لا يوجد أفضل من اتخاذ الأطعمة أمثولةً للذة التي تصاعدت وتيرتها منذ اختراع فن الطبخ بوصفه ارتقاءً حضاريًا وابتداعًا قاد نفسه إلى مسالك مضرة، أصبح فيها القوت أكثر من كونه وقودًا للبدن، بل فعلًا إسرافيًا استحدث الرومان بسببه فكرة تقيؤ ما تناولوه من طعام ليعودوا مجددًا للأكل، وهو ابتداع أبعد ما يكون عن الحاجة الغريزية، وهذا ما يحصل في رأيي حين يرتفع سقف المُتع الحياتية المستطابة بلا رادع داخلي أو مبدأ أخلاقي، وبلا قدرة على مخالفة الهوى، وسط استسلام تام للرغبات والنزوات التي لا تتوقف عن التصاعد والتجديد المستمر.
الشهوات لدى صاحب الحياة المتململة من روتينيتها تجد حيلتها المجددة لمتعتها، وليس بالشرط أن تكون مقترنة بحاسة التذوق كما فعل الرومان، فهنالك شهوة الجنس والمال والبنين والزينة، ولكن أشهرها هي تلك التي اقترنت بالارتعاشات الانتشائية الملبية للشبق المضمر، والمذهبة للعقل، والمغامرات الأدرينالية التي تدعو المرء إلى ضرورة الانفلات وتجربة الخوف وكسر الموانع الموضوعة. ولنا في آدم آية، حين استسلم للذة الإغوائية الساكنة في الثمرة المحرمة، الذي أخذ خياله يحرضه عليها بعجز قاد إلى فضولية خاطئة. ولعل المغزى من خيالاتنا الجامحة التي أنعم الله بها علينا كانت بغرض ابتداع المتنفس، بوصفها فكرة أشبه بالخطوة الاستباقية أو لِنَقُل التجربة المسبقة التي نتملص خلالها من قيودنا الدينية والمجتمعية والتزاماتنا الزوجية، لنكتفي بها إلى هذا الحد، حد تخيل الخطأ!
الخيالات ميزة نتمتع بها نحن البشر، بوصفنا مخلوقات متفردة بهذا الكون، ومع ذلك لا يستفيد بعضنا منها فيقرر خوض ما ورد فيها واقعيًا بسبب ضمورٍ أصابها.
وهذا ما حصل للدكتور ويليام هيرفورد الذي قام بدوره توم كروز في فيلم «عيون مغمضة باتساع» للمخرج ستانلي كوبريك الصادر عام 1999، حين عجز عن الاكتفاء باللذة الممنوعة بخياله كما فعلت زوجته «أليس» التي قامت بدورها نيكول كيدمان حين حرضته على البحث عنها على الواقع، في عملية كانت هي فيها الشيطان الموسوس لآدم، بعدما اعترفت له وهي تحت تأثير المخدرات بخيانتها «المتخيلة» مع ضابط البحرية الوسيم الذي رمقها فحسب في إجازة الصيف التي قضتها مع ويليام في «كيب كود».
قالت:
«هل تذكر الضابط الذي كان يجلس بالقرب من طاولتنا برفقة ضابطين آخرين؟ عندما أعطاه النادل رسالة فغادر بعدها على الفور؟ كنت قد رأيته في ردهة الفندق أول مرة في الصباح الباكر. كان يسجل دخوله، وكان يتبع حامل الحقائب إلى المصعد. رمقني أثناء عبوره بعينه.. رمقني فقط، لا أكثر ولا أقل. لكنني بالكاد تمكنت من الحركة.. بعد ظهيرة ذلك اليوم كنا أنا وأنت نمارس الجنس وخططنا لمستقبلنا، ومع ذلك لم يغب ضابط البحرية عن ذهني قط، ولا للحظة واحدة، وتساءلت إن كان راغبًا فيّ، ولو لليلة واحدة. كنت مستعدة للتخلي عن كل شيء.. التخلي عنك وعن ابنتنا هيلينا، ومستقبلي كله.. كل شيء.. مقابل ليلة واحدة معه.. وعلى العشاء في اليوم التالي أدركت أنه ذهب فشعرت حينها بارتياح».
يحضر المخدر الذي حرّض زوجة الدكتور -أليس- على الاعتراف بهذه الخيانة المتوهمة الجموح بوصفه أحد الامتدادات، والملذات الدنيوية التي تقود إلى اللذة الأم. أتذكر من أحد الوثائقيات مدمنًا شبّه شعوره أثناء تعاطيه لمادة «الكراك» بذروة الشبق المعلقة بأبدية. وهذا يقودني كذلك إلى الكتاب الذي تناول يوميات مارتا هاريس «امرأة في برلين» عندما أشادت قليلًا بأخلاقيات الجنود الروس أثناء صحوتهم إبان اجتياحهم لبرلين، والتي كانت تغيب مباشرة بعد أن يتجرعوا الكحول، فعندما انسحب جيوش الألمان من المدن التي فيها مصانع للكحول أثناء هزيمتهم تخلوا عنها دون تدمير وفق استراتيجية لأوامر عليا، تاركينها للعدو الروسي لتقلل من عزيمته في القتال وتبطئ من حركته، ولكن ما لم يحسب حسابَه الألمان هو أن الموانع الداخلية سقطت، وتفجرت رغباتهم الحيوانية بسبب الكحول، حيث يُعتقد أن نصف حوادث الاغتصاب حينها كانت بسبب هذه الخطوة الحمقاء!
وعودةً إلى الفيلم -«عيون مغمضة باتساع»- نستحضر الزوج الدكتور ويليام وهو يهيم على وجهه طوال الليل بمحفظته الممتلئة، باحثًا باستمرار عن متعة جسدية استهلاكية في حين أن صورة خيانة زوجته مع ضابط البحرية تراوده بتوتر واعتلال كلعنة تلاحقه لم يكن ليتوقعها، تارة تثير رغبته لدرجة الاعتقاد بالازدراء المازوخي، وتارة تثير اشمئزازه، وكأن الخيانة المتخيلة كانت خيانة حقيقية حصلت في بُعد كوني آخر، ولكونه لم يختبر الغيرة قط، عانى في محاولة التعبير عنها، حين وقعت عليه سلبيًا بعد أن كان يظن زوجته مِلكًا له بسبب العهود المقدسة، ولا شك أن قسم أبقراط عزز من هذا النذر، فلم تراوده حتى في يومٍ واحد رغبةٌ جنسية حيال مريضاته اللاتي كن يكشفن له عن مفاتنهن للفحص، حتى حضر ضابط البحرية في حياته، فكما يقول حمودة إسماعيلي في كتاب «لغز الأنوثة وعقدة الجنس»: «حدوث عكس ما كان يتوقعه المرء يكشف عن بلاهته التي جعلته ينخدع، الأمر الذي يعتبر إهانة للذات وسبب عدم أخذه بالاحتمال هو اعتقاده بامتلاك الآخر والسيطرة عليه دون اعتبار لاستقلاله أو حريته، فالتملك يُشعر المرء بالأمان».
وأثناء محاولة استعادة اعتباره كرَدٍّ على إهانته التي زرعها الأمان، يصل الدكتور إلى حفل ماجن هو الأمثل للتنفيس عن التوتر الذي ترجمه جسدُه طاقةً كامنة. على الرغم من سوء حظه في عدم الممارسة فيه، فإن الملاحَظ أن اقترابه من الخيانة الحقيقية كان بعيدًا تمام البُعد عن الرغبة الجنسية الحقيقية التي اقترنت بمَشاهد زوجته التي لم تحصل. تشعر -بوصفك مُشاهدًا- وكأن ما حصل تحوّل إلى أداة لتحقيق متعة، أو وكأنه موضوع تسبّب في إثارة لا يرتضيها ويليام، حتى تتقدم الأحداث ويبدو للدكتور ويليام ما بدا لآدم من «سوءته»، بعد أن تفاقم توتره، حيث لم يعد زواجه المهدد بالانتهاء بعد مغامرته الأريوسية، بل حياته على الأرض، منفى آدم، بعدما أدرك أن الحفل الماجن كانت ترتاده شخصيات مهمة شعرت بالتهديد من وجوده، وبالتالي قد يُقتل..
وهكذا تنتهي المغامرة التي ابتدعها ستانلي كوبرك وقارب لنا فيها دورة الشبق الجنسية: كيف تولد ومتى تصل إلى الذروة وكيف تنحسر وكيف تتلاشى بعد أول مهدد كبير للمكتسبات الحياتية. ظهرت لنا السمات التعقيدية المقترنة بالرغبة، كما أنه قدّم لنا موعظة الصفح وتقدير النِعَم بعد النجاة من الإدراك النزوي، والتي تتمثل في مشهد الدكتور عندما عاد إلى رشده وزوجته نادمًا على مغامراته الجنسية الانتقامية التي باءت بالفشل لتردّ عليه بقولها:
«علينا أن نكون ممتنين لأننا تمكنّا من النجاة بعد كل مغامراتنا، سواء كانت حقيقية أو مجرد حلم».
هناك دراسة نقلتها مجلة «ساينتفيك أميركان» العلمية، اعترف فيها المشاركون بأسباب الخيانة في علاقتهم، فكشفت التحاليل عن ثمانية أسباب رئيسة وراء ذلك، وهي الغضب، واحترام الذات، وقلة الحب، وقلة الالتزام، والحاجة إلى التنوع في العلاقات، والإهمال، والرغبة الجنسية، وأخيرًا ملابسات أدت إلى الخيانة.. وما حصل للدكتور ويليام في الفيلم هو خليط ما بين جميع الأسباب المذكورة أعلاه، ولا سيما الأخيرة وهي الملابسات!
ولعل السينما تلعب دورها المشابه لدور خيالات الإنسان الرغبوية في خلق العوالم المتسقة مع الدفائن بداخلنا كمتنفس يحذرنا من مآلات خوض الممنوع، وقد تكون أداة تحذير كما حصل في فيلم «الخائنة» للمخرج أدريان لين الصادر عام 2002، حيث تظهر الزوجة «كوني»، والتي قامت بدورها الممثلة ديان لين، وهي تخون زوجها إدوارد، الذي قام بدوره الممثل ريتشارد غير، بصورة من اتخذت رغبتها بوصفها غاية استعبدتها، فالانقلاب الدراماتيكي في هذا العمل هو أكثر ما يشد المُشاهد، حيث يبدأ بصورة رتابة لزوجين يعيشان حياة سعيدة وناجحة ومطمئنة، حتى تقابل الزوجة، أثناء ذهابها إلى عملها في يوم عاصف، الوسيم «بول مارتل» فتُسحر به، وتسمح له أن يستولي عليها ويطارحها الرذيلة بصورة لم تعتد عليها، حيث تتحول إلى خاضعة مُهانة دون قدرة على تبرير فعلتها.
الفيلم يُظهر لنا اللذة وهي تتحول إلى غاية معبودة، تقود إلى انحراف وتهور، وسرطان كما شبهه كوستي بندلي حين قال: «السعي إلى اللذة يصبح شاذًا إذا طغى على حاجات الإنسان الحقيقية وجعله يهملها وينحرف عنها؛ عندئذ يصبح هذا السعي نوعًا من السرطان، فالسرطان في الكيان الإنساني، كما هو معلوم، عبارة عن خلايا طبيعية تتكاثر بإفراط، فيختل من جراء هذا التكاثر توازن الجسم فيعتل ويسير نحو الهلاك، وكأن جزءًا من الجسم، باتخاذه أهمية مفرطة، انقلب على الجسم ككل ليدمره. هكذا فالسعي إلى اللذة من أجل ذاتها أمر طبيعي عند الإنسان، ولكنه إذا تضخّم وتجاوز حدوده انقلب على نفسه وعلى الكيان الإنساني».
ولعل اتخاذي أفلامًا تقود إلى أشد تجليات اللذة الحسية والغريزة الغامضة، غرضه إدراك فوائد مخالَفة الهوى وإدراك ما قد تجذبه الأهواء من جريمة وغضب وانتقام في حال الاستسلام لها، وأحيانًا إلى تسامح مُرّ لا يُعيد المرء إلى نعيمه.. وقد تكون بسبب نزعة أفلاطونية تقدّم الروح على الجسد.