نظرةٌ على النظرة الأولى: افتتاحيَّات الشاشة من "صخر" إلى"MBC"

August 10, 2025

في قديم الزمان، في سالف العصر والأوان، وقبل اختراع الإنترنت وظهور البثِّ الفضائي بزمنٍ بعيد، كانت لحظات المشاهدة تتَّسم بجوٍّ من الغموض والإثارة. في ذلك الوقت كانت جودة الصورة تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على تقلُّبات الطقس، بينما كان جهاز Booster هو الوسيلة الوحيدة لتقوية استقبال القنوات، سواء كانت عربيَّةً أو أجنبية، لتبثَّ لنا برامجنا المفضَّلة. إلا أنَّ اللحظة الأكثر انتظارًا من قِبَلنا هي لحظة افتتاحيَّة البرنامج، اللحظة التي تضاهي البرنامج نفسه: إنَّها قادرةٌ على تنظيمِ الحشود المصطَّفة من وساداتٍ خلف الشاشةِ لمعركةٍ من الدهشة والحماسة. وفي صباح اليوم التالي، قبل أن يبدأ الطابور المدرسي وفي جوٍّ من الحماسة العفويَّة، كنَّا جميعًا نتبادل هذا السؤال: «هل شاهدت «V»؟» بحيثُ نتحدَّثُ عن المسلسل، عن المقدِّمة والشاشة السوداء بحرف V أحمر اللون وموسيقى مخيفة وغريبةٍ لمشهدٍ افتتاحيٍّ لفضائين يأكلون الفئران؛ أو يدورُ نقاشٌ محتدمٌ عن مقدِّمة لمسلسل «السائق نايت» (Knight Rider - 1982)، هذه الافتتاحية التي كانت كفيلةً بجعلِ كلِّ المدرسة منتبهة، سواء كانوا مشاهدين أم مستمعين.

كبرنا وكبرت المدرسة وكبُرت معها الشاشة، ووصلت المقدِّمات الافتتاحيَّة إلى ألعاب الفيديو، حيثُ انتقلت من كمبيوتر صخر إلى ألعاب كونامي: «نمسيس» (Nemesis)، «سلمندر» (Salamander)، «ميتال جير» (Metal Gear)، وصولًا إلى ألعاب «سوني» (Sony) التي أضافت عنصرًا جديدًا من الإثارة والمنافسة، وأصبحت الألعاب تقدِّم قصصًا معقَّدة وشخصيَّاتٍ عميقة، في محاولةٍ للتشبُّه بالسينما حتَّى في افتتاحيات أفلامها، سواء كانت صغيرةً أم كبيرة.. أتذكَّر بأنَّ واحدًا من أهمِّ طقوس اللعب كان يتمثَّل في ترك المقدِّمة الافتتاحيَّة تعمل من تلقاء نفسها، ومن ثمَّ إعادة مشاهدتها وإن كانت للمرَّة الألف، مع حفظها عن ظهر قلب. تلك اللحظة كانت بمثابة اختبارٍ للصبر والاهتمام، إذ كان يُعرَف من خلالها اللاعب الجيِّد من الكسول.

لم تكن الافتتاحيَّات مجرَّد مقدِّماتٍ أو أبواب للدخولِ إلى اللعبة أو الحكاية، إنَّما كانت بمثابة العالم الأول، الحدث الأهم الذي يركِّز كلَّ حواسنا ومشاعرنا نحو ما سيحدث. هل علينا الاستعداد للخوف؟ أم أنَّ المشاعر التي ستغمرنا هي مشاعرُ الحب؟ أم هل هي مشاعرُ الإثارة؟ كلُّ هذه الأفعال اللاواعية تتسرَّب إلى ذواتنا من خلال المقدِّمات الافتتاحيَّة التي أصبحت تندمج في كثيرٍ من الأعمال مع المشهد الافتتاحي، سواء كانت لبضع ثوانٍ أو بضع دقائق، على هيئة مشهدٍ قصيرٍ أو فيديو موسيقيٍّ مصغَّر مسبوقٍ بشعار شركة الإنتاج أو اسمها، ليجعل التوقُّع حاضرًا وموجَّهًا بظهورِ شعاراتها (MARVEL - DC - SONY - A24 - MIRAMAX - DISNEY) التي تليها مقدِّمة محفِّزة، حيث تتناغم الموسيقى التمهيديَّة والأجواء البصريَّة، ممَّا يربطنا مباشرةً بموضوع الفيلم ويأخذنا إلى عالمه..

للمقدمات الافتتاحيَّة وظيفتان رئيستان: الأولى معلوماتيَّة وهي عرضُ العنوان وطاقم العمل لأسبابٍ فنيَّةٍ وقانونيَّة، والثانية فنيَّة/سرديَّة وهي خلقُ مزاجٍ معيَّنٍ أو تمهيدٍ بصري يمهِّد لدخول عالم الفيلم. تساعد العناصر السمعيَّة والبصريَّة المختارة في المقدِّمة على إرساء الإطار العام للقصَّة ونبرتها الشعوريَّة منذ اللحظات الأولى، إذ ترتبط مقدِّمة الفيلم ارتباطًا وثيقًا بنوع الفيلم (Genre)، وذلك بتوافق عناصرها الفنيَّة مع السمات المتوقَّعة حول الحبكة وأسلوبها، وبالتالي تؤثِّر على تلقِّي المشاهدين للأحداث، ممَّا يخلقُ شعورًا أوَّليًّا قد يكون ضحكًا، خوفًا أو حماسًا، وذلك بناءً على ما أوحت به المقدِّمة من انطباعٍ أوَّلي.

الآن، وفي ظلِّ ازدحام المشهد السمعي–البصري ما بين منصَّات التواصل الاجتماعي والألعاب والسينما والدراما، بات للمقدِّمات أهميَّةٌ قصوى وضرورةٌ حتميَّةٌ لا يمكن الاستهانة بها، وذلك لتحقيق أهداف الإنتاج بجذب الانتباه الذي يؤدِّي إلى ضغط زر المشاهدة أو قطع التذكرة. إنَّها لحظةٌ أشبه بالوقوع في حبِّ كتاب من غلافه؛ فـ «الكتاب باين من عنوانه» تعبيرٌ شعبيٌّ عابرٌ لكنَّه يلخِّص ما ينبغي على جهات الإنتاج والإخراج القيام به: تعبيرٌ سمعيٌّ بصريٌّ مكثَّفٌ ومختزلٌ لثيمة وأسلوب العمل وما يعدُ الجمهور به.

تاريخيًّا ظهرت المقدمات مع ظهور السينما في صورةٍ صامتةٍ كبطاقة تعريفيَّةٍ على الشاشة بمصاحبة الموسيقى، ومع دخول الصوت بدأت الافتتاحيَّات بالتطوُّر، خاصَّةً مع احتدام المنافسة ما بين التلفزيون والسينما في نهاية الخمسينيَّات والستينيَّات، إذ عمل منتجو الأفلام على جذب الجماهير عبر صورٍ وقصصٍ ملحميَّةٍ وبمقدِّماتٍ ملفتةٍ وُظِّفت فيها التصاميم والخطوط، كمقدمتي فيلمَي ألفريد هيتشكوك: «شمالًا عبر الشمال الغربي» (North by Northwest - 1959) (انظر المقدِّمة هنا) و «الدوار» (Vertigo - 1958) (انظُر المقدِّمة هنا) والتي صمَّمها شاول باس، أحد أشهر مصمِّمي الأفلام في فترة الخمسينيَّات والستينيَّات والتي كانت سمةً مميَّزةً لتلك الحقبة، فبِها غيَّر مفهوم المقدِّمات الافتتاحيَّة للأفلام من مجرَّد سردٍ للأسماء إلى جزءٍ فنيٍّ يسلِّط الضوء على جوهر الفيلم. هذا الأخير اعتمد في تصميماته على البساطة والرمزيَّة، ممَّا جعلها تترك انطباعًا قويًّا لدى الجمهور، وأحيانًا تكون مقدِّماته أقوى تعبيرًا من الفيلم ذاته.

تفاوتت أساليب المقدِّمات وتغيَّرت في السبعينيَّات والثمانينيَّات إلى أن عادت في التسعينيَّات بمقدِّمة افتتاحيَّةٍ ملفتةٍ للانتباه في فيلم «سبعة» (Se7en - 1995) (انظُر المقدِّمة هنا) للمخرج ديفيد فينشر، والتي صمَّمها كايل كوبر ببراعة. وقد قُدِّمَت بأسلوبٍ بصريٍّ مزعجٍ وخشنٍ يمهِّد لما نحن مقدمون على مشاهدته، والأجمل في ذلك أنَّ الصورة المستخدمة لم تكن رقميَّة، إنَّما كانت صورةً حقيقيَّةً مصوَّرةً وخطوطًا مكتوبةً باليد دون الاستعانة بالتوليد أو التصميم الرقمي. لقد خلقت العناوين والوميض السريع المقلِق المرافق لها جوًّا مضطربًا يتناسبُ مع اضطراب الشخصيَّات والثيمة الجُرميَّة. ومنذ ذلك الحين باتت عناوين الأفلام تُؤخذُ بجديَّةٍ واهتمامٍ كبيرين، واستمرت المقدِّمات بالابتكار والتنوُّع، مدعومةً بتقنيَّات التصميم والمونتاج الرقمي.

