في مجتمعات تنسجُ الحكايةَ من خلال تنوُّع أصناف ونكهات أطعمتها، وتروي تاريخها بناءً على رائحة التوابل وحرارة الموائد، لا يكون الطعام مجرَّد ضرورةٍ بيولوجيَّة، بل يتحوَّل إلى مرآةٍ تعكس الهويَّة، والذاكرة والانتماء. في العالم العربي، حيث يُختزن الموروث في قِدر الطعام، وتُقال العاطفة من خلال طبخةٍ ويتحوَّل الفرح إلى وليمة، والحزن إلى صينيَّة عزاء، يصبح الطعام تعبيرًا ثقافيًا مركبًا يشحنُ الوجبة بالدلالات الطبقيَّة، والجندريَّة، والدينيَّة بل وحتى السياسيَّة. إنَّه حضورٌ يوميٌّ ساحق، لكنَّه أيضًا حضورٌ شعائري، ينتمي إلى الحياة كما ينتمي إلى المخيال.
من هذا المنطلق، يبدو من الطبيعي أن تجد السينما، بوصفها فنًّا بصريًّا مركَّبًا، في الطعام مادَّةً سرديَّة، بصريَّةً وحسيَّةً في آنٍ معًا. فالمشهد الذي يظهرُ فيه طبقٌ لا ينقل فقط صورة وجبة، بل قد يحملُ في طياته تاريخًا عائليًّا، وصراعًا اجتماعيًّا، وحنينًا مضمرًا أو لذَّةً ممنوعة. هذا ما تشير إليه الباحثة ألكسندرا درزال سيروكا (Aleksandra Drzał-Sierocka) في مقالتها المهمَّة «مذاقات السيلولويد: تاريخ موجز للطعام في الأفلام» (Celluloid Flavours: A Brief History of Food in Film)، حينما تؤكِّدُ أنَّ للأكل في السينما حضورًا يتجاوزُ الوظيفة التزيينيَّة أو التقريريَّة. إنَّه حضورٌ مشحونٌ بالدلالات الرمزيَّة والثقافيَّة، إذ يشكِّلُ الطعام في المشهدِ السينمائي عنصرًا من عناصر التكوين السردي، يُعرِّف الشخصيَّات، يؤطِّرُ العلاقات ويصنعُ الإيقاع والمزاج. ترى الباحثة أنَّ الطعام يحملُ طاقةً مجازيَّةً مكثَّفة، ويغدو وسيلةً لإيصال المعاني المرتبطة بالسياق الاجتماعي والسياسي والثقافي للفيلم، بل ويُستخدم أحيانًا كأداةٍ لخلق عوالم داخل النص البصري، ولإبراز التوتُّر أو التواطؤ بين الشخصيَّات.
إن كانت ألكسندرا تتحدَّث من زاوية السينما العالميَّة، فإن السينما العربية بدورها لم تتأخَّر عن تحويل "اللقمة" إلى أداة تعبيرٍ غنيَّةٍ تعبِّر من خلالها عن المخاوف، والأحلام، والقيود والانفتاحات. فالطعام، كما يظهر في السينما العربيَّة، ليس مجرَّد ديكورٍ مشهدي، بل هو حاملٌ لرموزٍ ثقافيَّةٍ تتغلغل في بنية المجتمع العربي ذاته: إنَّه تمثيلٌ للهويَّة الطبقيَّة أحيانًا، ولمفهوم الضيافة والكرم أحيانًا أخرى، ووسيلةً لكشف البنية الذكوريَّة أو العلاقة مع الجسد والمرأة.
في هذا المقال، نحاولُ الغوص في أعماق هذا الحضور الذي يجسِّده الغذاء داخل السينما العربيَّة، لا لنعدَّ الأطباق التي ظهرت على الشاشة، بل لنفكِّك الرموز التي تختزنُها تلك اللحظات، لنقرأ ما تقوله الأطعمة حين تُوضع أمام الكاميرا وما تخفيه حين تُلتهم. إنَّها محاولةٌ لاستحداث قراءةٍ جديدة، حسيَّةٍ وذهنيَّة، للطعام في السينما، بوصفه أداةً فنيَّةً تُبنى بها المشاهد، تُصاغُ بها الشخصيَّات، ويُروى بها ما لا يُقال بالكلمات.
مائدة المعنى: حين تتحوّل اللقمة إلى مشهد درامي في السينما المصرية
منذ بدايات السينما المصريَّة، لم يكن الطعام على الشاشة مجرَّد حاجةٍ بشريَّةٍ تُلبَّى، بل تحوَّل إلى رمزٍ سردي، له ما له من الحمولة الدلاليَّة، والوقع العاطفي والوظيفة الدراميَّة. في فيلم «مليون جنيه» (1953)، نرى فلافل (نعيمة عاكف) والبرنس (محمود شكوكو) يلتهمان الطعام في مطعمٍ شعبيٍّ بعد حصولهما على مبلغٍ زهيد، في مشهدٍ تتجلَّى فيه شهوة البقاء ممزوجةً بخفَّة الدم، حيث تتلو الوجبةُ السريعة أغنيةً خفيفةَ الظل، كأنَّ الجوع هنا ليس فقط جسديًا، بل وجوديًا، تُقابله الحياة بترياق الغناء. وفي «إسماعيل ياسين في الجيش» (1955)، تأتي لقطة استراحة الجنود، حيثُ يلتهم زكي (إسماعيل ياسين) الطعام بنهمٍ كبيرٍ حتى يأمره الشاويش عطيَّة (رياض القصبجي) بالتوقُّف، لتتحوَّل اللقطة إلى مفارقةٍ كوميديَّةٍ تلعبُ على حافَّة الجوع والانضباط. يتكرَّر المشهد ذاته في فيلم «شياطين إلى الأبد» (1974)، كما لو أنَّ "التهام الأكل" صار كودًا سينمائيًّا للغريزة، ولرغبةٍ دفينةٍ في التحرُّر من القيد.
لكنَّ الطعام في السينما المصرية لم يُوظَّف دائمًا لأجل الضحك أو التسلية، بل انفتح على مساحاتٍ أكثر عمقًا وتعقيدًا ليصبح أداة تعبيرٍ رفيعةً عن مشاعر الحب والانكسار والحرمان. في «الوسادة الخالية» (1957)، يلتهم صلاح (عبد الحليم حافظ) ساندويشات سميحة (لبنى عبد العزيز)، لا بدافع الجوع فقط، بل كتعبيرٍ ضمنيٍّ عن التعلُّق والامتنان، كاشفًا عن شكلٍ من أشكال التقارب الحميميِّ الذي يُترجَم من خلال فعل الأكل نفسه. يتكرَّر الأمر في مشهدٍ مشابهٍ جمع حسن (عبد المنعم إبراهيم) وفايز (أحمد رمزي)، لكن هذه المرَّة بحمولةٍ عاطفيَّةٍ ومزاجيَّةٍ مختلفةٍ تتقاطع فيها الرغبة في الأكل مع الرغبة في القرب والانتماء.
ليست المائدة في السينما مكانًا لتناول الطعام فحسب، بل حلبة حوارٍ وصراع، فضاءٌ تواصليٌّ بامتياز. هنا يمكنُ إسقاط نظريَّة يورغن هابرماس حول "الفضاء العمومي" و"التداول الحواري"، حيث تُستخدم المائدة كإطارٍ لإنتاجِ المعنى وتبادل الرأي داخل بنيةٍ مشهديَّةٍ محدَّدة. في الأفلام التي تعرضُ موائد العزومات، مثل «الحفيد» (1976)، نجد أنَّ الاجتماع حول الطعام يفتح مجالًا لتفكيك السلطة الأبويَّة، أو لتمرير اعتراضاتٍ خفيَّةٍ من أفراد الأسرة على منظومة القيم السائدة. الصمت أحيانًا، أو الهمس، أو حتى نظرة عينٍ من فوق الملعقة، كلُّ ذلك يصبحُ نوعًا من الحوار الذي لا يحتاج إلى كلمات، بل يتمُّ عبر "أفعال الطعام" نفسها.
حتى في الكوميديا، لم يسلم الطعام من التشفير الدرامي. فالبدانة مثلًا استُخدمت في أعمالٍ كثيرةٍ كمصدرٍ للضحك أو السخرية، لا سيَّما في أدوار السيد بدير وحسن أتلة وجورج سيدهم، حيث كانت شخصيَّة "الأكِّيل" توظَّف لتكريسِ نمطِ الرجل الساذج، الذي لا يهمه من الحياة سوى ملء معدته. لكن هذا التوظيف، رغم طرافته، يفضح آليات التنميط والتنمُّر الضمني، ويضعنا أمام سؤالٍ أخلاقي: هل يمكن للطعام أن يكون أداةً للعنف الرمزي؟ أليس من الممكن توظيف شخصيَّة "الأكِّيل" بطريقةٍ أكثر إنسانيَّةٍ كما فعلت بعض التجارب العالميَّة؟
في قلب هذه المشاهد جميعها، تظلُّ الملوخيَّة رمزًا سينمائيًّا شعبيًّا مصريًّا بامتياز. في «شارع الحب» (1958)، تلقي سنيَّة ترتر (زينات صدقي) قدر الملوخية من الشرفة على حسب الله (عبد السلام النابلسي)، ليتحوَّل المشهد من غضبٍ محتملٍ إلى فكاهةٍ مفاجئة، ومن فعلٍ عشوائيٍّ إلى لحظة تضامنٍ غير متوقَّعة، حيث يتسابق أعضاء الفرقة الموسيقيَّة لالتقاط ما علِق من الطعام على ثيابه، ويغمسوا فيه الخبز. هنا تُستخدم أيقونة الطعام لإعادةِ رسم العلاقات، ولإعادة توزيع السلطة على نحوٍ ارتجالي.
ما بين الوليمة والمائدة، والملوخيَّة والسندويش، تكتبُ السينما المصريَّة سرديَّتها الخاصَّة عن الطعام، كأنَّها تحفرُ في طبقات الجوع، والحب والخسارة، عبر لقطة، أو قضمةٍ أو قِدر على النار. الطعام في السينما المصريَّة ليس ملحقًا دراميًّا، بل نصٌّ موازٍ يعبِّر بالصمت وفعل الأكل، بالملعقةِ واللُقمة، عمَّا تعجز الكلمات عن قوله أحيانًا.
ضحكةٌ على طرفِ الملعقة
في السينما، يتحوَّل الطعامُ إلى لغةٍ موازيةٍ لا تُقرأ فقط من خلال الشهيَّة، بل تُحَسُّ وتُدرَكُ وتُفسَّر ضمن سياقاتٍ اجتماعيَّة ونفسيَّة دقيقة. في بعض الأحيان، لا يأتي الطعام على الشاشة ليُعبِّر عن إشباعٍ للجوع، بل ليُثير الضحك، وليخلق مفارقةً بين الفعل الغريزي والإطار الكوميدي، وهو ما يبرزُ بجلاءٍ في مجموعةٍ من الأفلام المصريَّة التي وظَّفت "اللقمة" كمادَّةٍ ساخرةٍ تُستَعرض من خلالها عُقَد الشخصيَّات، واحتياجاتها العاطفيَّة، بل وحتى هشاشتها.
في فيلم «التجربة الدنماركية» (2003)، يستخدم المخرج علي إدريس عنصر الأكل بشكلٍ مبالغٍ فيه ليخلُق مادَّةً تهكُّمية، حيث يتحوَّل الإفراط في تناول الطعام إلى عرضٍ مسرحيٍّ بحدِّ ذاته: وجباتٌ لا تُقاوَم، طاولةٌ عامرةٌ تشبه حفلةً حسيَّة لا تعكس فقط إحساسًا بالجوع، بل توظِّفُ الشراهة كأداةٍ دراميَّةٍ لفضح هوس الشخصيَّات، وتلعب على التناقض بين صورة البطلة الأجنبيَّة المنضبطة وبين الذائقة المحليَّة المتفلِّتة من أيِّ نظام.
وفي «إكس لارج» (2011) لشريف عرفة، تتجسَّد العلاقة مع الأكل بوصفها "زي اتنين متجوزين" كما يقول البطل مجدي مكاوي (أحمد حلمي)، أي علاقة حبٍّ مؤلمة ومشتهاة، لكنَّها خادعةٌ ومربكة. هنا لا يتحوَّل الطعام إلى أداةٍ لإثارة الضحك فحسب، بل إلى استعارةٍ دائمةٍ للحرمان العاطفي والبحث عن الاحتواء. لا تنفصلُ مشاهدُ الأكل في الفيلم عن الحالة النفسيَّة للشخصيَّة، بل تصبحُ امتدادًا لها، نوعًا من التماهي بين الجسد والرغبة، بين الجوع للعاطفة والجوع للغذاء.
أما في «حب البنات» (2004) لخالد الحجر، فإنَّ الطهي يتحوَّل إلى طقسٍ أنثويٍّ دقيقٍ تصنع فيه ندى (ليلى علوي) أطباقها كأنَّها تكتبُ رسائل حبٍّ غير منطوقة. حضورها في المطبخ ليس وظيفةً نمطيَّة، بل مسرحٌ تعبيري تُسخَّرُ فيه الحواس لإغواء الحياة. الطبق هنا ليس فقط ما يُقدَّم على الطاولة، بل هو الوسيلة التي تعبِّر بها ندى عن ذاتها، عن نُبلها وتوقِها للعلاقة.
هذه العلاقة بين الشاشة والطعام، كما تشير هالي وايس في مقالها بـمجلَّة تايم، لا تقتصرُ على السينما العربيَّة فحسب، بل تشكِّل ظاهرةً بصريَّةً–نفسيَّةً تعيدُ تشكيل ذائقة المشاهد وفقًا لما يظهر على الشاشة. فبحسب تحليلها، تحرِّرُ ظلال قاعات العرض الخافتة الحواس، وتسمحُ بتسلُّل الشهوات الصغيرة، حتى تلك التي كنَّا نظنُّ أنَّنا نسيطر عليها. حين نشاهد شخصيَّةً تلتهم طعامها بنهمٍ على الشاشة فإنَّنا، ودون وعي منَّا، نستجيبُ لتلك الغريزة، نتماهى معها، وربَّما نمدُّ يدنا إلى وعاءِ الفشار أو قطعة الشوكولاتة. التواطؤ بين العين والمعدة، وبين المتخيَّل والحسي، يُصبح فعلًا لا إراديًا، بل سينمائيًّا بامتياز.
في هذا السياق، ترتبطُ الكوميديا بالطعام ارتباطًا عضويًا، فالأكل في الأفلام ليس أداةَ إضحاكٍ فقط، بل هو ممارسةٌ اجتماعيَّةٌ تُحفِّز الرغبات وتكشف عن البنى الثقافيَّة التي تحكم المتعة والحرمان. كما تُظهر أفلام عادل إمام وليلى علوي وأحمد حلمي، فإن "اللقمة" ليست دائمًا مجرد لقمة... بل هي استعارة لعلاقة الذات بجسدها، بالعالم، وبالآخرين.
محمد خان وتفكيك شيفرة المائدة في الدراما البصريَّة
لا يمكن الحديث عن حضور الطعام في السينما العربيَّة دون الوقوف مطوَّلًا أمام تجربة محمد خان، أحد أبرز المخرجين المصريِّين الذين نجحوا في تحويلِ المأكلِ من مجرَّد خلفيَّةٍ سرديَّةٍ إلى محورٍ بنيويٍّ وجماليٍّ في نسيجِ الحكاية السينمائيَّة. في فيلمه «خرج ولم يعد» (1984)، يتجلَّى الطعام كعنصرٍ سرديٍّ فعَّال لا يخدم فقط بناء الشخصيَّات أو تحديد البيئة، بل يتحوَّل إلى لغةٍ قائمةٍ بذاتها، تنطقُ بالشهوة، تعكسُ الهويَّة، وتفصحُ عن أعماق الذات. في هذا الفيلم، لا يُقدَّم الطعام بوصفه "استهلاكًا" حسيًّا، بل كطقسٍ يوميٍّ يشبهُ الصلاة، يتحلَّق حوله الأبطال، وتُحكى من خلاله الحكاية. عبارة "مش مهم ناكل غالي ولا رخيص، المهم نتلذذ بالأكل" ليست مجرَّد جملةٍ عابرة، بل إعلانٌ صريحٌ عن فلسفة خان في تقديم الطعام كتعبيرٍ عن الحياة ذاتها، عن البساطة المفقودة، عن ملذَّاتٍ ريفيَّةٍ في مواجهة عبثيَّة المدينة.
ومن زاويةٍ موازية، تنظرُ الباحثة الأوستراليَّة غاي بوول (Gaye Poole) في أطروحتها «اهتمامٌ استهلاكي: قواعد الغذاء في الدراما الأوستراليَّة» (A Consuming Interest: Food Codes in Australian Drama) إلى الطعام ككودٍ دراميٍّ يتجاوزُ الحضور الفيزيائيَّ ليصبح وسيلة تعبيرٍ عن علاقات القوى والجندر، والتحوُّلات النفسيَّة والسياسيَّة داخل النص الدرامي. تشير بوول إلى أنَّ الطعام داخل العمل المسرحي يمكن أن يتحوَّل إلى أداةٍ للهيمنة أو للعقاب، ويكتسب بعدًا مأساويًا أو رمزيًّا حين يُستخدم كوسيلةِ قتلٍ أو انتقام، كما يحدثُ في بعض المسرحيَّات التي يُسمِّم فيها أحدهم وجبة الآخر. هذه الرؤية تتقاطع بشكلٍ لافتٍ مع نهاية فيلم «موعدٌ على العشاء» (1981)، حين تقدم نوال (سعاد حسني) العشاء المسموم لزوجها في واحدٍ من أكثر المشاهد كثافةً وتأثيرًا في السينما المصريَّة، مشهدٌ يحمل بُعدًا وجوديًّا قاتمًا، يتداخل فيه الطعام مع الموت، والجسد مع الفقد، والرغبة مع الانتقام.
في كلا الفيلمَين، يتماهى الطعام مع الزمن، ويتحوَّل إلى محورٍ للذاكرة، تمامًا كما لاحظت بوول في قراءتها للعلاقة بين الطعام والنوستالجيا. فالمائدة في «خرج ولم يعد» ليست فقط رمزًا للكرم، بل تمثِّل الحنين إلى نمط حياةٍ بديل، أكثر إنسانيَّةً وصدقًا. كما أنَّ مشاهد الطعام في منزل الفلاح الريفي تشكِّل نقطةَ التحوُّل في إدراك البطل، واكتشافه لنسقٍ جديدٍ من المتعة والسكينة. بهذا يبدو خان كمن يقتفي أثر نظريَّات الدراما الحديثة دون أن يصرِّح، حيث يضع الطعام في صلب التحوُّل السردي، ويمنحه قوَّةً شبه طقسيَّةٍ داخل العالم الفيلمي.
ما أشارت إليه بوول حول العلاقة المعقَّدة بين المرأة والطعام في المسرح الأوسترالي يجدُ صداه بوضوحٍ في معالجة خان لشخصيَّاته النسائيَّة، لا سيما في «موعد على العشاء». فهنا، تصبح المرأة صانعة الطعام، وسيدته والمسيطرة عليه، ولكنه يتحوَّلُ في الوقت ذاته إلى وسيلةٍ للتعبير عن القهر والتحدَّي والاستقلاليَّة. وفي هذا يُظهر خان وعيًا ناضجًا بموقع الطعام كرمزٍ نسويٍّ-سياسي، يتجاوز فكرة الإعداد والتقديم ليصبح أداةً فعليَّةً لإعادة تشكيل الواقع أو التمرُّد عليه.
تتقاطعُ تجربة محمد خان مع ما توصَّلت إليه بوول غاي من استنتاجات، رغم اختلاف السياقات الجغرافيَّة والثقافيَّة. في الحالتين يتحوَّل الطعام إلى نصٍّ موازٍ للنص الدرامي، يُقرأ بعناية، يفكِّكُ العلاقات بين الشخصيَّات، ويضيءُ ما تعجز الكلمات عن قوله. إنَّه شيفرةٌ لا تنتمي للمعدة فقط، بل للذاكرة والهوية، للسلطة والحب، للفقد والخلاص.
في النهاية يتَّضحُ أنَّ الطعام ليس مجرَّد تفصيلٍ يوميٍّ في حياة الشخصيَّات السينمائيَّة، بل هو كيانٌ دراميٌّ مستقل، أداةٌ سرديَّةٌ كثيفة المعنى، تختصرُ الكثير من الصراعات الداخليَّة والخارجيَّة. من مطبخ ندى الساحر في «حبِّ البنات»، إلى عبثيَّة الأكل في «التجربة الدنماركيَّة»، وصولًا إلى الطابع الشاعري العذب في أفلام محمد خان، يتبدَّى لنا أنَّ المائدة في السينما ليست مكانًا للأكل فحسب، بل مسرحًا للبوح والحنين، للتمرُّد وربَّما للقتل حتى.
في ضوء ما قدَّمته الباحثة غاي بوول من رؤى دقيقة حول رمزيَّة الطعام في الدراما الأوستراليَّة، تزدادُ ثقتنا بأنَّ ما صنعه خان وآخرون في السينما العربيَّة لا يقلُّ عمقًا أو وعيًا. فالمخرج الذي جعل من المشهدِ الريفيِّ متعةً بصريَّةً كاملة، ومن طبق العشاء فعلًا دراميًّا مشحونًا، إنَّما يعيد تعريف علاقتنا بالشاشة، ويذكرنا أنَّ السينما تجسِّدُ عبر حكاياها تجربةَ الأكل الشبيهة بتجربتنا الخاصَّة، وتستلهم من موائدنا لتعودَ محمَّلةً بالمعنى.
الطعام في السينما ليس متعةً عابرة، بل خطابٌ كامل... ومن يُحسن قراءته، يفكُّ شيفرة الذات.
الهوامش:
زياد عساف، المفجوع.. دراما الطعام في السينما العربية، صحيفة الرأي، 13/7/2020
Poole, Gaye. A Consuming Interest: Food Codes in Australian Drama. University of Queensland, 1999
Weiss, Haley. "Why Movie Theater Food Hits So Hard." Time Magazine, March 14, 2024
Habermas, Jürgen. The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a Category of Bourgeois Society. Translated by Thomas Burger with the assistance of Frederick Lawrence, MIT Press, 1989
أفلام ضد الريجيم - مشاهد الأكل في السينما المصرية، قناة غاوي سينما، متوفر في اليوتيوب
مراجعة الأكل في السينما المصرية، قناة المراجعة النهائية، متوفرة في السينما