«نور»: كيف تحوّلت قاعة السينما إلى ملعب كرة قدم؟

لو صنعت فيلمًا وثائقيًا عن اللاعب محمد نور بكاميرا رديئة لهاتفٍ محمول من إحدى غرف منزلك، لتمكّنت من تحريكِ مشاعر المشاهدين ونجحت في أن تصل إلى قلوبهم، فالموضوع هنا يتجاوز حدود السينما، إننا نتحدث عن لاعب كرة قدم تمكن من أن «يحفر اسمه في الصخر» كما قال متحدثًا عن مسيرته الطويلة في الفيلم الوثائقي «نور» لمخرجه عمر المقرّي. وهذا الاسم لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة، وسيبقى ملهمًا لأجيالٍ ستأتي، ومحتفظًا بمكانته في ذاكرة الملايين، في جدة، الرياض، أو حفر الباطن، أو ربما في غامبيا، مثل ذلك المشجع الذي عرفَ محمد نور في مباراة السعودية وإسبانيا خلال كأس العالم 2006، ولم يلفتِ انتباهه لا تشافي هيرنانديز ولا أندريس إنييستا أو حتّى سيسك فابريغاس وتشابي ألونسو، وإنما ذهبت عينه إلى من صار يعرفُ بـ"القوة العاشرة". وعندما نستذكر نتيجة اللقاء الذي استضافه ملعب فريتز والتر بمدينة كايزرسلاوترن الألمانية؟ لا، لم يفز المنتخب السعودي، ولم يسجّل نور في ذلك اللقاء ثلاثية، لقد انتهى بالخسارة بهدف خوانيتو غوتييرز، اللاعب الشاب الذي لم يعرف عنه حتّى عشّاق كرة القدم الإسبان إلّا تلك اللحظة التي حفظت اسمه في تاريخ كرة القدم.

تعرف قاعات السينما بالهدوء، ولها آداب يجب الالتزام بها. وأوّل هذه الآداب التي تعارفنا عليها ولا نقبل أن تُكسر: الصمت عند مشاهدة فيلم في السينما. غير أن هذه القاعدة قد كُسرت خلال عرض فيلم «نور»، وتواطأ الجميع على قبول ذلك، حينما اكتظَّت قاعة العروض الرئيسية بقصر الثقافة في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، بمن؟ بالجمهور. ولكن أي جمهور؟ ليس جمهورًا سينمائيًا بكل تأكيد. لقد تحوّلت القاعة إلى ملعب كرة قدَم. إحدى المُشاهِدات كانت تتساءل: لماذا يصفق الحاضرون أثناء مشاهدة الفيلم؟ لماذا يرددون الأهازيج؟ ما كلّ هذا الإزعاج! وهي تسأل لأنها من الجمهور السينمائي. من الصعب فهم كرة القدم.

كرة القدم تشبه الشِعر، وهي تشبه السينما كذلك. إنها لعبة، وليست مثل أي لعبة، إنها مشاعر متجسّدة. قبل أعوامٍ طويلة قال السير بيل شانكلي المدرّب التاريخي لليفربول الإنجليزي: «يروق لبعض الناس أن يؤمنوا بأن كرة القدم مسألة حياة أو موت، وكم يخيّب أملي هذا الاعتقاد. أستطيع أن أؤكد لكم بأن كرة القدم أهم من ذلك بكثير». دائمًا ما أردد هذا الاقتباس، لأنه يضع اليد على العلاقة المجنونة التي تربط بين الناس وهذه اللعبة. وهذا ما يجعلُ تعريف الأبعاد الكامنة في كرة القدم وشرحها عمليةً صعبةً وربما مستحيلة. حينما أضاع باجيو ركلةَ الجزاء الأهم في التاريخ قبل 31 سنة، سمّاه محبو كرة القدم بـ"الرجل الذي مات واقفًا" ومازالوا يرددونها، وحينما اقتيد مارادونا ببراءة طفولية إلى "المذبح"، خرج من هناك قائلًا: "لقد قطعوا رجلَيّ"، ومازال الحديثُ طازجًا عن "فضيحة خيخون" رغم مضي 43 عامًا. إذن كيف يمكننا أن نصنع فيلمًا وثائقيًا عن اللاعب صاحب المسيرة الأكثر إثارةً للجدل في تاريخ كرة القدم السعودية، اللاعب الذي أحبّه كثير من جماهير كرة القدم السعودية كما لم يحبّوا أي لاعب آخر؟

على الفيلم الوثائقي أن يقدّم شيئًا جديدًا، تفاصيلَ لا يعرفها المشاهدون، أن يضع مصباحه الكاشف فوق اللحظات الداكنة ويضيئها للمشاهدين، وأن يقول لهم ما لم يكونوا يعرفونه سلفًا. وهي مهمّةٌ صعبةٌ ومعقّدة حينما يكون موضوعُ الفيلم هو محمد نور. هل نجح الفيلم في ذلك؟ لنترك هذا السؤال مفتوحًا.

بعد نهائيات كأس العالم 2006، دخلت مسيرة نور مع المنتخب السعودي نفقًا مظلمًا، إذ غاب عن بطولات كأس أمم آسيا 3 مرّات أعوام 2007-2011-2015، وغاب عن التصفيات المؤهلة لنسختي كأس العالم 2010-2014، على الرّغم من أنه، خلال هذه الفترة، لم يكن حتّى أشدُّ كارهيه قادرًا على أن يضع تصنيفًا لأفضل 3 لاعبين سعوديين دون أن يكون نور من بينهم. هذه القصّة على فداحتها بقيت لغزًا مفتوحًا إلى يومنا هذا، تحيطُ بها التكهنات والتفسيرات المبنية على نظرية المؤامرة، فيما غابت الحقيقة. لماذا لم يكن نور يلعب مع المنتخب؟ لا إجابة واضحة. وما يمكن انتظاره من فيلمٍ وثائقي أُنتج بعد اعتزال اللاعب بـ9 سنوات هو أن يُجيب على هذا السؤال المفتوح. فهل تمكّن فيلم «نور» من ذلك، لا! بل تناولَ القصة، وهي لغز، وتركها وهي لغز.

ولم تكن هذه هي القصّةَ الوحيدة، فهناك الكثير من القصص التي هي ألغازٌ حقيقية في تلك المسيرة الطويلة. ولعل نهاية مسيرة محمد نور الكروية هي إحدى أكثر القصص المثيرة للتساؤلات في عالم كرة القدم خلال العقود الماضية. مجددًا تناولها الفيلم، عبر طرح أسئلة مواربة، تاركًا المشاهدين دون إجابة. لماذا أوقف محمد نور ابتداءً بتهمة تعاطي المنشطات؟ لماذا رفعت لجنة الاستئناف قرار الإيقاف؟ وكيف أوقِف محمد نور من جديد لتنتهي مسيرته مرّة وإلى الأبد؟ لا إجابة واضحة.

تعيدنا هذه الأفكار وغيرها إلى الأساس، إلى السؤال الجوهري: ما هو الفيلم الوثائقي؟ هل تجميعُ لحظاتٍ تتراوحُ بين ما هو خلّابٌ ومأساوي من حكاية البطل، وعرضها على الشاشة، كافٍ لتصنيف ما نشاهده فيلمًا وثائقيًا؟ بكل تأكيد لا. لقد عانى الفيلم من إشكالات رئيسية، كان أوّلها متعلّقًا بالكتابة. إنه يعرض سرديّة متشظية، تلتزم بالخطّ الزمني دون أن تلتقطَ ملامح البطولة. إن كتابة قصّة عن بطلٍ لها الكثير من الأساليب المتعارف عليها، وفي الفيلم الذي بين أيدينا لا نلمح أيًا من هذه الأساليب. أمامنا بطل من نوعٍ خاص، بطلٌ له قصةً تراجيدية، إلا أنه لا ينتصر في النهاية، ولا يخرج من الأبواب الكبيرة.

لم يقدّم لنا فيلم «نور» إلّا النوستالجيا. وأعادنا بالذاكرة، إلى لحظاتٍ لم ننسها، ومازالت تعيش فينا، صبّ عليها قليلًا من ملح الماضي فهيّجها. إنه رحلة بالزمن، وهي رحلة ناقصة، وغير مكتملة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى