يفتتح عدي رشيد فيلمه «أناشيد آدم» (Songs of Adam - 2024) بلقطةٍ ساحرةٍ لأرضِ ما بين النهرين: أرضٌ منبسطةٌ خضراء نابضةٌ بالحياة، يتوسَّطها طفلٌ يتجوَّل وحيدًا. في خضمِّ بهاء المنظر والسكون المرافق لهذه اللقطة، يحيلنا رشيد سريعًا إلى ما سيكون محرِّك مسار أحداث الفيلم: مشهد الموت. مشهدٌ صريح، موجعٌ وقدري، تبدأ منه الحكاية.
من خلال هاتين اللقطتين المتتاليتين - بهاء الطبيعة والموت المفزع - يؤسِّس رشيد القاعدة الرئيسيَّة لفيلمه، وكأنَّنا على موعدٍ مع تأرجحٍ دائمٍ بين هذين النقيضين. سيحاول شخوصُ الفيلم، في حواراتهم وتأمُّلاتهم وحتى في صمتهم، فهم المعنى الكامن وراء الحياة والموت. وفي رحلتهم هذه سيبقى الحدُّ الفاصل بين الحدثَين غيرَ مرئي، أو متلاشيًا تمامًا في بعض الأحيان.
يروي فيلم «أناشيد آدم» قصَّة الطفل «آدم» (عزَّام أحمد)، ابن الاثني عشر ربيعًا والذي سيُفجَع بموتِ جده. في هذه اللحظة المفصليَّة سيأخذ على عاتقه مسؤوليَّة حضورِ مشهدِ غسلِ جثَّة الجد، وعلى أثر ذلك يتَّخذ قرارًا غريبًا وحاسمًا: أن يوقف نموَّه عند الحد الذي وصل إليه وعدم الاستمرار في الكبر. يتشارك آدم هذا السرَّ مع كلٍّ من شقيقه علي وابنة عمِّه إيمان وصديقه المقرَّب آنكي، الذي سيصبح لاحقًا حارسه الأمين وأقرب الناس إلى نفسه. هؤلاء جميعًا سيكونون شاهدين على رؤية آدم، إذ سيتوقَّف الزمن عند آدم، في حين سيظلُّ هو يراقب تأثير الزمن على مصائرِ من حوله.. بيد أنَّ قراره لا يمرُّ بسلاسة، فالأحداث، العامة منها والخاصة، ستلقي بظلالها الثقيلة عليه وتدفعه لمواجهة سلسلةٍ من المتاعب، أبرزُها رفض أهل القرية لخياره وسعيهم المستمرِّ لثنيه عنه بمختلف الوسائل.
يسعى الفيلم إلى التعبير عن فكرته الخيالية ذات الطابع الشاعري على مستويين متوازيين:
- يتمثَّل المستوى الأوَّل في الرؤية البصريَّة الصوريَّة والتي ستشكِّل خلفيَّة الفيلم، والمتمثِّلة في بناءِ صورةٍ عن المكان الذي تدور فيه الاحداث: تلتقط الكاميرا مشاهدَ للطبيعة الخلَّابة في مزارع العراق، تقابلُها لقطاتٌ داكنةٌ لصحاريه، في تباينٍ بصريٍّ يعكسُ ازدواجيَّة الحياة والموت، الخصوبة والجفاف.
- أما المستوى الثاني فهو أدائيٌّ بامتياز، ويتمحور حول شخصيَّة آدم، نتحرَّك معه ونشاركه مشاعره، نقرأ خيالاته ونشعر بتقلُّباته: تارَّةً يكون رقيقًا كفراشةٍ تتحسَّس أجنحتها، وتارةً أخرى يُجبَر على التصلُّب والقسوة.
على كلا المستويين، سيمضي آدم وحيدًا في خيالاته، غير أنَّ وحدته لا تنغلق عليه وحده، بل تفتح لنا نحن كمشاهدين بابًا واسعًا للتساؤل حول المعنى الحقيقيِّ للعاطفةِ والقسوة، وكذلك حول معضلته الكبرى: قراره بأن يظلَّ صغيرًا، وما يحمله ذلك من دلالاتٍ إنسانيَّةٍ وفلسفيَّةٍ في أعين من يراقبونه.
على الرغم من الجانب الخيالي والمستغرق في الشاعريَّة للقصَّة، غير أنَّ إيقاع الفيلم يظل ساكنًا إلى حدٍّ كبيرٍ مع غياب تطوُّرٍ ملموسٍ في مجريات الأحداث. المشكلة لا تكمنُ في قصَّة الفيلم الرئيسيَّة، بل في ديناميكيَّة الفيلم وحركة أحداثه التي يشوبها بعض البطء، خصوصًا في النصف الثاني وصولًا إلى النهاية. كما أنَّ خلفيَّة الأحداث العامَّة تبقى هامشيَّةً ومستترةً نوعًا ما، وإن برزت في فتراتٍ زمنيَّةٍ من تاريخ العراق، إلا أنَّها كانت عبارةً عن جملةٍ أو حوارٍ يتمُّ تداوله بين الشخوص، أو عبارة عن مؤثِّرٍ صوتيٍّ كصوتِ دوي انفجاراتٍ يظهرُ في خلفيَّة لقطةٍ معيَّنة.
في ما يخصُّ الأداءات التمثيليَّة، فقد عمَد صنَّاع الفيلم إلى توزيعَ أداء كلِّ شخصيَّةٍ على خمسة ممثِّلين يجسِّدون مراحلها العمرية المختلفة، وذلك تماشيًا مع التسلسل الزمني للأحداث الممتدَّة من عام 1946 حتى الزمن الحاضر. هذا النهج أتاحَ تنوُّعًا في الأداءات دون المساس بالبنية العامة للشخصيَّات، والتي بدت كأنَّها مرسومةٌ على نحوٍ مسبقٍ وثابتةٍ لا تتطوَّر. رغم ذلك نجدُ شخصيَّتان تميَّزتا على نحوٍ لافت: علي شقيق آدم، وقد أداها تباعًا ميكائيل محمد (صغيرًا)، بسام كاظم (مراهقًا)، أوس صلاح (شابًّا)، ستار عواد (رجلًا)، وزاهر يحيى (رجلًا عجوز)، حيث بدت شخصيَّته نابضةً بالحياة، متأرجحةً بين القسوة والحنان، بانفعالٍ واضحٍ وحضورٍ متماسك؛ أما الشخصيَّة الثانية فهي إيمان، والتي أدَّى دورها كلٌّ من سما علي (صغيرةً)، سما عدي (مراهقة)، هدى شاهين (شابَّة)، آلاء نجم (امرأة)، وحياة الشواك (امرأة عجوز)، وقد شكَّلت حضورًا مؤثِّرًا في حياة آدم، خاصَّةً في المشاهد التي جمعتهما، رغم أنَّ تعبيراتها العاطفيَّة كان من الممكن إبرازها بشكلٍ أعمق، ومع ذلك فإنَّ تلك اللحظات المفعمة بالنظرات والإيماءات كانت من أرقِّ ما في الفيلم وأكثره حساسية. أيضًا لا بدَّ من الإشادة بشخصيَّة آنكي، صديق آدم المقرب، والتي جسَّدها كلٌّ من مصطفى رائد (صغيرًا)، أسامة عزامي (مراهقًا)، تحسين داحس (شابًّا)، أحمد عزامي (رجلًا)، ود. عبد الجبار حسن (رجلًا عجوز)، وهؤلاء حافظوا على مسار الشخصية بثبات دون تغييرات واضحة. ويبقى الأداء الأكثر استحقاقاً للإشادة من نصيب عزام أحمد في دور آدم، إذ قدَّم تجسيدًا عفويًّا تطلَّب جهدًا نفسيًّا وعاطفيًّا وجسديًّا كبيرًا.
«أناشيد آدم»، كما يوحي العنوان، هو ترنيمةٌ سينمائيَّةٌ تُروى بأحداث وحوارات تنبضُ بحسٍّ فلسفيٍّ شديد النعومة، إلَّا أنَّها لا تتعمَّدُ الانغماس في لغةٍ شعريَّةٍ عميقةٍ ومعقَّدة، بل على العكس تمامًا، إذ تتركُ الأحداث تسير بسلاسةٍ والشخوص تتحدَّث بلغةٍ وأسلوبٍ بسيطين، وهذه هي الميزة الأبرز في الفيلم. وعلى الرغم من بساطتها الظاهرة، تحملُ الحوارات بين الشخصيَّات معاني عميقةٍ تنطقُ بشاعريَّةٍ حالمةٍ أو قاسية، كأنَّها أبياتٌ شعريَّةٌ خفيَّةٌ تمرُّ في خلفية السرد. من هنا لا تستهدف ثيمة الفيلم فئةً محدَّدةً بخيالها وشاعريَّتها، بل تتَّكئ على فكرةٍ بسيطةٍ تُلامسُ الجميع دون استثناء.
لا بدَّ لـ «أناشيد آدم» أن يلامس شغاف المشاهدين بقصته، وهو ما ينجح فيه بعفويَّةٍ ونقاءٍ لافتَين. إنَّها المحاولةُ الأولى للسينما العراقيَّة في اقتحام عوالم الواقعيَّة السحريَّة ذات الطابع الشعري، ولعلَّ إهداء الفيلم إلى روح المخرج الإيراني عباس كيارستمي — أحد أبرز من ترجم الشعر إلى صورةٍ سينمائيَّةٍ نابضةٍ بالجمال والحياة — هو خيرُ دليلٍ على هذا التوجُّه... نعم إنَّها تجربةٌ أولى، ليست مثاليَّة، لكنَّها واعدةٌ وتحتاج إلى تعميقِ الجانب الداخلي للقصَّة بحيث تنبض الأحداث والشخصيات بروحٍ أكثر شاعريَّةً وثراء. هذا ما ينطبق على السينما العراقيَّة عمومًا، إذ نأمل أن تتواصل محاولات مثل «أناشيد آدم» في كسر النمطيَّة، وإبراز الجمال في الصورة وتطوُّر السرد، مع أداءٍ يحملُ فرادة وتميُّزًا حقيقيًّا.