«مايو ديسمبر»: السينما غير المريحة وتعقيدات الذوات المضطربة

إن الطفل في سنه الصغيرة تكون موارده محدودة لأجل فهم صحيح للعالم، لذلك -وفي أحسن الأحوال- تكون مرجعيته الأولى هي مقدمَي الرعاية من أب وأم، اللذان يحرصان على إرشاده وحمايته، لكن تخيل أن يسبق الأب إلى الطفل طرف آخر نرجسي مستغل وفي أسوأ الأحوال معتل نفسي مسيطر يتحكم فيه بقية حياته..

يبدأ فيلم «مايو ديسمبر» (2023) القصة من جزئية مختلفة ومضللة تمامًا، كأنه يطرح هذا السؤال المتحايل: ما الشيء المضر في عائلة سعيدة لا تؤذي أحدًا، أم وأب وأبناء مطيعين وسلام واضح؟ لكن هذا الذي يظهر على السطح فقط في صورته الزائفة، التي ستكشف الأحداثُ عبثيتَها، مبنيٌ في الحقيقة على جريمة كاملة وسلسلة من الضحايا، وهذا ما يجعل الفيلم صادمًا ودافعًا لطرح ألف سؤال وسؤال. إنه من الأفلام الكثيرة التي ظهرت مؤخرًا وتميزت بكونها تسلط الضوء على تأثير أحداث الطفولة والتنشئة على الحياة البالغة للإنسان.

هل يمكن لحياة تُصوَّر على أنها حياة سعيدة أو مُرضية لكل أطرافها أن تبرر جريمة أو أذى مرتكَبًا في حق من لم يكن حتى قادرًا على إدراك حقيقة ذلك الأذى، وطبيعة التحكم والتلاعب الذي مورِس عليه؟

نبدأ من المفارقة التي يختارها المخرج تود هاينز مقدمةً للفيلم، هذه المَشاهد التي توحي بهذا الانسجام بين الزوجين كما لو كان كل شيء مثاليًا، مثالية زائفة، ومتماسكًا ومستقرًا، في المطبخ أولاً ثم حيث تستلقي غريسي (جوليان موور) مطمئنة إلى جانب جو (تشارلز ميلتون) في باحة المنزل المطلة على واجهة بحرية جميلة، وكأنه يسعى إلى كسب تعاطفنا قبل أن يكشف لنا الحقيقة الصادمة، إذ ترتكز القصة على واقعة حقيقية حدثت في التسعينيات، حيث تقيم معلمة ثلاثينية علاقة مع تلميذ في الصف السابع الذي كان زميلاً لابنها، تُعتقل ثم تتزوجه فيما بعد وتنشأ حولهما ضجة إعلامية كبيرة.

يسعى المخرج، من خلال إعادة بعث هذه القصة وإعطاء كثافة لشخوص فيلمه، إلى خلق حالة داخلية من الجدل لدى المُشاهد، لإبراز جوانبها المظلمة التي عادةً ما تغفل الصحافة تسليط الضوء عليها، حيث إن علاقة مرضية كتلك لا يمكن أن تنشأ إلا إذا كان لديها أبعاد سيكولوجية معقدة، وتقاطعات غريبة، وبالتالي فإنه، ليسبر أغوارها، عمد إلى اللجوء إلى طرف ثالث يحمل أقوى أدوات الإرباك والحفر العميق: الأسئلة الصريحة والمستفزة، التي تعمل على اختبار الحقائق وإثارة الشكوك، شخصية يكون محض وجودها مستفزًا ومثيرًا للتوتر، حيث يبدأ الفيلم بظهور ممثلة تسعى إلى تصوير عمل سينمائي يروي حكاية هذه العائلة الغريبة، وقد جعل المخرج حضورها المتطفل معريًا لكل شيء، خالقًا توترًا يزعزع استقرار تلك الشخصيات لتعيد النظر فيما كانت تركض هربًا من مواجهته. تلعب ناتالي بورتمان دور إليزابيث الممثلة باحترافية كبيرة لما تنطوي عليه شخصيتها من تعقيدات كثيرة، إذ لا يمكن الجزم بحقيقة مسعاها ولا بطبيعة الأقنعة التي ترتديها.

يعمد هاينز إلى خلق هذه الأجواء من عدم الارتياح والتوتر ومن الشكوك التي تدور في أذهان كل شخصية تجاه الأخرى حول النوايا: ما الذي تسعى إليه إليزابيث، الممثلة التي تُجري تحقيقًا حول الواقعة، من خلال هذا التمادي في تجاوز الحدود، وهذا الهوس الذي يسم سلوكها؟ وما الذي يخفيه جو وغريسي خلف تماسكهما المصطنع؟ يضفي المخرج على المَشاهد أجواءَ الجريمة من خلال استخدامه للموسيقى التي تعمّق من حالة عدم الارتياح، لربما كي يبرئ نفسه من أي تواطؤ، لأن الأمر برمته والفكرة كلها هي استفزاز واضح للمُشاهد.

يخبرنا غابور ماتي أن الصدمة النفسية تقود إلى حالة من الانفصال عن الذات بوصفها ميكانزمًا دفاعيًا، ويصبح ارتداء الأقنعة أمرًا لا بد منه، ليس لإخفاء الانفصال ذاته وإنما لإخفاء الألم الكبير أيضًا الذي سبّبته الصدمة.. في حالة جو فإن الصدمة الأولى لم تكن في الأساس تحرش غريسي به واستغلالها له، وإن كانت هي الأذى الأكبر الذي وقع عليه. كانت صدمته متعلقة بالغياب القاسي لوالديه ولامبالاتهما، والانعدام الواضح لحضورهما في حياته، فحتى بعد أن وقع ما وقع لم يتحدث أيٌ منهما معه عن الواقعة. هو الطفل الذي كان في أمسّ الحاجة إلى احتوائهما وتدخلهما، ولأنّ الأطفال لا يميلون إلى اتهام آبائهم فإنهم يُسقِطون أسباب الأذى الواقع على أنفسهم، فيظنون أن الخطأ في أذهانهم ليس من صنيع الأب، بل لا بد أنه بسببهم هم، لأنهم سيّئون وغير كافين ولا يجيدون التصرف..

لذلك نلاحظ أن جو، لمّا سألته إليزابيث عن بداية علاقته بغريسي، أجابها بأنها هي الوحيدة التي رأته، وكأن لسان حاله كان يقول هي الوحيدة التي منحتني وجودًا، وبالتالي صرت مرئيًا، ولقد عنى ذلك كثيرًا له، كأنها صارت مسألة وجوده من عدمه، فلم يكن يهمه أي شيء آخر إلا هذه التي منحته ما كان يفتقر إليه، هذا التأكيد القوي للذات، إذ ملأت الفجوة الهائلة التي تركها غياب الأبوين وعدم مبالاتهما، فصار خاضعًا وأسيرًا لها، ولعل ذلك قد تقاطع مع وجود اعتلال نفسي لديه. لذلك تظهر هذه الإشكالية البارزة في السرد السينمائي حول سؤال: من هم الشركاء الحقيقيين في الأذى الذي وقع؟ لا يمكن الجزم بشيء حتى مع الوضوح القطعي للجاني والمجني عليه، إلى جانب الإشكالية الأخرى عن حقيقة الضحايا الواردين: هل كان جو، الطفل، وحده؟ هل هم أبناء غريسي وزوجها الأول؟ هل هي نفسها كانت الجاني والضحية معًا؟

لقد وجدت غريسي في جو الأنموذج الأنسب ليترسب فيه اضطرابها ويحكم قبضته. لقد سعى المخرج إلى تنويع المَشاهد التي تَبرز فيها غريسي تارة مع أبنائها وتارة مع إليزابيث وأخرى مع جو، لأن غريسي نفسها لا تتصرف بالطريقة ذاتها في كل مرة، وإن كانت كل المَشاهد تشترك في حقيقة واحدة: أن غريسي تتصرف وفق أنماط أو سلوكيات نرجسية ملفتة، وإن كانت تختفي خلف ما تتبناه وتدّعيه من سذاجة. إنها امرأة تتمحور حول ذاتها، مما يجعل علاقتها مع الآخر إشكالاً أزليًا بالنسبة إليها. يجعل المخرج الإشارات إلى ماضي غريسي -التي جاءت على لسان ابنها جورجي- غير يقينية، لكنها توحي ضمنيًا بأنها هي الأخرى قد تملك ماضيًا مليئًا بالصدمات.

وبالرغم من أن جو كان يحاول إيجاد منافذ من هذا الحصار من خلال صداقات إلكترونية، فإنه يبدو للمُشاهد أنه، لكي يُبقي على غريسي، قد عمل على إلغاء ذاته وكينونته المرسومة في هيئة الذكورة المتوازنة؛ كان يتصرف كأنه أحد أطفال غريسي الذين تستأثرهم عن الجميع. هذه العلاقة المشوهة بالكامل لم تكن لتوجد إلا من خلال اجتماع هذه الذوات المعطوبة، التي فقدت إحساسها بالأمان، فكانت المخاوف الدفينة هي محركها الأبرز.

يأخذنا المخرج في هذه الرحلة الغامضة، متيحًا لنا أن نحلل الأمر من زوايا عدة، تتجلى فيها هذه الشخصيات النرجسية وهذا التلاعب الذي تمارسه، فكما أن إليزابيث لم تكن هي الأخرى مستثناة من ذلك حين حاولت أن تستميل جو، وتستغل كل أحد من أجل فيلمها، فإن غريسي التي ظهرت عليها تلك السمات من خلال معاملتها لأبنائها وفرضها لسيطرتها، دون أن تهمها مشاعرهم، فإنها -وقبل كل شيء- قد تلاعبت بجو منذ البداية دون أن تضع أي اعتبار له أو لعائلتها أو لطفلها جورجي، هي التي تعلمت الصيد منذ سن صغيرة جدًا، فكان جو فريستها الأمثل. هل كانت غريسي نرجسية أم كانت معتلة نفسيًا، أم أنها كانت سوسيوباثية متخفية خلف قناع السذاجة الأليف؟ لقد كان تأثيرها على جو فظيعًا، إذ إن استمرار تلاعبها به خلال حياته كلها ترك بداخله فوضى كبيرة، كأن مرحلةً ما من حياته قد حُذفت بالكامل. لقد حاولت إظهار الأمر لإليزابيث وللمحامي فيما سبق وكأنها علاقة عاطفية حقيقية، من خلال عرض ما حاولت أن تظهره، مثل رسالة عاطفية من جو، والتي كانت في الأساس واجبًا منزليًا عن السلام مُعدَّة من قِبل جو الطفل. لا بد أن كل مَن يشاهد ذلك يتوارد إلى ذهنه هذا السؤال الحاسم حول صحتها العقلية!  

إن أكثر المَشاهد المؤثرة هي تلك التي جلس فيها جو قرب ابنه على السقف وبدا كما لو كان طفلاً أو مراهقًا، غير قادر على إدارة عواطفه، وكأن دور الأب قد فُرض عليه دون أن يفكر أو يرغب في ذلك، وقد جعل المخرج من عجزه عن التدخين رمزيةً لعدم اكتمال رجولته، ومن فقده لاتّزانه الحركي دلالةً على اضطرابه. لم يكن في حياته أحد غير غريسي يرجع إليه، فكان المعتدي المسيطر هو المرجعية الوحيدة في حياته. لقد أظهر المشهد، الذي أبدع فيه ميلتون، الصورةَ الحقيقية لما حدث: الأذى الذي انعكس في صورة ضياع داخلي لدى جو، إذ بدا عاجزًا عن أن يكون أبًا طبيعيًا لأبنائه لأنه ذاته لم يُسمح له بأن ينمو ويتجاوز مراحل حياته على نحو سويّ، ولأنهم -الأبناء- حين وُلدوا، كان هو بحد ذاته طفلاً ثم مراهقًا. ولعل هذا ما شوّش على هذه العلاقة بينه وبينهم، وانعكس التشويش لدى جو في إحساسه الكبير بالذنب، لأنه لا يرغب في أن يتركهم دون أن يمنحهم ما افتقر إليه في طفولته من رعاية أبوية، ولكنه كان فارغًا من مشاعر أبوة حقيقية رغم كل ما يملكه من محبة لهم، ولأنه -بسبب الضجة التي أثارتها القضية، واستياء المجتمع- أحسّ أن مشاعر العار ستظل تلاحقهم بسبب فعلته هو. ولعل إحساسه العميق بالذنب ليس إلا إحدى نتائج علاقته مع غريسي، التي حرصت على تعميقه داخله من خلال لعبها لدور الضحية المتكرر، سواء في المشهد الذي استاءت فيه من رائحة الشواء التي كانت في ملابس جو، أو في مشهد تأثرها من إلغاء الطلبية وإعرابها عن استيائها من إليزابيث، أو أثناء اتهامها له بأنه هو من أغواها.

تكشف مشاهد المرآة احترافية كبيرة أبدتها كل من ناتالي ومور، إذ بدا استغراقهما فيما تعكسه المرآة محاولةً للتماهي مع الآخر، فإن إليزابيث كانت تتأمل انعكاس غريسي وفي الوقت نفسه انعكاس ذاتها وتحاول محاكاة غريسي، وكذلك فعلت الأخرى، وكل واحدة منهما كانت تخفي جانبها المظلم الذي تعجز المرآة عن إظهاره. وقد تألقت ناتالي في المشهد الذي كانت تقلّد فيه غريسي وحدها أمام المرآة و هي تقرأ رسالتها إلى جو وتحاكي لثغتها وملامحها، بما يوحي بتماهيها الكبير مع الدور. إن الزيارات المتكررة لإليزابيث أظهرت هوسًا كبيرًا لديها بهذه الشخصية التي تود أن تمثلها، فهل كانت ساعية إلى الكمال، أم أنها كانت مهووسة بالجوانب المظلمة للحكاية وبالشخصيات ذاتها؟

تجيب عن سؤال طرحه التلاميذ حول اختيار الأدوار بأنها تختار شخصية صعبة الفهم سطحيًا، ثم تستقصي عن سبب كونها كذلك. ولما سألتها ابنة غريسي لماذا تلعب دور شخصية تظن أنها سيئة، كان ردها بأن التعقيد والنواحي الرمادية أخلاقيًا هي المشوقة! لكنها، رغم إصرارها المبالغ فيه لمعرفة كل التفاصيل وسعيها لاستجواب الزوج السابق والمحامي وصاحب الدكان، لم تدرك حقيقة غريسي الحساسة وضعفها الداخلي، وكيف تنهار لأسباب تافهة، ذلك أن الأقنعة التي ترتديها الشخصيات متماسكة للغاية، وتثير دائمًا حالة من عدم اليقين.‏

في الجزء الأخير من الفيلم، يخبر جو غريسي بأن هناك كثيرًا من الأمور العالقة التي لم يتحدثا عنها منذ زمن بعيد! لعل ذلك بسبب حرصها على إبقائه محاصَرًا في هذا الوهم الذي خلقته حول العلاقة، من خلال الإبقاء على حالة الغموض وعدم الوضوح قائمةً لأطول فترة.

يظهر جو وهو يربي اليرقات ليطلق سراحها، كأنها تعبير عن رغبته الدفينة في أن ينمو وينال حريته أخيرًا من هذه السيطرة التي أحكمت قبضتها عليه. يتحسس من فكرة أن ينظر إلى حياته كقصة، لأنه دفع ثمنًا كبيرًا ولم يكن سهلاً بالنسبة إليه كل هذا الذي مر به ونظرة المجتمع التي كانت تلاحقه. يتزامن إطلاقه سراح الفراشات مع حفل تخرج أبنائه، وكأنه أخيرًا سيجد حريته بعد أن تلاشى قيد الأبناء الذي أرقه طويلاً، ويتعافى من العلاقة المرضية التي أحكمت وثاقها به.

في الختام، «الأشخاص الذين لا يشعرون بالأمان خطرون جدًا». ‏لقد نجح تود هاينز في رسم شخصيات مربكة ومضللة ولا تُظهر نفسها في تفاعلها مع الآخر إلا من خلال أقنعة محكمة، و قدّم في «مايو ديسمبر» صورة من الدراما غير المريحة، المتقنة في الوقت ذاته، التي قد لا تمنحك قدرًا كبيرًا من المتعة، ولكنها في المقابل تعدك برحلة مشوقة لسبر أغوار النفس في حالاتها الزئبقية المضطربة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى