مؤسَّساتٌ تبتلع شخوصَها: من «وديعة» دوستويفسكي إلى بريسون وماني كاول

May 21, 2025

تعدُّ عمليَّة نقل الأدب إلى السينما عمليَّةً معقَّدةً وإشكاليَّةً جدًا، لأسبابٍ كثيرة، أخطرها هو التحدِّي المفروض على صانعِ العمل فور إعلانه نقلَ روايةٍ إلى السينما، وكمُّ التوقعات التي تثقل كاهله، إلى جانب الخطورة في كون تلك العملية " فضَّاحة" لصانعها، فهي تعبِّر أوَّلًا عن أيديولوجيَّته، ومن ثمَّ عن مدى وعيه باختلافِ الوسيط السينمائي عن الأدبي ومدى فهمه للحكاية وشخوصها، لذلك فعددٌ قليل جدًا هم من نجحوا في ذلك الأمر على مدار تاريخ السينما، مقابل عددٍ مهولٍ ممَّن فشلوا في الاقتباس. وعند ذكر دوستويفسكي عملاقُ الأدب الروسي، نجدُ أنَّ كثيرًا من مخرجي السينما قد تهيَّبوا اقتباس رواياته، على رأسهم المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي نفسه، الذي صرح في حوارٍ له بأنَّه تمنَّى طوال مسيرته لو استطاع عمل فيلمٍ مقتبسٍ من روايات دوستويفسكي لكنَّه عدَّ الأمر شبه مستحيل، بحيثُ صرَّح قائلًا: «مخاطرةٌ لا أقدر عليها، الأسهل بالنسبة لي هو عمل فيلمٍ عنه»؛ رغم ذلك نجد عددًا لا بأس به من الأفلام التي اقتبست روايات دوستويفسكي.

على رأس المخرجين الذين اقتبسوا من أعمال دوستويفسكي نجد روبير بريسون، الأب الروحي للسينما الفرنسيَّة، كما وصفه روَّاد الموجة الفرنسيَّة الجديدة. هذا الأخير اقتبسَ عملين من أعمال دوستويفسكي وهما: نوفيلا «الوديعة» [والفيلم المقتبس منها حمل عنوان «امرأةٌ وديعة» (A Gentle Woman - 1969)]، ورواية «الليالي البيضاء» [والفيلم المقتبس منها حمل عنوان «أربع ليالٍ لحالِم» (Four Nights of a Dreamer - 1971)]، وكذلك استوحى بعض شخصيَّات أفلامه من شخصيَّاتٍ في روايات دوستويفسكي [كما في فيلمه «النشَّال» (Pickpocket - 1959)، إذ استوحى بعض ملامح شخصيَّة ميشيل من شخصيَّة راسكولنيكوف في رواية «الجريمة والعقاب»].

في فيلمه «امرأةٌ وديعة»، ترد منذ تتر البداية إشارة إلى أنَّ العمل مقتبسٌ عن نوفيلا «الوديعة». يبدأ الفيلم بانتحارِ الشابَّة "إيلي" من شرفة بيتها، ويقابَل انتحارها ببرودٍ كبيرٍ من قبَل زوجها "لوك" تاجر التحف، فيستعين بريسون بتقنيَّة الفلاش باك على مدار الفيلم ليحكي من خلالها عن تاريخ علاقة الزوجين في الماضي، لنستكشف معه شيئًا فشيئًا كيف انتهى المطاف بتلك المرأة إلى الانتحار.

وكعادته، يبدأ بريسون فيلمه مُبتعدًا عن مسار الرواية الأصليَّة، فالبداية التي يستهل بها فيلمه هي مجرَّد إشارةٍ بسيطةٍ عابرة في نهاية رواية دوستويفسكي. ففي النصِّ الأصلي، وبعد موت بطل الرواية فاسيلي بعام، يصادف أحد أصدقائه خطيبته السابقة، ليزا، وهي متزوجة من رجل آخر. وما إن يذكر اسم فاسيلي، حتى تنهار بالبكاء.

من هنا بدأ بريسون سرد حكايته، بخيطِ العلاقة المتوتِّرة التي ظهرت سريعًا في نهاية الرواية، بين امرأةٍ فقدت حبيبها وأُجبِرت على الزواج بآخر من الطبقة البرجوازيَّة، بينما هي مستغرقةٌ تمامًا في حزنها، وهو ما دفعها لتنهار في ثوانٍ معدودة.

و«الوديعة» هي روايةٌ قصيرةٌ صدرت لدوستويفسكي في مرحلةٍ متأخِّرةٍ من حياته، تحديدًا عام 1876 أي قبلَ وفاته بحوالي خمس سنوات. تدور القصة حول فاسيلي الذي خطب لتوِّه فتاةً أحبَّها لفترةٍ طويلةٍ اسمها ليزا، ورغم سعادته الكبيرة بخطبتها إلا أنه يغرق تدريجيًّا في كآبةٍ عميقةٍ تقوده إلى الجنون، نتيجة شعوره بالتقصير في عمله، بينما يحاول صديقه أرخيبوف مساعدته.

نجد أنَّ المشترك بين شخصيَّة فاسيلي وغيره من شخصيات دوستويفسكي هو الهشاشة الإنسانيَّة الظاهرة والحساسيَّة الشديدة التي ميَّزت أبطاله وجعلتهم أكثر عرضةً للعصابِ والهذيان، كما تعدُّ شخصيَّة فاسيلي، من خلال خوفها الكبير من التقصير في عملها أمام رؤسائها، امتدادًا لأبطال آخرين في الأدب الروسي، على غرار بطل تشيخوف في قصَّة «وفاة موظَّف» وبطل جوجول في قصَّة «المعطف». والمشترك بين هؤلاء جميعًا هو كونهم ضحايا بصفتهم موظَّفين، ومجرَّد تُروسٍ ضمن مؤسَّساتٍ بيروقراطيَّةٍ أدَّت إلى هلاكهم تدريجيًّا.

بدا بريسون واعيًا بهذا البعد أثناء محاكاته لرواية دوستويفسكي، فتجاهل تمامًا شخصيَّة فاسيلي رغم كونه البطل الرئيسي، واهتم برصدِ مصير الفتاة ليزا، التي تعدُّ معاناتها امتدادًا لمعاناة فاسيلي. لذلك نرى ذلك المصير المشؤوم لبطلة الفيلم إيلي في البداية، بينما اهتمَّ بريسون بخلفيَّة زوجها وعمله، هنا يظهر وعيٌ بجوهر الرواية كعادة بريسون في اقتباس الأدب، فالعدوُّ واحدٌ وليس شخصًا، بل هو مؤسَّسةٌ تبتلعُ شخوصَها وتودي بهم إلى الهلاك، وهو ما يفسِّر توتُّر العلاقة بين إيلي وزوجها من البداية، كونها قائمةً في الأساس على الاستِلاب.

يتجلَّى ذلك في اللقاء الأول بين إيلي ولوك، حيث تذهب الأولى لبيع ممتلكاتها في محلِّ التحف، وهناك تقابلُ لوك. وبعد مساومةٍ يوافقُ الأخير على شراءِ تمثال المسيح، في الوقت نفسه يدور بينهما حوارٌ حول أبياتٍ شعريَّةٍ من «فاوست» على لسان الشيطان "مفيستوفيليس". الإشارة هنا واضحة: إيلي تبيُع تمثال المسيح للوك أثناء تلاوتهما أبياتٍ من فاوست، وهو ما يعدُّ بمثابة "تنبُّؤ" (Foreshadowing) لمصير تلكَ العلاقة، التي تبدأ ببيع إيلي روحها مجازيًّا - عبر مقايضة تمثال المسيح بالمال - وكأنَّها شيءٌ قد امتلكه لوك بمجرَّد قبولها بيع التمثال. واعتبارًا من تلك اللحظة يبدأ لوك بملاحقتها، لينتهي الأمر بزواجه منها وعيشها في تعاسةٍ أبديَّةٍ نتيجة تملُّكه وحبِّه الأناني لها.

هنا يكون لوك بمثابةِ امتدادٍ لتلك المؤسسات، وتكون العلاقة بين إيلي ولوك هي نفسها علاقة الفرد بالمؤسَّسة، بمنظومةِ الحداثة ككل، وهو ما اهتمَّ المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني بالإشارة إليه في ثلاثيَّته عن الحداثة: «المغامرة» (The Adventure - 1960) و«الليل» (The Night - 1961) و«الخسوف» (The Eclipse - 1962)، قبل فيلم بريسون بعدة سنوات، برصده علاقاتٍ مشوَّهةٍ تنتهي بالضياعِ والدمار.

على خطى بريسون بعد حوالي عشرين عامًا، يقتبس المخرج الهندي ماني كاول الرواية نفسها في فيلمه «النظرة» (Nazar - 1991)، ويعدُّ ماني كاول واحدًا من رواد السينما الموازية في الهند، بجانب ريتويك غاتاك، مرينال سين، وأشهرهم بالطبع ساتياجيت راي، والذين اهتموا بتقديم موضوعاتٍ سينمائيَّةٍ وأساليبَ مختلفةٍ عن السائد في الأفلام الهنديَّة التجارية، ولذلك سار روَّادها على نفس النهج الذي سارت عليه الواقعيَّة الإيطالية، فكان الهمُّ المشترك بين روَّادها هو التعبير عن واقع الهند السياسيِّ والمجتمعيِّ وما به من فقرٍ وفساد.

بالنسبة لي، لم يكن الغريب في فيلم كاول ابتعادَه عن رواية دوستويفسكي هو الآخر، بل التشابه الكبير - حد التطابق - مع فيلم بريسون، التشابه في الشخصيَّات، في الحبكة وحتى في بعض المشاهد والجمل الحواريَّة. وبالعودة لحواراتِ كاول ولقاءاته الصحفيَّة وجدت له هذا التصريح في حوارٍ له مع أودايان فاجبيي، فقمتُ بترجمته للعربيَّة:

«إنَّ الطريقة التي يرتبط بها بريسون بسيزان، تجعلني أشعر أنَّني مرتبطٌ بماتيس، وخاصَّة في فيلمي «النظرة». وكما كان ماتيس يكنُّ احترامًا كبيرًا لسيزان - حتَّى أنَّه اشترى إحدى لوحاته التي ظلت معلَّقةً في منزله لمدَّة خمسةٍ وثلاثين عامًا - فإنَّني أحترم بريسون على النحو ذاته. ومن الصعب جدًّا تحديد أيِّ صلةٍ مباشرةٍ بين سيزان وماتيس، باستثناء بعض اللوحات القليلة لهما. لقد كانا شخصَين مختلفين تمامًا، ولكن كان هناك ارتباطٌ عميقٌ بينهما. كان نهجُ ماتيس يرتكزُ على الشكل؛ فقد كان يصل إلى الشكل مباشرة، من دون أن يُنشئه تدريجيًا. وقد تأثَّر كثيرًا باللوحات الصينيَّة في هذا الصدد، حيث كان الشكلُ يُخلق بضربةٍ واحدة. لم تكن هناك حاجةٌ إلى البناء. وكما اتَّضح، كانت المبادئ التي تعلَّمها من سيزان هي التي أنقذته في النهاية، لأنَّ معاصريه من جماعة "الوحشيين" مثل أندريه ديرين قد انتهى أمرهم. لقد كتب بنفسه أنَّه في النهاية أصبح فوضويًّا إلى الحدِّ الذي جعله ينسى استخدامَ اللون. لم يكن بوسعه أن يفهم كيفيَّة استخدام الألوان في اللوحة! لذا يمكننا القول إنَّ الارتباط الداخلي بين ماتيس وسيزان أنقذه في النهاية. لذلك أدركُ أنَّ لديَّ صلةٌ واحدةٌ مع بريسون، وكذلك مع ريتويك غاتاك. ولكن هناك فرقٌ كبيرٌ بين الاثنين. إنَّه لأمرٌ غريب... انجذابي لهذين الرجلين المتناقضين، حتى مع استمراري في محاولةِ إيجاد وترٍ حسَّاسٍ بينهما. لقد استوعبت الرجلين تمامًا. كلاهما بداخلي».

الآن بدا واضحًا لماذا انتهج كاول نهج بريسون نفسه، وسار على خطاه دونَ أن يحيد، باستثناء أمرٍ واحدٍ مختلف - وهو ما ينقلنا إلى بعدٍ آخر من التأويل وينصف فيلمَ كاول قليلًا بعيدًا عن أسلوبيَّته وتكنيكه المختلف عن بريسون - وهو الخلفيَّة العسكريَّة للزوج في الفيلم. هذه الإشارة العابرة في الفيلم تحملُ دلالةً شديدةَ الارتباط بالمجتمعِ الهنديِّ وخصوصيَّته الثقافيَّة؛ إذ تظهرُ الخلفيَّة العسكريَّة للزوج قبل انتقاله للعمل في بيع التحف والرهونات، ما يشير إلى امتدادِ تلك النزعة السلطويَّة الكامنة فيه، وتحوُّرها إلى شكلٍ آخر بدلًا من زوالها على نحوٍ كلِّي، ممَّا يجعل قمعه مستمرًا ولكن بصورة مقننة. هذا ما يفسِّرُ بدوره انعزال الزوجة الدائم داخل بيتها في مومباي، ومراقبتها للطبيعة من بعيد، من فوق ناطحة سحاب. وهكذا تجسِّدُ هذه العلاقة وضعَ المرأة الهندية في تلك الفترة من تاريخ الهند، كما تشير لخطورة الفوارق الطبقيَّة بين شخوص المجتمع وأثر ذلك على الطبقات الفقيرة التي تُستغل وتُستلب من قِبل المؤسسات، حتى تنتهي بالموت.

ينهي كاول فيلمه نهايةً شاعريَّة، حين تقفُ الزوجة بضع لحظاتٍ في الهواء قبل سقوطها على الأرض جثَّةً هامدة، فيبدو الموت نفسه كنوعٍ من التحرُّر والخلاص مقارنةً بالحياة تحت رحمة تلك السلطة. إنَّها رؤيةٌ تنطوي على قدرٍ من التفاؤل، رغمَ كلِّ شيء.

الهوامش:

اشترك في النشرة البريدية

احصل على أحدث المقالات والأخبار مباشرة في بريدك الإلكتروني
تم إضافتك ضمن النشرة البريدية, شكرًا لك!
نعتذر حدث خطأ, الرجاء المحاولة مرةً أخرى