نأي الجماهير عن السينما الهندية

عن الليالي التي كان يقضيها الناس في أغلب البيوت التي تملك تلفازًا، في مشاهدة أفلام بوليوود أسبوعيًا على القنوات الرسمية المحلية الوحيدة لديهم إلى نأيهم عنها ووصفها بالميلودراما.

تخبرني أمي عن ليالي الجمعة التي كان يجتمع فيها أطفالُ وشبّانُ ونساءُ المنزل والجيران لمشاهدة الفيلم الهندي المُعاد متسمّرين أمام الشاشة، وأجواء الضحك والضجيج تملأ الهواء، والضيافة تتراقص على السفرات، والضحكات تعانق الأرجاء. يتسلق أحدهم السطح لكي يضبط ترددات الدش (صحن الساتلايت)، وآخر يتعامل مع قرون الاستشعار في التلفاز أو الرسيفر، حيث تتلخص لغة الحوار بينهما في التالي: «حرّكه أكثر، توقّف، توقّف، لا ميّلها أكثر، وضحت الصورة، ثبّتها، ثبتها». غالب ما كان يُعرض من أفلام بوليوود هو إنتاج السبعينيات والستينيات وما قبلهما، لممثلين مثل: «أميتاب باتشان» في فيلم «شولا»، و«ميتون شاكرابورتي» الذي يتذكّره جيل الأجداد والآباء برقصات «الهيب هوب» الخاصة به في أغنية I Am A Disco Dancer.

من جيل يبحث عن مهرب يُخرجه من رتم الحياة الممل إلى الألوان، وحب رؤية انتصار الخير على الشر، والحب على كل الصعاب، والأغاني والرقصات التي تأخذ الشخص إلى عالم السحر والخيال، وشبابٍ يبحثون عن مثلٍ أعلى في ممثليهم ليحققوا حلم امتهانهم للتمثيل، مثل «شاروخ خان» الشاب الصغير الذي قَدِم من وضع مادي غير مستقر كما هو حال أغلب شباب الجيل القديم، حاملًا حلمه الكبير، وجاعلًا من «أميتاب باتشان» قدوة له، لأنه يأتي من خلفية اقتصادية مشابهة له، إلى أن بدأ في مشاركة التمثيل معه، وحقق ما كان يبتغيه.. إلى جيل جديد يسخر منها ويستنكر مشاهدة هذه الأفلام بعدما توفرت لديه أدوات وأساليب مختلفة للمتعة. أبني استنتاجي هنا على محادثات كثيرة خُضتُها في كل مرة عبّرتُ فيها عن رغبتي في مشاهدة فيلم هندي ما، أو عبّرتُ عن حبي لبوليوود، إضافةً إلى الانتقادات التي قرأتها في مواقعَ شتى.

أصبح يُنظَر إلى الأفلام الهندية بأنها بلا جدوى، ومبالغ فيها، ومكررة، وخالية من المنطقية. دعونا نهدأ، ونتوقف عن تعميم هذه النظرة الدونية تجاه نوع من أنواع الأفلام على الأفلام كافة. لا أنكر أن عددًا من إنتاجات بوليوود تتطابق مع السمات المذكورة سابقًا، ولكن لا يمكننا تعميم ذلك على جميع أفلام بوليوود.

من المهم أن نعرف أن بوليوود تُجسّد الوحدة لغالبية الهنود، حيث تتجاوز كافة الحواجز الطبقية والاجتماعية في دولة تنزف بالصراعات السياسية والدينية دون توقف. من المهم أن ندرك السياق الذي يتم فيه إنتاج هذه الأفلام: جزء كبير من الذين يشاهدون إنتاجات بوليوود يأتون من طبقات اجتماعية واقتصادية دنيا، متعطشون للحياة، رغم كل ما يعانون منه، حيث تُعتبر السينما الملجأ الأرخص للترفيه، يعيشون من خلاله كل الأحلام المحالة. 

ولذلك، أزعم بأن منتقدي الأفلام الهندية مدفوعون بعض الشيء بالنخبوية والنظرة الاستشراقية بدعوى افتقارها للجوانب الفلسفية والثقافية. لنترك مجرى الحديث جانبًا، ونركّز على البراعة الفنية في اختيارهم للملابس، والديكور، والمناظر الطبيعية الخلابة، والصور المختلفة للفنون الهندية المدهشة في عددٍ غير قليل من الأفلام، إضافةً إلى الدقة المتناهية في تأليف الرقصات والأغاني واختيار الآلات المناسبة والأصوات في الأفلام التي تُعبّر عن الإمكانات الإبداعية لهذه الصناعة، وأصالتها. على الرغم من وجود عدد من الأفلام الهندية التي لا تقل جودةً عن نظيراتها الناطقة بالإنجليزية، فإن كثيرًا من الناس ما زالوا -بسبب هيمنة الأفلام الغربية على صالات العرض، وكثرة الترويج لها، وما يصاحب الأفلام الهندية من وصمة- يقللون من شأنها.

على عكس الاعتقاد الخاطئ، أنتجتْ السينما الهندية مجموعةً واسعة من الأفلام تتناول موضوعات متنوعة على مدار تاريخها، مثل فيلم Slumdog Millionaire الذي فاز بجوائز الأوسكار وحقق نجاحًا كبيرًا على مستوى العالم، المقتبَس من رواية عالمية للكاتب «فيكاس سواروب» حاملًا اسم الرواية نفسه، واقفًا في تناقض صارخ مع التصورات الشعبية لبوليوود الحديثة، مُركّزًا على محنة الفقراء والمضطهَدين والأطفال المشرَدين، كاشفًا عما يتعرضون له من أعمال لا أخلاقية واستغلال.. وفيلم PK من بطولة «عامر خان»، الذي يدور حول فلسفة الرب، وعما يجب أن يتحلى به رجال الدين من صفات تتماشى مع ما يؤمنون به، دون استغلال للبسطاء من الناس من أجل مصالحهم الشخصية.. وفيلم Pink الذي يدافع فيه محامٍ متقاعد عن ضحية اعتداء جنسي تُحاكَم ظلمًا بتهمة محاولة قتل الجاني الذي اعتدى عليها، ويتحدى ثقافة الاغتصاب في الهند، في صراعٍ قانوني ينشد من تحطيمِ صورٍ من صور الذكورية لتحقيق العدالة. تُقدّم أغلب الأفلام التي ذكرتُها نغمةً مختلفة تمامًا عن الميلودراما والمسرحيات الموسيقية التي أصبحت مرادفة للصورة النمطية لبوليوود. أضف إلى تلك الأفلام فيلم The Lunchbox، الفيلم المفضل بالنسبة لي، فيلم كوميدي رومانسي ساحر يدور حول ارتباك الهوية، من تمثيل الراحل «عرفان خان». يختار الفيلم نغمةً أكثر كتمًا ودقة، ويتجنب أي أغنية أو لحظات رقص تمامًا، لكنه يحافظ على اتزانه في نقل الشعور بالحزن والدفء في الوقت ذاته.

علاوة على ذلك، قد يكون سبب عدم تطرُّق الأفلام للواقع السياسي كثيرًا نتاجًا للسياسات المفروضة من قِبَل الحكومة، ونظرًا لفشل عدد من الأفلام التي تناولت هذا الجانب، إضافةً إلى كونها تثير جدلًا واسعًا حيال انحيازية التحريف في القصة. ومع ذلك، هناك أفلام هندية أخرى تتناول قضايا اجتماعية بشكل مباشر أو غير مباشر. أمثلة على أفلام هندية تتناول قضايا اجتماعية وسياسية: Rang De Basanti و Uri: The Surgical Strike و Article 15 و Pad Man. تلك الأفلام تعالج قضايا مثل الفساد، والعدالة، وقضايا مجتمعية متنوعة.

أدرك تمامًا حقيقة أن صناعة السينما في الهند مثلها مثل أي صناعة أخرى، تعاني من نصيبها العادل من الجودة الرديئة. لماذا إذن نختار التركيز باستمرار على عيوب بوليوود بينما نكون قادرين على رؤية تنوُّع الإنتاجات الغربية؟ بالرغم من أننا أقرب من حيث الثقافة للإنتاج الهندي فيما نشترك فيه معهم من مبادئ متشابهة مثل مفهومنا للأسرة، وعددٍ غير قليل من العادات والتقاليد. أجد أنه من التحيُّز أن نتجاهل الإنتاج الإبداعي لشبه قارة بأكملها بسبب تصورٍ أو اختيارِ فيلمٍ خاطئ.

لذا، في المرة القادمة، يجب أن نحاول أن نحسن الاختيار والتفكر قبل أن ننتقد، لأن السينما الهندية -رغم كل ما تواجهه من نقد لاذع- تحاول أن تُرضي الجماهير، حتى وإن تَطَلَّب منها الأمر أن تستنسخ الأفلام الهوليوودية متخلية عن روحها الهندية.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى