يأتي فيلم المُخْرِج البريطانيّ تيرنس ديفيز «نهاية اليوم الطويل» (The Long Day Closes 1992) ختامًا حَمِيمِيًّا لرحلتهِ في الذاكرة، التي امْتدَّت عبر ستة عشر عامًا في ثلاثة أفلام قصيرة وفيلمَين طويليَن. رِحلة ديفيز هُنا ليست بدافع الحنين الذي يدفعنا عادةً إلى استرجاع الذكريات، وليست محاولة للهرب من حِبَال الزمن، الرحلة هُنا أقرب إلى أن تكون محاولة لِفَهم الذات واسترجاع أحداث ومَشَاهِد الماضي لِفَهم الحاضر، حيث لَمْ تكن طفولة ديفيز مثاليّة بأي حال من الأحوال؛ بل على العكس تمامًا، حيث عاش ديفيز طفولة حزينة ومُثقلة بهموم العُزلة، والانفصال عن باقي أَقْرانِه في المدرسة بسبب ميوله الجنسية، وفي البيت عانَى ديفيز من صعوبة الحياة مع أبٍ معنِّف وقاسٍ، وفي الكنيسة كان مُثقلاً بشعور الذنب الديني الكاثوليكي.
يسترجع ديفيز الأحداث والذكريات بطريقة غير تقليدية، ودون بنية سرديَّة واضحة، وبطريقة حُرة أكثر حتى من الأفلام التي سَبقتْه، والتي كانت تدور حول فترةٍ مُعَيَّنة من حياته أو حدثٍ مُعَيَّن، على سبيل المثال في فيلمه «أصوات بعيدة.. حيوات ساكنة» (Distant Voices, Still Lives 1988) كان يدور حول وفاة والِده وشَكَل ذكرياته قبل هذا الحدث وبعده، هنا لا وجود لِحدث مُعَيَّن، فقط سَيْل من الذكريات من طفولة ديفيز، مُصورة ومُمَنْتَجَة بأقرب شكل ممكن لِمَا تفعله أدمغتنا وهي تعرض لنا مَشَاهِد من ذكرياتنا؛ لِتنْسابَ أمام أَعيُننا بسببٍ مُعَيَّن أو بدون سبب.
ديفيز وبروست والذاكرة اللاإرادية:
حينما سُئِل ديفيز عن طريقته في اختيار ما يصوره من الذكريّات، أو الأسباب التي تجعله يختار مشاهد مُعيَّنة دون غيرها، قال إنه عندما يشم رائحة العُشب المقصوص يغمره سَيْل من ذكريات مدرسته القديمة، وما وصفه ديفيز شبيه بالحالة البُروستِيّة، ففي رواية بروست الأشهر: «البحث عن الزمن المفقود» يسترجع الراوي حقبة كاملة من طفولته بعد تذوقه لكعكة مادلين المغمَسة بالشاي، بالنسبة لديفيز في فيلميّه الطويلين كانت الموسيقى هي بمثابة كعكة المادلين تلك، وهي المُحرِك الرئيسيّ لذاكرته؛ لذا تجد أن فيلميّه كانا مُشْبعيّن بالترانيم الكنائسيّة والتَهويدات والأغاني الشعبيّة الإنجليزية، فكانت مَشَاهِد ديفيز أَشْبَه بوصف المسرحي تينيسي ويليامز للذاكرة: «في الذاكرة يبدو أن كل شيء يحدث مع الموسيقى».
استطاع ديفيز خلق تلك الحالة البُروستِيّة تمامّا كما تعمل الذاكرة، بلا شكل سرديّ واضح ومُحرّرة بشكل كامل من قيود الحَبكة أو الموضوع، وكان المونتاج لاعبًا أساسيًا في خلق تلك الحالة، حيث أكثر ديفيز من استخدام الانتقال المتداخل بين المَشَاهِد والتلاشي، ليظهر الفيلم بهذا الشكل الأقرب لهذيَان الذاكرة.
ينتهي الفيلم بمشهد مثير للكآبة جدًا، عندما ينزل (باد) إلى سرداب المنزل الذي شكّل فيه مُعْظَم ذكرياته، لكنه الآن بات مهجورًا لا حياة فيه، وجدرانه الخَرِبة لا تُوحِي بأنه كان في يومٍ ما بيتًا مُضاءً بدفء العائلة، وكل ما حدث فيه في الماضي هو الآن رهن الذاكرة التي تتفسخ أيضًا بمرور الزمن، ولا يملك (باد) للتعامل مع تلك الحقيقة سوى الوقوف أمامها والبكاء.
ديفيز وإليوت والزمن:
الزمان الحاضر، والزمان الماضي
حاضران كلاهما، ربما، في الزمان المقبل،
والزمان المقبل يحتويّه الزمان الماضي
إن كان الزمان كله حاضرًا أبدًا
كان الزمان كله مستحيل الافتداء
— تي. إس. إليوت من مقدمة قصيدته: «الأرض الخراب».
التأمل بالذاكرة بصفتها الفلسفية لا بدّ أن يرافقه تَأَمُّلٌ في الزمن أيضًا، وإذا كان مفهوم ديفيز عن الذاكرة بُروستيًّا فمفهومه عن الزمن أقرب لمفهوم الشاعر الأمريكي تي. إس. إليوت.
يَظهر اهتمام ديفيز بالزمن في عدة مَشاهِد أحدها مَشْهَد حِوَاري على لِسان الطفل باد -شخصيّة ديفيز في صِغره-، حيث يجلس مع صديقه وينظران إلى السماء، ويشرح (باد) لصديقه عن أن النجوم بهيئتها التي يَراها الآن هي نجوم ميتة، والضوء هذا الذي يَراه هو ضوء منبعث من قرونٍ خلَت، وهو بشكلٍ ما يصف عملية الذاكرة واسترجاع أحداث من سنينٍ خلَت.
مفهوم ديفيز وإليوت وغيرهم عن الزمن هو المفهوم العصري وليس المفهوم التقليدي عن الزمن بشكله الخطّي؛ بل الشكل الدائري له حيث الماضي والحاضر حاضران معًا في المستقبل أيضًا كما يصفه إليوت في مقدمة قصيدته.
إن السِيْنما بحد ذاتها وفكرة المونتاج، يُمثلان التصوير الأمثل للفكرة العصرية عن الزمن، لا خطّيته وتشظيّه. يذكر ديفيز في أحد اللقاءات أن من الأشياء المفضلة بالنسبة له في السِيْنما وصناعة الأفلام، هي قدرة السينما على التحكم بالزمن، إبطائه أو تسريعه والتحكّم المطلق بإيقاعه. بكل تأكيد لم يكن ديفيز أول المخرجين الذين يتملكهم الهوس بمفهوم الزمن، فهذا الموضوع كان مُرافقًا للسينما منذ نشأتها الأولى؛ لكن قدرة ديفيز على تصوير تأملاته في الزمن والذاكرة كانت بلا شك إضافة نوعيّة للسينما.
اختار ديفيز أن يختتم رحلته الذاتية بفيلم أكثر حميميّة ودفء من الأفلام التي سبقته، واختار أن يُظهر فيه المَشَاهِد المريحة له من طفولته، وكأنه أراد أن يختتم رحلته المُرِهقة في الذاكرة بالمَشَاهِد التي تعطيه إحساس الطمأنينة الملازم للطفولة وبراءتها، كالجلوس في حضن أمه وهي تُغنِي له في ليلة شتويّة باردة، أو النظر عبر الشبابيك، أو مُشاهدة الأفلام في السينما -والتي يصفها ديفيز بالتجربة الروحانيّة-، أو تَجمُّعات أعياد الميلاد العائلية، أو الأغاني والرقص وغيرها من الذكريات الدافئة، التي جَعَلَتْ من هذا الفيلم مُشبعًا بالمشاعر ودِفْء وحميميّة الطفولة؛ لِتعطينا تجربة سِيْنمائيّة شعريّة ملؤها الحنين، وتكون بذلك خاتمة حسيّة مؤثرة في نهاية الرحلة، وفي نهايةِ اليومِ الطويل.