«مايكل هانيكه»: أستاذُ اللاعقلانية

May 20, 2025

لا يمكننا أن نتحدَّث عن السينما الأوروبية المعاصرة دون ذكرِ اسم مايكل هانيكه، المُخرجُ الذي خلق لنفسه لغةً فنيَّة خاصَّة. منذ بداياته في عالم السينما، استطاع أن يثير الكثير من الجدلِ والإعجاب في آنٍ واحد، ليصبح أحدَ الأسماء الأبرز في الساحة السينمائيَّة. المُخرج الذي لا يراعي قواعد معيَّنة أو يسعى لنيل الرضى الجماهيري، فهو يتبنَّى فلسفةً سينمائيَّةً تحاكي ما هو مظلمٌ في الطبيعة البشريَّة. إذا كان هناك مخرجٌ يبرعُ في كشف العيوب الإنسانيَّة والمجتمعيَّة، فهو مايكل هانيكه.

يسعى هانيكه دومًا إلى تفكيك الواقع واستكشافه من خلال عدسته النقديَّة. حيث يتمُّ إلقاء الضوء، في أفلامه، على الطبقات الاجتماعيَّة المختلفة والآثار النفسيَّة التي تترتَّب على النظمِ الاجتماعيَّة والسياسيَّة. وفي هذا الخط، يرى هانيكه أنَّ السينما وسيلةٌ أو أداةٌ للغوص في عمقِ الوجود البشريِّ والمجتمعي. على سبيل المثال، في فيلمه «الشريط الأبيض» (The White Ribbon - 2009)، يعرضُ كيف يمكن للبراءة الاختفاء خلف قناعٍ من القسوة والوحشيَّة. في هذا الفيلم، يتعامل هانيكه مع مسألةٍ تربويَّةٍ متعلِّقةٍ بالطبيعة البشريَّة وتربية الأطفال في بيئةٍ مغلقة، حيث يكون العنفُ جزءًا من التشكيل النفسيِّ للأجيال القادمة.

في أفلامه، يُقدِّم العنف كجزءٍ من البحث الوجودي والإنساني. العنف هنا هو انعكاسٌ لضعف الإنسان وتوتُّراته الداخلية. في فيلم «Amour»، يرسمُ هانيكه جانبًا مختلفًا من العنف، هو عنفُ الموت والشيخوخة. وبينما يظهرُ الحبُّ هنا بشكلٍ مأساوي، فإن هانيكه لا يخشى وضعنا في مواجهةٍ مباشرةٍ مع واقع الألم والخسارة.

استطاع هانيكه أن يجمع بين الرمزيَّة العميقة والواقع الاجتماعي الذي تعيشه شخصيَّاته. على الرغم من أنَّ أفلامه غارقةٌ في تعقيداتها، فإنَّها تتَّسمُ دائمًا بقدرتها على تحويلِ الواقع إلى رموزٍ سينمائيَّةٍ تحملُ أكثر من مجرَّد قصة. فهو يترجِم في أفلامه الظواهر الاجتماعيَّة والسياسيَّة إلى لوحاتٍ فنيَّة، ممَّا يجعل كلَّ مشهدٍ يعكسُ تساؤلًا فلسفيًا. في فيلم «مخفي» (Caché - 2005)، يعرضُ هانيكه فكرة المراقبة والعلاقات المعقَّدة بين الماضي والحاضر في المجتمع الفرنسي، حيث يستخدمُ التوتُّر بين الشخصيَّات والمشاهد الطويلة لتعكس صراعًا داخليًّا يشملُ قضايا الذاكرة والذنب.

اعتُبِر مايكل هانيكه مهندسًا للأفكار ومفكِّكًا للأيديولوجيَّات التي يخبِّئها المجتمع في طياته. في كلِّ لقطة، وفي كلِّ مشهد، يعيدُ تشكيل فهمنا للعالم من حولنا. إنَّهُ بارعٌ في استخدام الصمت ليكون أعمق من الكلمات، وفي تحويل التوتُّر إلى إجاباتٍ على أسئلةٍ معقَّدةٍ وغامضة. لا مكان للراحة في أفلامه، لأنَّه يدركُ أنَّ الحقيقة لا تُكشَف إلا عبر الألم، وأنَّ مواجهة الذات هي أصعبُ أشكال النضج. يعيد لنا هانيكه الوعي بأنَّ الفهم العميق للإنسان لا يتحقَّق إلا من خلال تجربة التحدِّي، كما يقول دائمًا: «لا بدَّ للفنِّ أن يُزعجك ». ولا يسعى لإرضاء الجمهور بالقصص التقليديَّة، بل يصنع أفلامًا تثير الاضطراب الداخلي وتدفعنا للغوص في أعماقنا المظلمة.

وأخيرًا، يبقى مايكل هانيكه أحد المخرجين الذين يرفضون التسوية مع المألوف ويسعون دائمًا إلى دفعِ الحدود الفنيَّة والفكريَّة للسينما. أفلامه رحلةٌ فكريَّةٌ تهزُّ الوعي الاجتماعي وتطرحُ تساؤلاتٍ وجوديَّةً حول طبيعة الإنسان، المجتمع، والتاريخ. في عالمٍ تهيمن فيه الأفلام التجارية التي تقدِّمُ إجابات جاهزة، تظلُّ أفلام هانيكه بمثابة تذكيرٍ دائمٍ بأنَّ السينما، في جوهرها، هي فنُّ التعبير عن الأسئلة الكبرى، لا الإجابات السهلة.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى