عام 2021 أنجزت جين كامبيون فيلمها الثامن خلال 30 عامًا «قوة الكلب» (The Power of the Dog)، المقتبس من رواية توماس سافاج، الصادرة عام 1967 وتحملُ العنوان نفسه، التي تقول عنها كامبيون (عن مقالةٍ لجاستن كرول منشورة في 6 مايو 2019): «إنَّها رواية رفيعة تستحق أن تحيا على الشاشة العريضة. عندما قرأتها للمرة الأولى، لم أستطع التوقف عن التفكير في القصة. لقد استحوذت عليّ فعلاً. ثيمات الذكورية والنوستالجيا والخيانة هي ذات مزيج مُسْكر، مثير للنشوة. أيضًا من النادر أن نجد قصة فيها الثيمات والحبكة والشخصيات تبني حالة من التوتر فيما هي تكشف بعضها بعضًا، بل حتى النهاية تبدو مُرضية وغير متوقَعة. وهي المرّة الأولى التي أتعامل فيها مع شخصية رئيسة ذكوريَّة، وهو أمر مثير. إنّ "فِل" شخصية جذابة ومركّبة... وهو يعلن الحرب على زوجة أخيه وابنها المراهق».
هنا وللمرة الأولى، نجد جين كامبيون تركّز بؤرتها على شخصية ذكورية أساسية، ذلك أنَّ معظم أفلامها السابقة كانت تتركّز على شخصيات نسائية، تنتسب بعضها إلى الماضي وبعضها إلى الحاضر، وكيف أنها ترفض الامتثال للأدوار المرسومة لها، والتي تصوغ هوياتها وتنجزها وسط قوى تسعى لإجهاض كل محاولاتها للتمرد ضد الأدوار المتوقع منها أن تؤديها، والتحكم في حركاتها وتحطيم أرواحها. هذه القوى القمعية تتمثّل في أشكال متعددة: الزوج، الأب، المجتمع، المؤسسة العسكرية (الشرطة) والطبية (المصحات النفسية والعقلية)، وحتى النسوة المتواطئات مع النظام البطريركي (الأبوي). ويتعيّن على المرأة أن تواجه هذه القوى بكل ما تملك من بأس وجسارة وحِيَل ودهاء، وتلك القوى بدورها تمارس عنفًا ضاريًا، جسمانيًا وعاطفيًا، على المرأة.
تدور أحداث فيلم «قوة الكلب» في مونتانا، في عشرينيات القرن العشرين، عن شقيقين ثريين: أحدهما فِل (بيندكت كامبرباتش)، كاره للبشر، بذيء اللسان وقاسٍ، يدير أكبر مزرعة لتربية المواشي في الوادي، والآخر جورج (جيسي بليمنز) الطيب اللطيف والمهذب. عندما يقرر جورج الزواج بالأرملة روز (كيرستين دانست)، تبدأ العلاقة بين الشقيقين في التوتر والتعارض، وتزداد تفككًا وتباعدًا مع دخول الزوجة وابنها المزرعة والإقامة في المنزل الكبير. هنا يبدأ فِل في شن حربه النفسية الشرسة على الزوجة، معتقدًا أنها تطمع في ثروتهما، كما يحاول إذلال ابنها بيتر (كودي سميت-ماكفي) والسخرية منه وتدميره.
فِل ذو طبيعة عدوانية، يتباهى بخشونته وفظاظته ووساخته (نادرًا ما يستحم). إنه يعيش في عالم من الرجال، عالم لا يعرف إلا مظاهر الذكورة والرجولة، حيث الافتقار إلى الرقة والمشاعر العاطفية. يريد أن يتحكم في كل ما حوله ومَن حوله، أن ينظم العالم حسب هواه وكما يشاء. كما أنَّه يكره النساء، يحتقر العواطف والمشاعر الإنسانية التي يرى أنها دليلُ ضعفٍ وخنوع، ويرى أن الضعف جريمة. يزدري مظاهر التمدّن والأناقة والنظافة ويتباهى بإخصاء المواشي بيديه. العالم مِن حوله يتغيّر، وهو لا يعجبه ذلك. البيت الذي يسكنه مع شقيقه كبير وفخم ويكشف عن الثراء، لكنه فاتر وكئيب وساكن. لا يستقبل زوارًا أو ضيوفًا.
جورج الخجول والضعيف لا يستطيع أن يواجه شقيقه ويقاومه، وبالتالي لا يقدّم عونًا لزوجته التي تحاول تفادي غضب فِل ومواجهته. ليس بمقدورها مجابهته. لذلك تتجه، بدافع الخوف والقلق، نحو الكحول. بيتر الوديع والحساس، بعد انتحار أبيه، يتعهد بحماية أمه ويدرس ليصبح طبيبًا مثل والده. يتكفل جورج بدفع مصاريف دراسته. تفقدُ روز تدريجيًا السيطرة على حياتها، وإحساسها بالهدف الذي تصبو إليه. تتخلى عن المطعم الذي كانت تملكه وتديره، وبسبب ابتعاد ابنها عنها لتواجُده في مدرسة داخلية، فإنها تشعر بالوحدة في البيت الكئيب.
تندلع حرب نفسية بين فِل وروز، وتستمر شهورًا حتى بعد عودة ابنها بيتر من المدرسة أثناء العطلة الصيفية، لكن الأشياء التي نراها لا تبدو على حقيقتها. نكتشف أن فِل قارئ واسع الاطلاع، وقد درس الكلاسيكيات في جامعة ييل التي تخرّج فيها بعلامات عالية، كما يتضح أنه كاره لذاته وكابح لنفسه بعمق. إنه الرجل الذي لا يستطيع أن يواجه هشاشته، لذلك يحاول أن يستنزف حياة كل شيء حوله. وعلى الرغم من أن الابن بيتر يكون في البداية هدفًا لتنمُّر فِل، سرعان ما يتضح أنه ماكر، مخادع، مراوغ، وغير قابل للاهتزاز. إنه يكتشف النزوع المثلي عند فِل، لكنه لا يستغل هذه المعرفة في تحطيم خصمه أو إذلاله أو السيطرة عليه، كما يتضح أن بيتر ليس هو الشخص ذو الطبيعة الحساسة، الشفوق، الكاره للعنف.
لا تستطيع روز أن تقاوم تنمُّر فِل أو أن تصد هجماته، فتعلن الاستسلام، تصبح منطوية على نفسها، وتجد ملاذها في تعاطي الكحول والاستغراق في تذكّر ماضيها، وكيف كانت جميلة ومرغوبًا فيها. تتطور العلاقة بين فِل وبيتر إلى علاقة غير قائمة على الخوف، أو الرغبة في الهيمنة والتدمير. هذه العلاقة التي بدأت بمزيج من الرقة والعنف، القبول والنفور، تتحوّل على نحو غير متوقع إلى صداقة متينة، حميمة، كاشفة عن ذاتٍ أخرى، مناقضة لما كان فِل يُظهره طوال السنوات السابقة. إنها الشخصية الطيبة، الودودة، التي حاول أن يضمرها ويدفنها في أعماقه. وتبدأ المنافسة بين الأم وفِل على كسب بيتر: كل منهما يحاول جرّه إلى صفه. فِل يُعلّمه ركوب الخيل واستعمال الحبال، ويكون له المدرب والمعلم. أمَّا الأم فتخسر.
كتبت كامبيون السيناريو معتمدةً في بنائه على الإيجاز والانتقالات بين الأحداث، ضمن إيقاع هادئ. لا يمكن التنبؤ بالأحداث، ولا تعرف إلى أين يأخذك الفيلم. إنه مغلّف بالغموض، محفوف بالأسرار، بالأسئلة التي لا أجوبة لها. كلما أُفشيَ سِرٌّ تبرعم سرٌ آخر. للشخصيات أسرارها، بواعثها الدفينة، محركاتها ودوافعها الخفيّة، المتوارية، لكن الفيلم لا يكشفها ولا يستنطقها، بقدر ما يتعامل معها كألغاز أو أحجيات. إنه يضبّب ويخفي أكثر مما يكشف ويوضح. وقد حقق الفيلم نجاحًا تجاريًا ونقديًا، ورُشّح لاثنتي عشرة جائزة أوسكار لكن لم يفز إلا بجائزةٍ واحدة هي جائزة أفضل إخراج، كما فازت كامبيون بجائزة الإخراج في مهرجان فينيسيا.