كثيرةٌ هي الأعمال، مسلسلاتٌ وأفلام، التي تقدَّمُ بافتتاحيَّاتٍ كلاسيكيَّةٍ تعرضُ صورًا وصوت راو وموسيقى، وهذا ما يعرِّفنا بشكلٍ مباشرٍ على الشخصيَّات والأماكن، كما يضمنُ سردُ الصورِ تعريفًا بالثيمة أيضًا. نأخذُ هنا على سبيل المثال فيلم «باب الحديد» (1958) للمخرج يوسف شاهين، إذ يُفتَتح الفيلم بلقطاتٍ من محطة القطارات بالقاهرة، مصحوبة بصوت راوٍ يقدِّم المكان وبطل الفيلم قناوي (يوسف شاهين) وثيمة الفيلم: «مين يصدق اللي حصل لك؟»، الآتية بصوت الراوي والتي ترافقها الموسيقى، معلنةً عن أسلوب سردٍ تقليديٍّ أشبه بالأدبيَّات الواقعيَّة وصورٍ عن حياة الطبقة الكادحة.

يبدأ فيلم «سيد الخواتم: رفقة الخاتم» (The Lord of the Rings: The Fellowship of the Ring - 2001) (انظُر المقدِّمة هنا) بمقدِّمة افتتاحيَّةٍ سرديَّةٍ كلاسيكيَّةٍ بصوت الجنيَّة غالادرييل (كيت بلانشيت)، وفيها تسرد تاريخ الخاتم الأوحد ونشأته في أرض "ميدل إيرث". نتابع بصريًا كيف خُدعت الممالك بخواتم القوة، وكيف صَنع ساورون الخاتم الأقوى وكيف يضيع عبر الزمن. هذه الافتتاحيَّة الكلاسيكيَّة تهيِّئنا نفسيًّا لمغامرةٍ ملحميَّةٍ تؤكِّدُ عليها الموسيقى وتضعنا في قلب الحدث الدرامي.

هناك أفلام تصرُّ على البدء بمقدِّماتٍ مبتكرةٍ ذات هويَّةٍ بصريَّةٍ فريدة الأسلوب تصنعُ خصِّيصًا للفيلم. وقد اختارت بعض الأفلام ما يسمَّى بـ "المقدِّمة النصية" كفيلم «حرب النجوم الجزء الرابع: أملٌ جديد» (Star Wars: Episode IV – A New Hope - 1977) (انظُر المقدِّمة هنا)، إذ اعتمدت على النص المكتوب على شاشةٍ سوداء لتكشف لنا عن عالمِ الفيلم وزمن الأحداث وأين تدور.

بعض المقدِّمات النصيَّة تأتي على نحوٍ بسيط، حيث تضم عنوان الفيلم وأسماء شخصيَّاته وطاقم عمله مكتوبةً بخطٍّ معيَّنٍ على خلفيَّةٍ أحاديَّة اللون، وهو أسلوبٌ مميَّزٌ لأفلام الستينيَّات والسبعينيَّات. من الأفلام العربية التي استخدمت هذا الأسلوب هو الفيلم السوري الدرامي «المخدوعون» (1972) للمخرج توفيق صالح، والذي يعالج قضيَّة اللاجئين الفلسطينيِّين (مقتبس عن رواية رجال في الشمس). يبدأ الفيلم بمقدِّمة نصِّيةٍ تظهر على الشاشة مكتوبٌ فيها: «وقال لي أبي يومًا: الرجل بلا وطن، سيبقى بلا قبر في الأرض…» على خلفيَّةِ مشهدٍ صحراويٍّ مع نصٍّ مقتبسٍ من الرواية، وهو ما يهيِّئ المشاهِد فكريًّا وعاطفيًّا لموضوع الفيلم ويعطي إشارةً رمزيَّةً إلى الضياع، بطابعٍ شعريٍّ يتناول ثيمة الوطن والأمل.

من المقدِّمات المثيرة والممتعة نذكرُ تلك التي اقتبست من المسرح؛ حيثُ يُكسرُ فيها الجدار الرابع، نأخذُ على سبيل المثال افتتاحية فيلم «ديدبول وولفيرين» (Deadpool & Wolverine - 2024) (انظُر المقدِّمة هنا) للمخرج شون ليفي، حيث تُقدَّمُ مقدِّمة تفاعليَّةٌ فكاهيَّةٌ تسخر من أسماء الطاقم عبر ألقابٍ ساخرةٍ بدلًا من الأسماء الحقيقيَّة، وهذا ما أشرك الجمهور في النكتة وخاصَّةً محبي ومتابعي أخبار عالم شخصيَّات مارفل واستحواذ ديزني عليها من بعد فوكس. كلُّ هذا قُدِّمَ بطريقةٍ كوميديَّةٍ ذكيَّة تكسر الحاجز الرابع، مما أشعرَ الجمهور وكأنَّه جزءٌ من الحكاية وجذبه للمشاركة في السرد بحضورٍ قوي وطريقةٍ غير تقليديَّة. في حين جاءت افتتاحيَّة فيلم «حدث ذات مرَّةٍ في الغرب» (Once Upon a Time in the West - 1968) (انظُر المقدِّمة هنا) للمخرج سيرجيو ليون صامتةً بلا حواراتٍ أو موسيقى، خالقةً لمشهدٍ يحفِّز التركيز والغرابة والترقُّب الشديد، وذلك عبر كوميديا غريبة ومزعجة كالذبابة في مشاهد احتلَّ فيها الصوت مركز البطولة على الصورة.

أمَّا الآن، وبعد ظهور الانترنت ومنصَّات العرض، تطوَّرت المقدمات وفق التطوُّر الفنيِّ والتقني، سواء في الدراما أو السينما، وباتت المقدِّمة البصريَّة المصوَّرة هي السائدة، جاعلةً من المقدِّمة عملًا فنيًّا قائمًا بذاته، يصمَّمُ كفيلمٍ قصيرٍ يلمِّح إلى القصَّة وأجوائها بأسلوبٍ استعراضيٍّ بصريٍّ يتوافقُ مع نوع العمل. كما تنوَّعت التصاميم لتشمل مشاهد حيَّة أو رسومًا تجريديَّة وخطوطًا مصممَّة بعناية.

لم تتخلَّ سلسلة أفلام «جيمس بوند» (James Bond) يومًا عن افتتاحيّتها الأيقونيَّة (انظر هنا)، والتي أعتبرُها أفضل افتتاحية متسلسلة لفيلم أكشن، فهي تخلق ارتباطًا عاطفيًا لا شعوريًا لدى الجمهور. ويعودُ ذلك إلى تصميم موريس بيندر في الخمسينيَّات القرن الماضي، حين أدخل صور الظلال الأنثويَّة والأشكال التجريديَّة، مصحوبةً بالأغنية المميَّزة، ليؤسس بذلك قوالب بصريَّة أصبحت مرادفةً لأفلام التجسُّس والحركة. وفي سياق مختلف، قدَّمت افتتاحية فيلم «أمسكني إن استطعت» (Catch Me If You Can - 2002) (انظُر هنا) للمخرج ستيفن سبيلبرغ مثالًا آخر على التميُّز من خلال رسوم متحرِّكةٍ أنيقةٍ يتحرَّك فيها رجل عبر لوحاتٍ تجسِّد موضوع المطاردة، وتلمِّح إلى محطَّاتٍ من القصة، ترافقه موسيقى جاز نابضة بالحيوية.

تشتهر أفلام ويس أندرسون بمقدِّماتٍ افتتاحيَّةٍ بديعةٍ ذات بصمةٍ بصريَّةٍ فريدةٍ لا تخطئها العين، منسجمةٍ تمامًا مع عالم الفيلم وتُدخل المشاهد في أجواء القصة، وأحيانًا في قلب الحبكة، من اللحظة الأولى، وغالبًا ما تأتي هذه الافتتاحيَّات بتكويناتٍ متناظرة، بألوانٍ زاهيةٍ مختارةٍ بعناية وبخطوطٍ طباعيَّةٍ تحمل طابعًا فنيًّا خاصًّا.. على سبيل المثال، تبدأ المقدِّمة في فيلم «فندق بودابست الكبير» (The Grand Budapest Hotel - 2014) (انظُر المقدِّمة هنا) بسردٍ بصريٍّ متعدِّد الطبقات يُمهِّد للحبكة بأسلوبٍ غير مباشر، كأنَّنا نفتح صندوقَ حكايةٍ طبقةً تلو طبقة. كما تعزِّزُ موسيقاه المختارة هذا المزاج الفنِّي، لتصبح المقدِّمة وعدًا جماليًا وسرديًا يتكاملُ لاحقًا مع نسيج الفيلم وأسلوبه الفريد.

من بين الأفلام السعوديَّة التي جاءت بمقدِّمة افتتاحيَّة بليغةٍ بصريًا يأتي فيلم «وجدة» (2013)، وهو فيلمٌ دراميٌّ من إخراج هيفاء المنصور. يُفتتح الفيلم بمشهدٍ بصريٍّ دون أيِّ شرحٍ أو تعليق، بلقطةٍ مركَّزة على حذاءٍ رياضيٍّ بنفسجيٍّ لفتاةٍ تحت عباءةٍ مدرسيَّةٍ سوداء وسط صف من الأقدام المنتظمة لطالباتٍ يرتدين أحذيةً مدرسيَّةً تقليديَّة. هذه المقدِّمة المختزلة تُقدِّم بطلة الفيلم بذكاء، من خلال اختلافها البصريِّ الصغير لكن اللافت، لتمهِّد بذلك لشخصيَّتها المتفرِّدة. بعد ذلك تتحرَّكُ الكاميرا على وقع النشيد الوطني، في تتابعٍ دقيقٍ يربطُ بين الفرد والجماعة ويبدأ في تعريفنا بثيمة التمرُّد وكسر التقاليد.

هناك العديد من الأفلام العربيَّة التي استخدمت المقدِّمات البصرية المتحرِّكة منذ البدايات، كما في فيلم «أخطر رجل في العالم» (1967) من بطولة فؤاد المهندس وإخراج نيازي مصطفى، وإلى الآن ما زالت السينما العربيَّة، والدراما بشكلٍ خاص، تولي اهتماما خاصًّا لتصميم المقدمات، خاصة مع بروز شبكة شاشة العرب MBC وشاشاتها المتعدِّدة. تميَّزت قنوات MBC، من MBC2 إلى MBC Action وغيرها، بهويَّةٍ بصريَّةٍ واضحة للمقدمات الافتتاحيَّة، كما أبدعت في إنتاج مقدِّماتٍ دراميَّةٍ جذابة، خصوصًا في أعمالها الرمضانيَّة الضخمة، حيث تُعامِل المقدِّمة كأداةٍ رئيسةٍ لجذب المشاهد من اللحظة الأولى. ومن بين المقدمات الناجحة التي تركت أثرًا بصريًا ودراميًا لافتًا: مسلسل «شارع الأعشى» (2025) (انظر المقدِّمة هنا)، مسلسل «معاوية» (2025)، وغيرها من الأعمال التي جعلت من المقدِّمة جزءًا أصيلًا من لغة السرد البصريِّ العربيِّ المعاصر.

إذًا، لا تعدُّ مقدِّمة الفيلم عنصرًا ثانويًا أو تجميليًا، إنَّما هي واحدة من أبرز مفاتيح جذب المشاهد وتحفيز تفاعله العاطفي منذ اللحظة الأولى، ممَّا يهيّئه نفسيًّا لدخول عالمِ القصة من خلال عناصر بصريَّة وسمعيَّة متناسقة. كم هي جميلةٌ تلك اللحظات الأولى التي تشعرك بالسعادة والبهجة نتيجةً لمقدِّمة بصريَّةٍ جعلتك ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا، لموسيقى خالدةٍ زرعت فيك إحساس الانتماء لعالم الفيلم، مهما اختلفت قصَّته ونوعه، فالمقدِّمة صُمِّمت لأجلك بما يشبه عقدًا غير مُعلَنٍ بينك وبين ما ستشاهده؛ إمَّا أن تنجح فتتعلَّق بالفيلم، وإمَّا تكون مقدِّمةً خادعة.

لا بدَّ لمقدِّمة الأفلام ومشاهدها الافتتاحيَّة أن تكون جزءًا من الكتابة، فهي ليست مجرَّد أداةٍ إنتاجيَّة، بل هي أداةٌ سرديَّةٌ وجماليَّةٌ بتقنيَّاتٍ متعدِّدة الأشكال، تستحق أن نخصِّص لها مشاهدةً مستقلَّة. وكما كان هناك من يجمع صور الأفلام، والبوسترات وموسيقى الأفلام، هناك من يجمع مقدِّمات الأفلام. ولعلها دعوة للمصمِّمين للعمل في تخصُّصات تصميم افتتاحيات الأفلام أو تحفيز لمشروعٍ طموح "سينيفيلي النزعة" يُكمّل صناعة السينما عبر أرشيفٍ خاصٍّ يولي اهتمامه بمقدِّمات الأفلام العربية، ويشجِّع الأفلام السعودية كي تنافسَ في تحقيق افتتاحيَّات أفلامٍ ذات هويَّةٍ خاصَّةٍ وعناصر جاذبةٍ للجمهور، واستعراض مقدِّمات الأفلام العالميَّة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى