نيرفانا صغيرة

فيلم «ملائكة ساقطون» (Fallen Angels - 1995) لوونغ كار واي لا يقدم قصة بالمعنى التقليدي، بل يكشف عن إنسانٍ ممزقٍ في داخله، يبحث عن معنى وسط صخب المدينة. القاتل المأجور، المرأة التي تلاحقه، والغريب الذي لا يجد لغة يتواصل بها، جميعهم يعيشون في حالة اختلال، كأنهم أمثلة مختلفة لجوهرٍ واحد إنسان يفتقد التوازن. هذا الاختلال نفسه هو ما يجعلهم بشرًا. فالبشر، منذ بداياتهم، تعايشوا مع أنماط فكرية متعددة، ومع ذلك ظلوا يعودون إلى ثوابت تعيد المعادلة إلى مركزها. على سبيل المثال، الدين يعد أحد أهم هذه الثوابت، لا بوصفه منظومة طقسية فحسب، بل باعتباره تجربة تصل بين الضمير والأمل.

نرى في الفيلم كيف يعمل الضمير في الخفاء، عبر توترٍ داخلي بين الرغبة والخوف، بين الحاجة إلى الآخر والخشية من الاقتراب منه، ونرى أيضًا الأمل، لكنه أمل هش، مرتبط بلحظة عابرة، لقاء قصير، لمسة مؤقتة، أو وهم بقدرة التواصل على كسر العزلة. الشخصيات كلها تترنح على حافة الفقد تبحث عن لحظة صدقٍ واحدة تمنحها شعورًا بأنها لا تزال على قيد الحياة. وونغ كار واي يضعهم في عالمٍ لا مكان فيه للثبات، مدينة تتحرك بسرعة الضوء، بينما قلوبهم عالقة في الماضي، لا تعرف كيف تواكب الحاضر. كل ما يملكونه هو ذاكرة مشوشة وحنين لا ينتهي.

هناك العديد من الأمثلة على أن البشر يحتاجون إلى نظامٍ يسيرهم. فهم لم يأتوا إلى الأرض مصادفة، والنظام نفسه الذي وضعوه يُنتهك يوميًا بأيديهم، ومن هنا تنشأ الأسئلة الكبرى لو كان العالم مفتوحًا على مصراعيه بلا أي تدخلٍ لتسيير البشر، ماذا سيحدث؟! هل ستعم الفوضى؟ أم سيُخلق نظام جديد من رحم الفوضى ذاتها؟ ولماذا نفترض أن الفوضى حتمية أصلًا؟ وونغ كار واي في فيلمه لا يجيب، بل يجعلنا نعيش هذا التساؤل في صمت. يخلق عالمًا يسوده الاضطراب، لكنه لا يخلو من لحظات نورٍ صغيرة، كأنها بقايا نظامٍ روحيٍ ضائعٍ في زحمة المدينة.

عالم «ملائكة ساقطون» ليس عالمًا مثاليًا يعمّه الخير والإحسان، ولا عالمًا جحيميًا منقطع الرحمة، بل عالمٌ مشغولٌ بنفسه إلى حدٍّ مرعب. شخوصه منشغلون بذواتهم إلى درجة يصعب التقاطهم. ومع ذلك، هناك دائمًا من يستشعر الألم أضعافًا، ألمًا يمتد مع الدم في الشرايين، وكأنه ألف وخزة في القلب يجب أن يتحملها كل يوم حتى يموت. هذا الإحساس بالوجع الداخلي هو ما يمنح الفيلم صدقه، وما يجعل المتفرج يصدق أن هذه الشخصيات مهما كانت غريبة ما هي إلا انعكاس حقيقي لما يمكن أن نكون عليه نحن.

أسلوب كار واي البصري هنا مفعمٌ كالعادة بطاقةٍ شاعرية تمتزج فيها الصورة بالوجدان. يغلب النور الساطع المنبعث من إنارة النيون في الشوارع، وكأنه نورٌ إلهي يفضح الأرواح لا الأجساد. يبطئ سرعة الغالق ليجعلنا نتشظّى مع الشخصيات ونعيش أجزاء حزنها القاتم، ويقرّب الكاميرا كثيرًا من وجوههم لنرى صدق التعبير وتفاصيل الانكسار. في بعض اللقطات، يصبح الضوء نفسه شخصية، يواسي ويعاقب في الوقت ذاته. المدينة في فيلمه تتنفس ببطء، كأنها كائن حيّ يراقب البشر بعينٍ متعبة تعرف خطاياهم لكنها لا تملك سوى أن تضيء لهم الطريق.

الحب والذاكرة هما أكثر ما يجعل البشر بشرًا. فالشعُور وطريقة التعبير عنه هما ما يميّزان الإنسان عن غيره. في أحد أكثر مشاهد الفيلم عمقًا، يتساءل القاتل المأجور: «قد تعتقدون أننا  القتلة المأجورون  نجني مالًا وفيرًا، لكن كم تساوي قيمة الإنسان؟»، هنا يضرب السؤال كالصاعقة، لأنه يختزل فكرة الفيلم كلها في سطرٍ واحد: قيمة الإنسان ليست في ما يفعل، بل في ما يشعر. وونغ كار واي يجعلنا نواجه هذه الفكرة دون حواجز؛ فلا أحد في فيلمه طاهر بالكامل، ولا أحد شرير بالكامل، بل الجميع يقفون في المنطقة الرمادية التي تشبهنا نحن.

«ملائكة ساقطون» ليس مجرد فيلم عن الوحدة أو الجريمة، بل عن الرحمة وسط الجحيم. وونغ كار واي لا يقدّم أفكاره بوضوح، بل يجعل المشاهد يعيشها من خلال الضوء والزمن والوحدة، كأنه يقول إن الفلسفة ليست في الحوار بل في الإحساس.

إن عبارة «إن لم أنزل إلى الجحيم، فمن سينزل؟» تكشف قلبَ الفيلم، فشخصياته رغم فسادها الظاهري، تبحث عن الخلاص. القاتل الذي يقرر التوقف عن القتل، والأبكم الذي يعيشُ حياة الآخرين، كلاهما يلمسان الرحمة بطرقٍ مشوّهة لكنها صادقة. هذه هي البوذية في أنقى صورها: الرحمة ليست طهارة، بل إدراك للمعاناة.

المدينة التي تدور فيها الأحداث هي تجسيدٌ للاغتراب "هونغ كونغ" وونغ كار واي مدينةٌ لا تسمع أحدًا الا من يشعر بالالم الحقيقي. الكل يشتاق للاتصال الإنساني، لكن لا أحد يجده. القاتل لا يتحدث مع شريكته، وهي تتخيله من خلال الموسيقى والعطر. الأبكم يعيش حيوات الآخرين لأنه بلا صوت. هذا هو جوهر الوجودية الحديثة الذات الزائفة التي تمارس الحياة كدورٍ لا كحقيقة. الزمن لا يسير إلى الأمام بل يلتفّ حول الشخصيات مثل حبلٍ من الذكرى والحنين. “الوقت يمرّ، لكن لا أحد يشفى". وونغ يصوّر الزمن كعذابٍ مستمر، كدورة “سامسارا” بوذية لا تنتهي، فيها التعلق بالماضي هو أصل الألم. كلهم سجناء ذاكرة، القاتل بشريكته، الفتاة برائحته، الأبكم بوالده.

العزلة هنا ليست تأملًا واعيًا، بل حالة إجبارية، تأملٌ قسري في مدينةٍ من النيون والوحشة. حتى المدينة نفسها تبدو وكأنها تتأمل ذنوبها. ومع كل ذلك، تبقى الرغبة هي المحرك الأكبر، والرغبة في الفلسفة البوذية أصل المعاناة الرغبة في الحب، في الماضي في الخلاص. الشخصيات تسجن نفسها في دوائر التعلق التي لا تنتهي وفي النهاية يصبح الخلاص ممكنًا فقط عبر الآخر الأبكم الذي يصور والده صانعً ذكريات من خلالها يستطيع التواصل معه، القاتلُ الذي يبتسم قبل موته لأنه يعرف أنه لم يجد الشخصَ المناسبَ في قرارة نفسه، الفتاة الحزينة في المطعم التي تعرف أنها أحبت سرابًا، فتترك الأمر وتعي وتتخطى؛ بينما تتلاشى أضواء المدينة معلنةً انتهاء قصصٍ إنسانيةٍ تمثِّل الإنسان في جوهره. لحظاتٌ قصيرةٌ من وعيٍ وسطَ الفوضى، كأنها نيرفانا صغيرة تُذكّرنا بأنه حتى في أكثر الأماكن ظلمة، يمكن للرحمة أن تضيء.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى