت ذاته. ولِتحطيم ذلك الصنم اختار مطرقة الفاشية، وبشكل عرضيٍّ أقحم الحريّة باقتباسٍ بهلواني عن مارتن لوثر كينغ: «نعلم عبر التجربة المؤلمة أن الحريّة لا تُعطى طوعًا أبدًا من قِبل الظالم، على المظلوم المطالبة بها». هكذا يجد نفسه في موقف عابثٍ ومشتَّت، لا يؤثر في الوعي ولا حتى يَخلق جدلًا.
الذُكوريَّة والنُسويَّة:
بعد استِعراض التَّلاعب في العلاقات بين الرجل والمرأة في أكثر من مشهد، يُقدَّم على القائمة طبق: «حماقة الرجل»، مُستعرضًا مشهدًا رائجًا في منظومة تستخدم السُّلطة، في ممارساتٍ غير أخلاقية من قِبل الرجل على المرأة العاملة تحت إدارته، حيث تُذعِن فيها المرأة بحجَّة الحاجة إلى العمل والمال. لكن في الوقت ذاته يسْخر الفيلم من أشكال دعم النسويَّة المُصطنعة والمُغرضة للضَّحايا.
في هذهِ الجوانب، وغيرها مما لا يستدعي الإطالة، يبدو طرِيفًا كيف انتهى طاهٍ مميّز ينزع إلى الكمال، ولا يقبَل التَّنازل إلى وضع قائمة فاخرة من الأطباق بأسمائها ومكوناتها، وسيناريوهات تقديمها الغريبة، لتختتم في النهاية بإعداد "cheeseburger"! ولعلها نهاية مخيبة للكثيرين، لكنها، رغم ذلك قد تعد مُلائمة؛ إذ تجعلك تظن أن هذا الفيلم كان إعلانًا تجاريًا يدعوك إلى تناول "cheeseburger".