يقول المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي عن فيلمه الأخير «قتلة زهرة القمر» Killers of the Flower Moon، إنه «وضع كل ما لديه» في هذا العمل، وإنه يريد الآن أمرًا واحدًا: «أن يشاهده الناس، ويستوعبوه، ويكونوا معه». وهذا مدخل مناسب في تقديري لفهم الفيلم وتفكيك مضامينه، فالمخرج البالغ من العمر 80 سنة أراد عبر هذا الفيلم تجسيد خبرات امتدت لستة عقود لخلق تجربة فنية وسينمائية مكتملة من وجهة نظره، وأظنه نجح في ذلك، بل قدّم ما يتجاوز الفن والسينما في عمل متقن قد يكون واحدًا من أهم أعمال سكورسيزي على الإطلاق بعد أيقونته «سائق سيارة الأجرة» (1976) Taxi Driver.
الفيلم من بطولة كل من روبرت دي نيرو، وليوناردو دي كابريو، وليلي غلادستون، وجيسي بليمونز، والسيناريو مقتبس من كتاب يحمل نفس الاسم صدر في عام 2017 للكاتب والصحفي الأمريكي ديفيد غران، ويتناول الكتاب جرائم القتل الغامضة التي حدثت في عشرينيات القرن الماضي واستهدفت "قبيلة أوساج" إحدى قبائل السكان الأصليين، وذلك بعد اكتشاف النفط في أراضيهم في ولاية أوكلاهوما، وكتب سيناريو الفيلم إضافة إلى سكورسيزي الكاتب إريك روث.
يبدأ الفيلم من لحظة ثراء قبيلة أوساج، إحدى قبائل السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، بعد اكتشاف النفط في المحمية التي هُجّروا إليها، وتعود خلفيات القصة إلى لحظة احتلال الأوروبيين للقارة نهايات القرن الخامس عشر، اللحظة المتعارف عليها تاريخيًا بأنها لحظة "اكتشاف أمريكا"! فبعد حرب الإبادة التي شنّها البِيض على السكان الأصليين، وقرون من المقاومة، عُقدت مجموعة اتفاقيات مع من تبقى من قبائل السكان الأصليين ليعيشوا في "محميات" تخضع لما يشبه الحكم الذاتي وبعض الاستقلالية عن الحكومة الفيدرالية الأمريكية، ولم تكن محميات القبائل قائمة على أراضيهم التاريخية، بل هُجّروا إلى أراضٍ أقل قيمة ويفتقر أغلبها إلى الموارد الطبيعية المناسبة، فقبيلة أوساج والتي عاشت تاريخيا في أراضٍ واسعة وممتدة في الغرب الأوسط الأمريكي هُجروا إلى منطقة محصورة خالية من الموارد الطبيعية في ولاية أوكلاهوما، رغم أن أراضيهم التاريخية تمتد بين ولايتي ميزوري كانساس وغيرها، وهنا تبدأ القصة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع اكتشاف النفط في أراضي قبيلة أوساج، وتحول أفراد القبيلة إلى مجتمع من أغنى مجتمعات الأرض بسبب امتيازات التنقيب عن النفط، وهنا يعود المستعمر الطارئ على القارة ليقتل ويسرق من جديد، وهذه هي القصة التي أراد سكورسيزي أن ينقلها إلى العالم اليوم، في خضم حرب ثقافية أمريكية مدارها العرق والطبقة، ووقودها التاريخ والحضارة، وأرضيتها الطبيعة البشرية والمجتمع.
استعمارية الرجل الأبيض
لا يترك الفيلم مجالًا للمقدمات رغم امتداد العمل على ثلاث ساعات ونصف، فتبدأ القصة بسرد الثراء الفاحش الذي وصل إليه أفراد قبيلة أوساج في ذلك الوقت، وجرائم القتل التي استهدفتهم، الجرائم التي لم يُحقَّق فيها، ولا يُعرف مرتكبها، لأن حياة السكان الأصليين في أمريكا بلا قيمة، فلا أحد تجشم عناء محاولة فك ألغاز جرائم القتل التي استهدفت نساء ورجال القبيلة على نحو ممنهج ومستمر، لا أقسام الشرطة المحلية تبحث في الأمر، ولا وكالات الأمن الفيدرالية، ولا أحد من جيرانهم، لا أحد.
يجسد الفيلم صراع الأعراق في الولايات المتحدة وتعالي الرجل الأبيض وخطابه الاستعماري بصورة عارية وفجة، فيمكن تتبع أدبيات الرجل الأبيض التي برر بها استعمار شعوب الأرض وقتلهم وسرقة خيراتهم في حياة وشخصية وخطاب وليام هيل (قام بدوره روبرت دي نيرو) والذي ينظر إلى قبيلة أوساج باعتبارهم متوحشين وجهلة لا يملكون ثقافة أو حضارة ذات بال ولا يستحقون الثروات التي يملكونها ولا يعرفون التصرف بها ومكانهم خارج التاريخ والجغرافيا ومن حق أي أحد أن يفعل بهم ما يشاء من أجل سلبهم أموالهم حتى لو وصل الأمر إلى قتلهم، فهم في نهاية الأمر أقل من بشر. هذه هي الطريقة التي يرى فيها المستعمِر -المتمثل في وليام هيل- السكان الأصليين، لكنه يُظهر أمرًا آخر بطبيعة الحال. يُظهر أنه يساعدهم في بناء المدارس والمستوصفات والشوارع، ويرشدهم لتدبير أموالهم بالطرائق المثلى، ويشجع الانصهار معهم والزواج من نسائهم ومداراتهم ودعمهم في قراراتهم التي يتخذونها، فهو يُظهر الدعم والتعاطف والاهتمام والرحمة، ويبطن البطش والقتل والسرقة وتدمير كل شيء من أجل الموارد والمال. ألا يُذكِّر هذا بشيء آخر أكبر من وليام هيل وقبيلة أوساج؟ بلى، يمكن اعتبار جرائم وليام هيل تجاه قبيلة أوساج نموذجًا مثاليًا شارحًا لكل الفظائع التي ارتكبها الاستعمار في مشارق الأرض ومغاربها من نهب للثروات وتدمير للثقافات وادعاء القيام بمهمة حداثية تحديثية مقدسة تنتهي بالاضطهاد والظلم والقتل والتشريد بهدف السيطرة وسرقة الموارد.
ماذا عن السكان الأصليين؟
سترتبك في بداية الفيلم حيال رؤية العمل للسكان الأصليين؛ هل يقدّم الفيلم قبيلة أوساج بصورة الأغبياء والسذّج، أم أنه يقدّم الرجل الأبيض بصورة الماكر والغادر؟ لكن هذا التأرجح الذي له ما يبرره لن يستمر، فهنا جاء الثراء إلى أفراد قبيلة أوساج بصورة سريعة ومفاجئة، فهم محصورون في محمياتهم، بعيدون عن أنماط الحياة الأمريكية الحديثة، إمكانات التعليم الحديث لديهم محدودة بسبب ظروف الصراع المستمر مع المستعمر ورفضهم ثقافته العدوانية والمدمرة، واعتزازهم بثقافتهم وقيمهم البعيدة عن العالم الرأسمالي، لكن الثراء يدخلك إلى عالم الرأسمالية رغمًا عنك، فسيكون احتكاكك بالعالم الرأسمالي حتميًا، فاضطُرت القبيلة إلى العمل مع شركات النفط والتأمين، والاستعانة بخدمات الأطباء، وغيرها من أنماط الحياة الحديثة التي لا تستطيع القبيلة الاستغناء عنها، لكن في الوقت نفسه، يعرف شعب أوساج تمامًا مكر وخبث الأنغلوساكسون، ودناءة تصرفاتهم، وأنهم يسعون إلى السيطرة والمال، كما أنهم مستعدون لفعل أي شيء في سبيل أهدافهم، فعلاقة العداء بين الجانبين متأصلة وعتيقة، إلا أن دناءة الرجل الأبيض التي يصورها الفيلم تفوق الخيال، فهو الجار، وشريك العمل، والزوج، والحبيب، والصديق، لكنه الغادر دائمًا والذي يتفوق على نفسه دائمًا في الدناءة والخسة، ومن يستطيع هزيمة المكر والدناءة التي بلا حد؟! لم يكن أفراد قبيلة أوساج سُذجًا أو حمقى أو جهلة، لكن المستعمرين الأوروبيين كانوا بلا أخلاق أو قيم، وكانوا عَبَدةً للمال والسيطرة، ولم يروا في أفراد قبيلة أوساج بشرًا، بل كائنات أقل من الإنسان بلا روح ويمكنهم التصرف بهم كما يشاؤون.
في تماسك القصة وتفاصيلها
القصة متماسكة، وتسير في اتجاه واحد بتشعبات محدودة وضرورية لفهم سياق الحقبة الزمنية التي قدمها الفيلم، فالإشارة إلى المجازر الموجهة ضد السود، ووجود مجموعات (كو كلوكس كلان) العنصرية المتطرفة، وإبراز تهميش الحكومة الفيدرالية للسكان الأصليين، وإبراز ثقافة قبيلة أوساج وقيمهم ومعتقداتهم، لم تكن تلك الإشارات والمحاور زائدة على حاجة الفيلم، بل تنتمي إلى صلب القصة التي استهدفت اجتثاث شعب أوساج والسيطرة على ثرواتهم.
أما أبرز تعليق قد يتكرر حول هذا الفيلم، وأفلام المخرج مارتن سكورسيزي بصورة عامة، هو طول الفيلم، ففي وقت أصبح متوسط طول الأفلام السينمائية بين الساعة و45 دقيقة والساعتين، يبدو أن إنتاج عمل سينمائي يمتد على 3 ساعات ونصف الساعة مجازفة، إلا أنها ليست مجازفة على الإطلاق، فسكورسيزي أراد صناعة تجربة سينمائية كما يجب أن تكون، تنقل المُشاهد من حياته اليومية وعالمه المعاش في عام 2023، لتعود به أكثر من 100 سنة إلى الوراء، وتُقحمه في حقبة تاريخية مختلفة في كثيرٍ من ملامحها، وهذه التجربة لن تُعاش في فيلم قصير قد يتحول إلى فيلم جريمة أو فيلم آكشن، لن يعيش المُشاهد تجربة الرحلة عبر الزمن إلا إذا أُغرق في كل تفاصيلها وعاشها، وتطورت رؤيته للشخصيات وارتبكت حبًا وكراهية. كل هذا لا يمكن أن يحدث إلا من خلال فيلم يصنع عالمه الخاص ولم يُصنع لإيصال فكرة سريعة عن الموضوع وتقديم متعة آنية. التجربة السينمائية التي يريدها سكورسيزي للمشاهد في هذا الفيلم تعادل تشغيل آلةً للزمن والذهاب بعيدًا في تفاصيل التاريخ، وهذا بالضبط ما أراده سكورسيزي عندما قال إنه يريد من الناس مشاهدة الفيلم، واستيعابه، لا مجرد التمتع به.
الشخصيات، فرادة التعقيد والبساطة
قدم أغلب الممثلين في الفيلم أداءً استثنائيًا في الشخصيات التي قاموا بأدائها، فروبرت دي نيرو أدى دور وليام هيل على نحو مميز. هيل يمثل الرجل الأبيض الماكر بعقليته الاستعمارية وجشعه الذي لا ينتهي، ورغبته العارمة في التلاعب والسيطرة على الآخرين، وهنا يجسد روبرت دي نيرو نقيضه الشخصي، فإن دي نيرو المعروف بمعارضته للسياسات الأمريكية ومواقفه الإنسانية ورفضه للعنصرية، قدّم نفسه معكوسًا في هذا الفيلم، إلا أن أداء دي نيرو الرائع يبقى متوقعًا، فالممثل الذي جاوز الثمانين من العمر قام بأداء يليق بمسيرته المهنية الممتدة عبر ستة عقود، فلا مفاجآت هنا في أن يكون دي نيرو رائعًا كما هو في أفلام سكورسيزي على وجه الخصوص، وفي الأفلام الجادة المكتوبة بصورة جيدة، وشخصية وليام هيل شخصية روائية بامتياز، تقدم تخفّي الروح الاستعمارية خلف "عبء الرجل الأبيض" لجلب الحضارة إلى السكان الأصليين، لينتهي الحال به قاتلًا جشعًا معتوهًا يريد نهب الجميع تحت شعارات تحديثهم والارتقاء بحياتهم.
أما ليوناردو دي كابريو، وهو ممثل كبير بلا شك، قد تفوق على نفسه هذه المرة في أداء شخصية إرنست بوركهارت. بوركهارت شخص متوسط الذكاء، عائد من الحرب العالمية الأولى بمعدة مهشمة، وأسنان تالفة، وطريقة كلام غريبة، فبوركهارت ليس شخصًا طبيعيًا أو عاديًا على مستوى المواصفات الجسدية، إلا أنه أكثر تعقيدًا على المستوى النفسي والسلوكي، ما انعكس على مظهره العام والموقف منه، فهو شخصية مربكة، تتغير تصوراتك عنه كما يتغير موقفك منه باستمرار، فأنت لا تعلم هل بوركهارت شخصية غبية؟ هل هو أحمق؟ ثم يظهر بصورة المتآمر الماكر والغادر والذي يمكن أن يفعل كل شيء في سبيل المال، ثم تتساءل عن موقفه من زوجته مولي.. هل كان يحبها؟ أم كان يرغب في الاستيلاء على أموالها فقط؟ هل كان يهتم بها أم يريد قتلها؟
قد تكون الإجابات عن الأسئلة جميعها بنعم، فهو يمثل هذا كله بسبب خوفه وغموض المستقبل أمامه وانعدام ثقته بنفسه وغياب أي مرجعية أخلاقية يعود إليها، فحتى ضميره يتأرجح باستمرار، فمرة يخاف من الدولة ويريد الاعتراف بكل شيء، ثم يتراجع عن اعترافاته ويعود للتآمر ضد زوجته مولي خوفًا من عائلته ووليام هيل تحديدًا، وثالثةً يقدم اعترافات ناقصة لينجو في محاولة للجمع بين خوفه من عمه هيل وحبه لزوجته مولي. بوركهارت مثال للشخصية المترددة التي تسير في حياتها بلا بوصلة فيسهل على الجميع استغلالها والتلاعب بها، وهنا تبقى شخصية بوركهارت بتعقيداتها وفرادتها من أكثر الأدوار المميزة التي أداها ليوناردو دي كابريو حتى اليوم.
وهنا نصل إلى النقيض، بعيدًا عن خبث الطوية والمكر والتردد والمراوغة. تأتي شخصية مولي والتي قامت بأدائها الممثلة ليلي غلادستون المنحدرة من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية، والتي قدمت أداءً مميزًا، في الصحة والمرض، وفي الحب والكراهية، وفي الطيبة ومواجهة المكر. قدمت أداء بسيطًا لشخصية ذكية، لكنها طيبة، قد تبدو ساذجة في البداية، لكنها ليست كذلك، تبدو بلا حيلة أو قوة، لكنها تستطيع أن تفعل ما يعجز عنه كثيرون، فمولي تجسد الشخصية النمطية الإيجابية للسكان الأصليين، الذكاء الفطري والحكمة العتيقة التي تجعل المجتمع يتماسك تحت مظلة كبار السن المقدرين والقادرين على إدارة الأزمات التي تحيط بشعبهم والسير عبر التحديات والمخاطر التي تواجه وجودهم. مولي تمثل الطيبة الفطرية، والذكاء الفطري، في زمن يستطيع فيه البشر تزييف كل شيء، وهنا يمكن المراهنة على أن شخصية مولي من الشخصيات التي ستُحدث تغيرًا كبيرًا في مسيرة ليلي غلادستون التمثيلية، فالممثلة التي لم تبلغ الأربعين من العمر بعد قامت بتجسيد شخصية تنتمي إلى فئة "السهل الممتنع" بأداء سيعلق طويلًا في ذاكرة السينما.
توقيع سكورسيزي
على غرار ليوناردو دافينشي ومايكل آنجلو، والأعمال الفنية الكلاسيكية العتيقة، لم يكتفِ سكورسيزي بخلق تجربة سينمائية استثنائية، بل وضع نفسه داخلها، كما رسم آنجلو ودافينشي وجوههما داخل لوحاتهما، فعندما وعد سكورسيزي بأنه «وضع كل ما لديه» في هذا العمل، أوفى بوعده، وفي نهاية الفيلم، وبعد تحول قصة استهداف المستعمِر لشعب أوساج إلى مسرحية إذاعية مسلية يحضرها البيض وتُسرد على أنغام الموسيقى والمؤثرات الصوتية المتاحة في تلك الحقبة الزمنية، يظهر سكورسيزي على المسرح في المشهد الأخير، ليكمل سرد مصير شخصيات الفيلم، وكأنه أراد أن يقول إن هذه الجرائم، وهذا الجشع والحقد والمكر والرغبة في السيطرة عبر القتل ونشر الدمار، يتحول في وقت لاحق إلى موضوع ترفيهي، قد يستمتع به الرجل المسئول عن كل تلك الجرائم.
لا أستطيع أن أقول إن سكورسيزي تفوق على نفسه في هذا الفيلم، وإن كان قطعًا أحد أجمل أفلامه، ففي النهاية قدم سكورسيزي في هذا الفيلم ما يقدمه سكورسيزي دائمًا: تجربة بصرية تبجل السينما وتحتفي بالفن وتُعلي من قيمة الجمهور.