انطباع عن فيلم "بلفاست"

August 24, 2024

في الماضي القريب حينما لاحت بوادر جائحة ستغير من نمط حياة سكان الكرة الأرضية لتُذكّر العالم بقصص ظنّ تواجدها فقط داخل صفحات الكتب، مضيتُ مسرعة في البحث عن إلهاء ينسيني تلك الأخبار القادمة من الشرق؛ فالأمور لا تبدو أنها تسير على خير ما يرام لكثرة الأحاديث المتواترة عن سيناريوهات متخيلة تتعلق بالبقاء داخل المنازل وعدم الخروج منها درءًا ومنعًا لانتشار ذلك الفيروس.

أذكر ذلك اليوم جيدًا. أردت أن أتبضع غرضًا يسهم في تعزيز فكرة الانسحاب عن كل تلك المنغصات، وهي طريقة دائمًا ما تجدي معي. شعرت بشهية تجاه الكتب وهي شهية كنت قد فقدتها في العام الذي سبقه، ولأنني كنت أرغب في تواجد الغرض حالاً، توجهت نحو صفحة أمازون وتحديدًا في قسم الكتب الصوتية والمعروف بـ"أوديبل". يممت عيني صوب الكتب الأكثر مبيعًا وغفرت لنفسي تلك الزلة فيما بعد، فطالما بغُضت ذلك التصنيف، وما زلت، ولكن لنتذكر معًا أن الوضع كان غير اعتيادي يستوجب أفعالاً شاذة.

اخترت قسم الكتب التاريخية منها، فما من ميزة أفضل من أن أنسحب من المكان والزمان معًا. تجلى لي بشكل صارخ كتاب يحمل عنوان "Say Nothing". يُذكر في الوصف المختصر به أنه تحقيق من صحفي لأحداث غامضة وقعت إبان الاضطرابات في أيرلندا الشمالية. قلت لنفسي: «لمَ لا؟»، فقد كُنت في زمان مضى مهووسةً بكل ما يقع داخل نطاق الحرب الأهلية؛ بدأتها مع الإسبانية، تبعها تطفل نحو الحرب الأهلية اللبنانية، لينتهي بي المطاف في الغوص عميقًا داخل خبايا ومسببات الحرب الأهلية الأمريكية والتي عُدّت غزيرة المراجع بشقيها المرئي والمقروء. إذن ما المانع أن أُنيرَ بصيرتي تجاه الحرب الأهلية الأيرلندية، وإن بدت صغيرة إذا قورنت بتلك الحروب؟ لن أسهب في الحديث كثيرًا عن مسببات تلك الحرب والقصص المروعة المنبثقة منها، فهي ببساطة لا تختلف عن نظيراتها في البقاع المختلفة: طوائف متناحرة وأحزاب سياسية متضادة جهتي اليمين واليسار وولاءات لبلدان ما خلف البحار.

قرر الصحفي الاستقصائي باتريك رادن كييف أن يغمر نفسه داخل أعماق الأحداث المضطربة لأيرلندا الشمالية القابعة داخل النطاق الزمني المبتدئ بالستينيات، إلى أن نصل معه إلى مشارف القرن الحادي والعشرين، ضامًا إياها داخل صفحات كتابه "Say Nothing". الشرارة الأولى التي قادته لكتابة هذا العمل كان خبر نعي لإحدى قادة جماعة IRA، والتي ذُكر أنه من بين ضحاياها امرأة اتُهمت بالتخابر مع البريطانيين، ووُصفت بكونها أرملة وأمًا لعشرة أطفال. أخذ كييف يحفر عميقًا بحثًا عن قصص شبيهة بتلك القصة المثيرة ليجد المئات والمئات من القصص المتطابقة والتي ظلت في طي الكتمان من دون رغبة من أحد في الحديث عنها.

هي حرب أهلية في مجتمع بلفاست. أُناس عُدّوا من الجيرة الخيرة ليجدوا أنفسهم في أقفاص اتهام متعددة الأطراف حسب ولائهم. تلك الأوضاع لم تكن طبيعية لمن أراد أن يعيش حياة رتيبة دون اختلال يصيبها أو حماس يميزها. تلك المصيبة أثرت في "كينيث براناه" الطفل، الممثل والكاتب والمخرج فيما بعد. جعلته مراقبًا للتغيرات التي تطرأ: الجيران الكاثوليك المغادرون لمنطقتهم ذات الأغلبية البروتستانتية، نقاشات الأهل عن صحة هذه الأفعال من عدمها، والرغبات الملحة التي تطرأ على رب الأسرة بالهجرة لإنجلترا رغبةً في جعل الحياة طبيعية أكثر لأطفاله.

استدعى براناه تلك الأحداث الحبيسة بداخله والمطمورة عميقًا، رغبة منه في إخراجها، جاعلاً منها فعلاً مقبولاً لا انهيارًا يؤذي صاحبها. هذا الأمر تجسد في كتابة وإخراج فيلمه "بلفاست"، وكأنه أعاد براناه الطفل ليتجسد أمامه مرة أخرى من خلال شخصية "بدي". إذًا الفيلم يسرد قصة اضطرابات بلفاست من خلال عيني الطفل بدي، أو سردية كينيث براناه نفسه في محاولة منه أن يجعل الفيلم سيرة ذاتية له. أغلب المشاهد تنطوي على حديث يبتدئه الطفل بدي – تساؤل فلسفي عميق يرميه ببراءة على جده – كما يسترق الطفل السمع لأحاديث البالغين الملتهبة التي تنطوي على قرارات من شأنها أن تغير مصير العائلة دونما استيعاب منه أو حتى إدراك لحجم الكارثة القادمة. يحاول جاهدًا أن يفكك أمورًا مبهمة وأشخاصًا تغيرت أفعالهم إذا قورنت بفترة مضت. تراوده لحظات استغراب عن سبب منعهم من لعب الكرة في الخارج كما كان يفعل من قبل؛ فتلك اللعبة تمثل انسحابًا يرغب فيه بشدة إن أراد النجاة من الأوضاع المستهجنة. ولم تكن كرة القدم وحدها ما أسهمت في إنقاذه، فمشاهدة الأفلام وفتاة تدعى كاثرين كان لهما الدور البارز في خلق درع شفاف من شأنه أن يقيه الأجواء المسعورة في الخارج.

اعتمد المخرج كينيث براناه اللونين الأبيض والأسود رغبة منه في إضفاء إيحاء لزمن لم يعد موجودًا، أي أن تلك الأحداث العاصفة في المدينة لم يعد لها حضور فيما بيننا اليوم، وهو ما نجح في إيصاله بالفعل. إذًا هو ليس استجداء عاطفة ممزوجة بحزن لأمور تثير تلك المشاعر لا محالة، وهذا الأمر نجح فيه بشدة كون الرائي والمراقب والسارد لتلك القصة عُدّ طفلاً، وهو الدور الملائم لطبيعة صغار السن. ولعل أحد الأمثلة على تواجد لقطات مبهجة أكثر من تلك الكدرة، مراقبة الطفل بدي لوالديه وهما يؤديان رقصة على أنغام أغنية بوب (pop) شهيرة. ترمقه يجحظ بكلتا عينيه في دليل دامغ على ابتهاج متدفق يوحي للمُشاهد بأوضاع مستقرة وسلام مستمر، لننسى معها تلك الأحداث المضطربة في الشارع والتي لم تهدأ قط في تلك الأثناء.

أستطيع أن أصنف فيلم "بلفاست" من الأفلام التي تضفي شعورًا جميلاً رغم شناعة الأحداث المستنَد إليها. نقيض ومنقوض، تمكَّن كينيث براناه من الجمع بينهما. ولعلها خلطة مقاديرها سرية نظرًا لصعوبة تحقيقها في قصص أخرى تتشابه إلى حد ما في ما حدث داخل مدينة بلفاست. الابتسامة ستعرف طريقها إليك طيلة فترة عرض الفيلم ولن تبرح مكانها لحين ظهور تتر النهاية.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى