قصة حب سعودية

موضوعان لو نجحت الدراما السعودية في تقديمها سأعتبرها علامة نضج لا ريب فيها: الدين والحب. ورهاني على الثيمتين لأنهما قاعدتا حياة البشر وأُس علاقاتهم وكاشفة كل قيمهم.. الدين والحب يقين ما بعده.

موضوعان لو نجحت الدراما السعودية في تقديمها سأعتبرها علامة نضج لا ريب فيها: الدين والحب. ورهاني على الثيمتين لأنهما قاعدتا حياة البشر وأُس علاقاتهم وكاشفة كل قيمهم.. الدين والحب يقين ما بعده.

اليوم في السعودية نعيش وفرة نسبية للأفلام المحلية وتنوعًا للمشروعات الطموحة التي تشجعت لتزاحم بالمناكب على مورد النقد الأهم (شباك التذاكر) فطموحي لرؤية أفلام تعكس نظرتنا للحب وما نريد تحقيقه به وهواجسنا عما يمنحنا وما يسلبنا مبرر.

الحقيقة أن غالبية الأفلام السعودية المنتَجة مؤخرًا تخاتل الحب، وبات ممكنًا قراءة مشتركات في رؤيتها. أولاً، تقريبًا في الحب السعودي السينمائي لا ينجح أحد: «رقم هاتف قديم»، «بركة يقابل بركة»، «حد الطار»، «أغنية الغراب»، «الخطابة»، «ناقة».. الحب السعودي المقدم في السينما اليوم بحث يائس مستميت ونهايات فاشلة. الأمر الثاني أن الحب السينمائي السعودي يولد خديجًا ويعيش عمره القصير في الزوايا المعتمة بعيدًا عن رقابة أي سلطة. وثالثًا، فإن العشاق السينمائيين يعودون منه مثخنين لكنف ما تهربوا منه لا عن قناعة بل عن إحباط.

بعد هذه المقدمة سأتحدث عن تجربة مشرقة شاهدتُها منذ فترة قصيرة. وأنا أقلب في نتفليكس، عثرت بصدفة محضة على سلسلة أفلام قصيرة بعنوان «الحب، الحياة، وكل ما بينهما» Love, Life and Everything in Between وهي ثمانية أفلام عربية -أطوَلها تبلغ مدته ست وثلاثين دقيقة- تتناول ثيمة الحب ومحاولة تجسيده من منظور مبدعي عدة بلدان عربية، السعودية ومصر ولبنان والمغرب وفلسطين وتونس. نصيب السعودية فيها فيلمان، الأول لعبد المحسن الضبعان والثاني لمحمود صباغ، اسمان ليسا غريبين عليّ، وقد رأيت لكل منهما أعمالاً سابقة ملفتة.

وجه الفنان مشعل المطيري على بوستر فيلم الضبعان حسم الأمر، مع أنني لم أسمع عن العمل كلمة واحدة من قبل. «الأعشى» فيلم أَسَرَني بكوميديا سوداء خفيفة، وسرد حميم سهل المتابعة. يتقارب زمن الحدث في الفيلم مع زمن العرض كثيرًا، دون القفزات الزمنية الخطية وغير الخطية المعتادة.

يتكئ المخرج بعنوان فيلمه على موقف شاعر التشاؤم الكبير من فكرة الحب وأنها محض عبث، ويجهر بذلك مرة أخرى حين يعرض قبل بدء أحداثه بيتَيْ شعر للأعشى من مُعَلَّقته، حيث هريرة (الحبيبة) ماضية في قطع أواصر الوصل، بإشارة جسدية لا تخطئها عين المحب «الصدود».

يقبض الفيلم -الذي ساهم الضبعان في كتابته مع الكاتب محمد آل حمود- على ذروة قصة حب نجدية في ليلة عيد الحب، حيث يحاول بطلا العمل (سلطان وسلمى) الالتقاء على العشاء في مطعم اسمه أيضًا «الأعشى».

يبدأ الفيلم بمشهد علوي للرياض في الليل بأنوارها وشوارعها الواسعة. تهبط الكاميرا قليلاً متتبعة سيارة سلطان في أحد الشوارع، ثم تُدخلنا داخل قمرة القيادة معه في زحمة الرياض والحدث. أثناء انشغال سلطان بهاتفه يصطدم برجل سرعان ما يتركه ويتجه إلى محل بيع ورود!

سلطان السعودي النجدي ابن الطبقة الوسطى يعكس تناقضات أبناء الطبقة أمام أنماط استهلاكية شيّأت حتى الحب، فيبدو رغم اجتهاده مفتقدًا لأبسط صفات الرومانسية بشرطها الغربي، وسرعان ما سيؤكد لنا أيضًا خلوّه من أي تعاطف إنساني، بل وحتى الحس السليم (حين يصدم رجلاً ويتركه مكانه ويبتعد دون أي تأثر.. وبعدها بلحظة يفر حين يوقفه رجل المرور، تاركًا وراءه رخصته واستمارة السيارة) ولكنه يحاول الوفاء بما تتوقعه الحبيبة منه، فيتجه إلى متجر ورد، ولسوء حظه لن يتمكن من الحصول على باقة حمراء يهديها سلمى، حيث يجد أن جموع المستهلكين قد سبقته مستوليةً على الورد كله.

بعد ثلاثة مَشاهد متتالية مع سلطان نتعرف إلى سلمى، وستظهر في مشهد مقرب لوجهها يملأ الشاشة ويغلق الجدار الرابع تمامًا وهي تبوح بأسباب منطقية لتخوّفها من الارتباط بسلطان (ستكون وقتها قد وصلت إلى النقطة التاسعة: «الفروق الفردية بيني وبينه.. أنا خريجة أمريكا، بورد كندي») وتكمل حجتها العقلانية مع حركة سلسة للكاميرا تبتعد عنها قليلاً لتضعها في إطار أوسع يظهر فيه مكتب فخم بنسخ لوحات فنية من الفن الرفيع مع لوحات أصغر للاختبار النفسي الشهير عن بقعة الحبر وكيف نراها.

مع موسيقى كلاسيكية تُعمِّق سلمى شعورنا بالفروقات الثقافية بينها وبين «الأهبل» سلطان.. وأخيرًا تجزم بأنها لا يمكن أن تنجب منه أطفالاً، فهو «مؤذٍ للبيئة و[هي] ناشطة بيئية» ولا أعرف إن كانت هذه العبارة الذكية في الحوار نقدًا ساخرًا للصوابية السياسية أو من باب إبراز المفارقة بين الشخصيات، ولكنها في كلتا الحالتين كانت جملة مبهجة.

وهنا لفتة كاشفة عن مشترك اجتماعي أفرزته الثقافة الاستهلاكية «إذ بات كل من مضمون وإطار وهدف العلاقة الجنسية والعاطفية غير مؤكد ومشتبهًا به ومتنازعًا عليه» وسلمى هنا لا تعيش حالة الحب بلواعجها، ولا تتساءل للحظة عن حقيقة مشاعرها، ولا تفكر في مشاعر سلطان، بل تقيّم بريبة المآلات المحتملة له، حيث تقفز من الحب إلى الزواج إلى الإنجاب والأطفال، وبحسبة رياضية دقيقة لن ترضى بسلطان شريكًا يورّث صفاته لأولادها المستقبليين.

مقابل سلمى المنظمة الفصيحة في عرضها لمأزقها، لا يستخدم سلطان أي كلمة دالة على مشاعره، وقد عبّر لسلمى -بشهادتها- عن حبه بشهامته وعطائه: «حتى الأوراق الأكاديمية هو اللي طلعها لي»، أي أنها -باعتبارها امرأة عقلانية- ارتبطت به لأنه المعبر في عالم ذكوري ووجوده سهّل حياتها. المثير للسخرية هنا أن الأعشى في مُعلّقته وهو يلوم هريرة الصادة عنه حاول تذكيرها كم هو مفيد!

«الأعشى» رؤية واقعية لصورة سائدة من الحب المعاصر، وقد غامر المخرج مغامرة صغيرة محسوبة بِدَسّ مَشاهد قصيرة بها مسحة فنتازية، لكنه حاول فعل ذلك على استحياء ثم خانته أدواته وإن لم تخنه الشجاعة، فقد قدّم شخصيات غامضة وأدخلها في تسلسل الحدث بسلاسة ثم فشل في نسجها في الحدث على نحو مقنع، فعابر الطريق المدهوس في شارع بعيد يعود فجأة ليقاطع عشاء الحبيبين في ذروة تحديد مصير العلاقة ويطلب السوفليه بلغة فرنسية متكلفة، ثم الكلب الأسود الذي بدا وكأن لديه ثأرًا شخصيًا مع سلطان غير مُفسَّر دراميًا، وهذان أمران كان يمكن ربطُهما بخط العمل الواقعي، أو تجويدُ خطهما الفانتازي وبناؤه بصورة أفضل.

الفيلم جميل إلى الحد الذي يجعلني آمل أن يعيد الضبعان وآل حمود إنتاجه فيلمًا روائيًا طويلاً، وكلي ثقة من نجاحه جماهيريًا.

‏يبقى أن أقول إن أداء المبدعين مشعل المطيري وريم الحبيب لم يفاجئني قط، وقد تابعت عدة أعمال لهما سابقًا، ومع ذلك أظن أن ما شهدته في الفيلم هو قمة أدائهما حتى الآن، مما يعيدني إلى قناعة قديمة بأنه لا تنقصنا المواهب التمثيلية، ولكن لا يمكن إخراج طاقاتها بنصوص رديئة.

الهوامش:

 من كتاب «نهاية الحب» لإيفا إيلوزــــ 1

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى